نهاد المشنوق يروي للمرة الأولى قصة إبعاده من لبنان عام 1998
جريدة المستقبل، عمرحرقوص
المشنوق:حكومة”مشتبه بهم”.. تعادل قرار التمديد
أول غيث “الكيد السياسي” ضد الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان مع مستشاره الإعلامي في ذلك الحين النائب الحالي نهاد المشنوق. الرجل الذي اعتبر الذراع الإعلامية والسياسية والرجل الأقرب إلى رفيق الحريري في المرحلة التي كان النظام الأمني يحضر خريطة الإطاحة السياسية به. كان أكثر العالمين بأسرار تلك المرحلة وأولى ضحاياها. فمرحلة الأعوام الممتدة من 1995 حتى 1998 وانتخاب الرئيس إميل لحود، كان المشنوق فيها أول”المطلوبين”.. من النظام الأمني المشترك.
قرار بـ”الإعدام” السياسي اتخذ في دمشق ونفّذ في بيروت، بقوة أمر واقع الوصاية وبقرار التخلص من رفيق الحريري عبر “قص أجنحته”. البداية كانت مع أحد رموز تلك المرحلة والضحية الأساسية فيها. نفّذ القرار بعد طلب من العماد حكمت الشهابي بإرسال المشنوق إلى خارج لبنان في “مهمة” لإبعاده نهائياً عن فريق الرئيس الشهيد.
يؤكد النائب نهاد المشنوق أن بداية الأزمة بين رفيق الحريري والنظام السوري ممثلاً بحليفه إميل لحود بدأت العام 1995في مسبح “الحمام العسكري”، حيث كان يعقد لحود لقاءاته السياسية. في ذلك الحين أكد لحود للمشنوق الذي كان يلتقيه من وقت إلى آخر – أنه خيار بشار الأسد الاستراتيجي في لبنان. ولذلك كانت التحضيرات تسير لتسليم لحود رئاسة الجمهورية اللبنانية في الوقت الذي كان يتم فيه تحضير بشار الأسد لوراثة أبيه في سوريا.
المشكلة مع المشنوق بدأت حين طلب الحريري من المقربين منه عدم التعاطي مع النظام السوري وأجهزته إلا عبره. هذا الأمر أزعج “سيبة” الأمن الثلاثية باعتبار أن أي ضغوط أو حصار قد يحاولون القيام بها على الحريري لن تنجح من دون الدخول إلى قلب فريقه، ولذلك طالبوا طويلاً بضمّ المشنوق إلى المجموعة التي يلتقون بها، لكن الحريري كان يتحجج دائماً بالقول إن “الملف السوري أريده بيدي فقط”. النظام الأمني المشترك اتهم المشنوق بالعمالة لإسرائيل. غادر لبنان. ورغم ذلك استمرت الحملة على رفيق الحريري.
في هذا اللقاء يكشف المشنوق للمرة الأولى القصة الكاملة لإبعاده من لبنان. أسرار وخبايا يبوح بها بعد سنوات طويلة من الحملات المستمرة منذ العام 1998 وصولاً إلى يومنا هذا.
يعود النائب المشنوق في الذاكرة إلى العام 1997 عندما طلب العماد حكمت الشهابي من الرئيس الشهيد إرساله في “مهمة طويلة” الى الخارج باعتباره رأس حربة إعلامية وسياسية: “في تلك المرحلة كان الرئيس الحريري يقول إن “الرسالة التي ينقلها نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام عن الرئيس حافظ الأسد، هي للتفاوض، أما الرسالة التي ترد من العماد الشهابي فهي للتنفيذ، لكل منهما دور”. ويلفت إلى أنهم كانوا يختارون لكل مرحلة عنواناً محدداً للهجوم على الرئيس الحريري: “مرة بسبب اطلالة دولية قام بها، وأخرى بسبب ملف لحليف لهم يريدون تمريره، ومرة ثالثة بسبب تعيين موظف في أحد المراكز”. يقول المشنوق “في إحدى المراحل طرح موضوع تعيين رئيس للجامعة اللبنانية، حاولوا فرض مرشحهم ولكن الرئيس الحريري لم يوافق، لأنه كان يطمح لإعادة الدور الرئيسي للجامعة اللبنانية في حياة الطلاب اللبنانيين، وأصر يومها على أن الجامعة اللبنانية هي الجواب الوحيد على منطق الحرب الأهلية وهي الملاذ لجميع اللبنانيين من كل طوائفهم في مبنى جامعي موحد”. يضيف المشنوق “يومها قال رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان اللواء غازي كنعان للحريري، أنت تخالف قراراً يتعلق بالأمن القومي السوري، فرد الحريري: “بسيطة، أنا مستعد أن آتي برئيس للجامعة من دمشق اذا كان هذا الامر يتعلق بأمن سوريا، ولكن لا أريد تعيين هذا الشخص، عينوه وزيراً ولكن لن أرضى أن يكون هذا الشخص رئيساً للجامعة”. الحريري رفض بداية الافصاح عن مشكلتي أما كيف علم نهاد المشنوق بقرار السوريين ابعاده من لبنان فقصة أخرى: “لم يكن الرئيس الحريري يبوح بما عنده بصورة مباشرة في مثل هذه الحالات. بل كان يبدو من ملامح وجهه ان هناك شيئاً غير طبيعي يحدث.. كان يظهر عليه الحزن والإرباك، كأن يفقد اساليب التعاطي العادية معي، أو يتعاطى بعطف شديد غير مبرر، فهمت حينها ان هناك شيئاً يحصل. ذات يوم كنت برفقته إلى المطار، فقلت له من الواضح ان هناك مشكلة مع سوريا، فرد الحريري أن هذا كلام فارغ لا قيمة له، فعدت وكررت، هناك شيء ما يحصل وأنا سأزور غازي كنعان، فقال لي إفعل ما تريد”، وسافر. ذهب المشنوق لزيارة كنعان وسأله “ما القصة؟” وسارع إلى القول “أنا لا أتعاطى معكم لسبب رئيسي، أولاً لأن الرئيس الحريري لا يحبّذ ذلك، وهو حريص على ان يكون الملف اللبناني – السوري بيده، وثانياً اذا وجّهت إليّ سؤالاً يتعلق بالرئيس الحريري فأنا أمام خيارين: إما ان اقول لكم الحقيقة وهذا ما أعتبره تجاوزاً للرئيس الحريري بغير معرفته ومن دون موافقته، والخيار الثاني ان لا اقول الحقيقة واكون بذلك كاذباً، وهذا ما لن اقبل به، فأنا لن اقبل لا بالخيار الأول ولا بالثاني، لذلك لا نفع من إقامة علاقة بي، لأن المسألة لا تنجح الا بموافقة الحريري وبتكليف منه، واذا كانت هذه مشكلة العماد الشهابي، فأنا لا استطيع حلّها، واذا كانت لديه مشكلة ثانية فأريد ان اعرفها”. كان كنعان متجاوباً في ذلك الحين، وقال “الله يسامح العماد حكمت هو لا يعرف الأرض وطبيعة الأمور في لبنان ومن الممكن ان يكون تسرّع في هذا الموضوع. اترك المسألة عليّ لأعالجها، لكن اريد منك ان تقوم بزيارة لفلان”، فسأله عن سبب الزيارة فقال كنعان “كرمى لي أنا”، فرد المشنوق “كرمالك أزوره، لكن ليس هناك أي شيء بيني وبينه، ولا علاقة بيننا، لاعداوة ولا صداقة”. ” ذهبت الى ذلك الشخص الذي لا أريد تسميته، وتناقشت معه. لاحظت بوضوح ان هذا الشخص قد حمّلني مسؤوليات عن خدمات لم تحقق لصالحه لا أعرف بحدوثها”. وبرأي المشنوق أن كل ذلك كان عبارة عن “مقدمة لأمر ما بدأ يحضّر في سوريا ضد الحريري، لأن بشار الأسد بدأ في ذلك الحين يتسلم السلطة، وبدأوا بوضع صوره في المراكز العسكرية السورية إلى جانب صور الرئيس السوري حافظ الأسد، باستثناء مكتب كنعان”. يومها حل كنعان المشكلة، ولكن المشنوق لم يكن مرتاحاً للوضع، مع أن الرئيس الحريري نصحه أن لا يهتم لما يحدث. “لكن في بدايات العام 1998 ظهر الارتباك في علاقة الرئيس الحريري بي. انتقل إلى السرايا الكبيرة، وأنا لم أنتقل معه. بقيت في مكتبي في السرايا القديمة. شعرت أن هناك مشكلة، ولكن الرئيس الحريري كان لا يتكلم. يومها كتبت استقالتي إحساساً مني بأن الأمور لم تعد كما كانت. غير أن الثلاثي الصديق فيصل سلمان ومحمد ووليد شقير ردعوني عن تقديم الاستقالة”.
التهمة: التعامل مع اسرائيل
“سافرنا في ايلول للمشاركة في الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك. كان واضحاً ان ثمة تغييراً في تصرفاته. يومها قررت أن ابقى في الفندق وعدم الذهاب معه الى مواعيده. بعد أيام سافر الى واشنطن. اتصلت بوئام وهاب في بيروت قريب من السوريين فقال لي إنه التقى غازي كنعان وقال له إن لديهم تقريراً يقول إن لي علاقة بالإسرائيليين. قلت له ما العمل؟ فقال انا رأيي أنها “هوبرة” ما بيطلع منها شيء. سكتّ يومها ولم اتحدث مع الرئيس الحريري في الموضوع وهو لم يتطرق إليه إلى أن انتهت الزيارة بعد يومين. صعدت إلى الطائرة من دون أن أبدي أي اهتمام بالموضوع. قرأت كتاباً ونمت. بعد قليل أيقظوني ليبلغوني أن الرئيس يريدني. ذهبت إليه في غرفة نومه داخل الطائرة فقال لي: السوريون قصتهم كذا وكذا وهم فبركوا قصة مفادها أن لك علاقة بالإسرائيليين. قلت له “لدي علم بذلك منذ يومين أو ثلاثة. فقال: بتنحل بتنحل. قلت: لا ما بتنحل. فسأل لماذا؟ قلت: لأن الحق عليك؟. فقال: كيف الحق عليّ. قلت: أولاً لأنك قبلت مبدأ المناقشة في هذا الموضوع، وثانياً لأنك منعتني كل هذا الوقت من التحدث مع السوريين وهم يقولون اننا نريد ان نتحدث مع فلان بما في ذلك بشار الأسد الذي رفضت أنت الاجتماع إليه رغم مطالبة الرئيس السوري لك تلميحاً ومباشرة. هذه نتيجة طبيعية لرفضك”. عدنا الى باريس، فنشرت صحيفة “الكفاح العربي” خبراً مفاده أن مستشاراً لمرجع حكومي كبير تبلغ رسالة تمنعه من العودة الى بيروت. قررت العودة فوراً إلى لبنان تاركاً الرئيس الحريري في باريس، وبدأت الأخبار تكبر وتشيع اكثر فأكثر، وبدأ الناس يتخوفون من التواصل معي، ما عدا قلة استمروا بعلاقتهم بي أوّلهم الزميل نبيل ناصر رحمه الله. تصرفت بكل برودة. كل يوم اذهب من بيتي الى مكتبي في “سرايا الصنائع”، استقبل الأصحاب القلائل، ومن بعيد أراقب ما يجري في السرايا الكبيرة. أزور قريطم اذا طلبني الرئيس واذا كان هناك اي ضرورة للتواصل أكتب له رسالة وأسلمها إلى وسام الحسن. التهمة يومها كانت أن المشنوق يتصل بالإسرائيليين عبر صحافي فرنسي وعبر القيادي الفلسطيني جبريل الرجوب”. اتصل به نائب رئيس الحكومة في ذلك الحين ميشال المر: “قلت له: الذي ركّب التهمة حمار، لأنني لا اعرف اللغة الفرنسية فكيف أعمل مع صحافيين فرنسيين. ومن يدخل الى السرايا ويزورني يجب ان يكون اسمه مسجلاً على مدخل السرايا، واذا راجعنا السجلات يظهر ان ما من صحافي فرنسي زارني، ثم انا اعرف كل قيادات منظمة التحرير الفلسطينية الذين تواجدوا في بيروت خلال السبعينيات، ومن ركّب التهمة اختار قيادياً فلسطينياً لم يزر بيروت في كل حياته، وهو كان مسجوناً لدى الاحتلال الإسرائيلي، وبعد “اتفاق اوسلو” خرج من السجن، فانا لا اعرفه حتى بالصورة”. قال المرّ: “اعرف وانا دافعت عنك”. ثم ذهبنا معاً المرّ وأنا إلى الرئيس الحريري، فقال له: ماذا يا أبو الياس، فأسهب المر في الحديث عني، فقال له الحريري: أعرف”.
أترك البلد إذا تراجعوا عن التهمة
عرف المشنوق ان قصة الاتهام لن تمر بسهولة، فقد حدثت أشياء غريبة بعد انتخاب لحود، حيث حدد الرئيس الحريري موعداً في الحمام العسكري بعد انتخابه رئيساً للجمهورية عند الساعة السادسة صباحاً: “أرسل إليّ الرئيس الحريري مع الزميل حكمت ابو زيد (كان مستشاراً في رئاسة الحكومة) نص الخبر الذي سيصدره عن الاجتماع (مع لحود) قرأت الخبر فلاحظت أن عبارة ورد فيها أن اللقاء كان فيه “تطابق في وجهات النظر”، فطلبت شطب هذه الفقرة واستبدالها بعبارة أخرى عامة، فاتصل بي الحريري قائلاً: ما القصة قلت: من الخلاف الكبير الى التطابق؟ قال: أنا اريدها بهذا الشكل، فقلت له كما تريد”. بعض الناس نقلوا إلى المشنوق رسائل تهديد، وبقي في مكتبه يزاول عمله. حاول الحفاظ على برودة أعصابه، واكتشف في ذلك الوقت انهم طلبوا من عدد من الصحافيين ان يكتبوا عنه شائعات واخباراً كاذبة: “لكنهم لم يوفقوا بذلك، فالكلام كبير ولا يمر في أي صحيفة، فكنت زميلاً وصديقاً لعدد كبير من الصحافيين. نشر حسب ما أتذكر في ذلك الوقت خبر في صحيفة “القدس العربي” في لندن يهاجمني، فهمت أن القصة ليس لها حل، فذهبت الى الرئيس وقلت: يريدونني ان اترك العمل معك والرحيل من البلد، أما أنا فمع هذه التهمة سأبقى هنا، فليتراجعوا عن التهمة لأترك البلد. ليس هناك من حلّ آخر، طلبت منه أن يعرض عليهم الأمر وكلي ثقة بأنهم سيقبلون به. سألني لماذا؟ فقلت لأنهم يريدونني أن أترك العمل معك”. أرسل الرئيس الحريري المدير العام لقوى الأمن الداخلي آنذاك اللواء رفيق الحسن، فالتقى غازي كنعان وقال له هذا الرجل سيترك لبنان لكن عليكم ان تجدوا صيغة للتراجع عن التهمة. فقال: لا يوجد لدينا أي مانع، ضعوا الصيغة المناسبة لذلك. عاد الحسن وأخبره بما جرى، فقلت: الصيغة الوحيدة من دون افتعال هي أن يستقبلوني بشكل رسمي ومعلن، فوافق الرئيس الحريري”. في الأول من تشرين الأول عام 1998 ذهب الرئيس الحريري إلى شتورة ومعه المشنوق لترجمة الخطوة الأولى من الاخراج “كان معنا في السيارة ابنا الرئيس هند وفهد، فقال لي: هل تلتقي كنعان قبل أن ألتقيه أم بعد ذلك، فقلت: لا، أفضل أن ألتقيه بعد لقائك به”. انتظر المشنوق في الفندق مع هند وفهد. حضر مندوب صحافي وأخبره أن ايلي الفرزلي يعقد مؤتمراً صحافياً في احدى قاعات الفندق ليعلن نظرية مفادها ان لرئيس الجمهورية الحق في الاجتهاد في احتساب عدد النواب لاختيار رئيس الحكومة. بعدها ارسل الرئيس الحريري بطلب المشنوق فانضم الى اللقاء في مكتب كنعان الذي قال: “نريد أن ننسى هذه القصة. فقلت: ما الذي ننساه، إسمع يا حضرة اللواء، هذه القصة لا استطيع أن أنساها فليس لدي ما أورّثه لأولادي سوى سمعتي وكرامتي. أصرّ كنعان: أنا أقول أن ننساها، فقلت: انا لن انساها”. تدخل الرئيس الحريري الذي كان حاضراً وقال: انا منعت نهاد وغيره من التعاطي معكم، لأن ملف العلاقات اللبنانية السورية أريده عندي. فقال كنعان:هذا لا يمنع ان ننساها، فقلت: لا لن انساها، هذه القصة لا يمكن نسيانها. وكدنا ان نصطدم، فوقف الحريري بيننا. عندما صعدنا الى السيارة قبّلني الحريري على رأسي وقال: والله انك رجّال”. أحنيت رأسي محاولاً تقبيل يده لكنه تمنّع. وصرنا نضحك. في الطريق أخبر المشنوق الحريري قصة مؤتمر الفرزلي، وقال: “لا أرى أن القصة ستنتهي بينك وبينهم”. إلا أن الحريري أجابه بأنه سيستقيل إذا ما لعبوا بالمادة 53، أي طريقة احتساب النواب في استشارات تسمية رئيس الحكومة. في اليوم التالي ذهب المشنوق الى موعد مع خدام لتنفيذ الخطوة الثانية من الإخراج، وكان قد ظهر انه اصبح خارج الملف اللبناني. سأله خدام: “كيف كانت الجلسة بين كنعان والحريري، فقلت: لا أعرف. قال: قضيتك بسيطة وليس لها أهمية، فقلت: بالعكس لها أهمية كبيرة ولكن على أي حال، نحن الآن نقفل ملفاً ولسنا في صدد فتحه”. على الأثر كتب المشنوق مع أحد الصحافيين السوريين خبر استقباله عند خدام وكنعان، واعتمد في وكالة “سانا” الرسمية. عاد الحريري من الشام وطلب من المشنوق السفر سريعاً من لبنان، “قلت له الى اين سأسافر؟ فقال: يجب ان تسافر ولن تبقى هنا. بعد جدل قلت له: كما تريد. فقال: ستسافر معي الى باريس وتبقى هناك حتى يأتي الفرج”.
قال لي رستم غزالي: سأرسل رجالي لإحضارك
لم تنته القصة هنا فقد اتصل (النائب) نادر سكر بالمشنوق صبيحة يوم السفر في الخامس من تشرين الثاني وطلب منه بناء على رغبة كنعان أن يصدر بياناً “بصفتي المستشار السابق للرئيس الحريري أقول فيه انه استقبلني وقوفاً لمدة دقيقتين بعدما انتظرت لمدة ساعة في الخارج. فقلت لسكر: “بأي صفة تتحدث معي؟” فقال: أصدر هذا البيان، قلت: أنت أصدره طالما انك واثق من النص الى هذه الدرجة، وتابعت، أنت أمام حلين: إما أن تصدره أنت أو أن تقول للرئيس الحريري أن يصدره لأنني لن أصدر أي بيان”. بعدها بدقائق اتصل بي رستم غزالي وقال “ما هذا الكلام الذي أصدرته في الصحف، أنت واحد كذاب، تصدر بياناً تقول فيه إن اللواء غازي استقبلك وما الى هنالك.” فقلت: “انا لم أصدر هذا الكلام، فهو صدر من وكالة “سانا”، ثانياً أنا اعتقدت أنك شخص عاقل، وبيننا قليل من الود ولو عن بعد، ولكن بما أنه تبين لي أنك لست عاقلاً فالكذاب هو من طلب منك قول هذا الكلام.” فقال: “أنا سأرسل رجالي لاحضارك، فقلت له لا لزوم لذلك، اتصلوا بي وأنا آتيكم، ولكني ذاهب إلى المطار وسأسافر حلّوا عني. وأقفلنا الهاتف”. وصل المشنوق الى قريطم واخبر الرئيس الحريري بما جرى، وسافرا. بعد إقلاع الطائرة بنصف ساعة بدأت الاتصالات ترد من العميد اشرف ريفي الذي كان ضابط الاتصال: “تحدث معي وأخبرني بطلبهم إصدار بيان أقول فيه إن كنعان استقبلني وقوفاً لمدة دقيقتين بعدما انتظرت لمدة ساعة في الخارج، فقلت: انا في الطائرة، لن اصدر بياناً وأنا لا اعمل لديهم، وها هو الرئيس الحريري موجود فتحدثوا معه كي يصدر بياناً بأني لم أعد مستشاره. وأضاف لي ريفي إنهم ابلغوه أن النص جاهز وأرسلوه إلى مدير الوكالة الوطنية. وصلنا الى باريس وبدأت رحلة المنفى حيث أصبح هاتفي هو عنواني (يتبع)
المشنوق: زرت إميل لحود بُعيد جريمة الاغتيال محذراً: دم الحريري لن يرفع عن الأرض إلا بقرار أكبر من لبنان وسوريا
“اتصال”.. نتنياهو
لم تنته القصة هنا بل استكملت من جديد “فقد اصريت ان تبقى عائلتي في بيروت لأنهم إذا ذهبوا معي نكون قد ثبتنا التهمة. يومها تعرّض أولادي صالح وثريا في مدرستهم لعدد من المضايقات من طلاب رفاق لهم وأكثرهم من أبناء وزراء أو ضباط ذلك العهد، ولكنهما كانا شخصين قويين وقادرين على المواجهة. صالح قال لرفاقه ساخراً منهم إن رئيس الوزراء الإسرائيلي يومها بنيامين نتنياهو اتصل عند الصباح بمنزلنا يسأل عني، مستغرباً كيف أن المخابرات الإسرائيلية غبية جداً لأنهم لا يعرفون أني مسافر.
أول تعليق بعد وصول المشنوق إلى باريس جاء على لسان النائب نجاح واكيم في مجلس النواب، قال: “إنني اوقفت في المطار وحققوا معي وأنا أغادر وتدخل الرئيس الحريري لإخراجي، فكتبت بيانا للرد. عرضه الزميل عبدالستاراللاز على الرئيس الحريري، بعدها أغلق المكتب الإعلامي وانقطعت الاتصالات لأشهر بيني وبين الرئيس الحريري.
ذات يوم اتصل بي وكنت أسير في باريس. لدى سماعي صوته صرنا نضحك نحن الاثنين، فقال: ماذا حصل، قلت:صار اللي بدو يصير”.
أما لماذا أبعد نهاد المشنوق؟ فبرأيه أن هناك سببين: “الأول انهم لم يستطيعوا تقبل فكرة ان هناك واحداً في دائرة الرئيس الحريري اللصيقة به ليست لهم صلة به ولا يتعاطى معهم. والسبب الثاني انهم يعتقدون ان وجودي في ذلك الوقت يعرقل صلته بلحود أي يمنع سيطرة لحود وفريق بشار”. أضاف: في باريس التقيت بالنبيل طه ميقاتي في الشارع. تطوّع لمحاولة حل المشكلة. في ذلك الوقت توفي والد الرئيس الحريري فكانت مناسبة لأعود إلى بيروت لتقديم العزاء. تدخل طه مع بشار الأسد ونال الاذن منه ثم من غازي كنعان وجميل السيد وتابع الموضوع وكأنه موضوعه الشخصي وذلك في العام 1999. عدت الى بيروت وذهبت الى قريطم وحدث شيء غير طبيعي حيث كان
هناك حشد كبير يقدم التعازي، وانتقل الاحتفال من تعزية الحريري الى استقبالي، خاصة ابو طارق “يحيى العرب” الذي كانت دموعه سخيّة رحمه الله، نزلت الى القاعة حيث كان الرئيس الياس الهراوي يعزي. حتى مرافقي الرئيس أتوا ليسلموا عليّ. وجدت ان الاحتفالية كبرت وتخوفت من التسبب بالاحراج للرئيس الحريري فتركته وذهبت الى المنزل”.
في اليوم التالي اتصل بي طه ميقاتي وقال لي “ان الشباب (الجهاز الأمني المشترك) يقولون شو مفتكر حالك جايي من الحج، فتحت الاستقبالات. فقلت له ماذا تريد أن نفعل، فقال إبق قليلاً في لبنان وسافر كثيراً”. ذهبت الى الجبل (ضهور الشوير) لأيام عدة هرباً من اتصالات الناس. ظهر على التلفزيون المعلم السياسي الشجاع ميشال المر في مقابلة مع مارسيل غانم، وقال “أنا أكسر على خصومي وأنصر أصحابي”. اتصلت به في منتصف الليل وقلت له من باب المزاح “نيال اللي بخصّك”. سألني “أين انت”، فقلت “أنا في ضهور الشوير”. قال “سآتي لعندك”. قلت “نحن في منتصف الليل، لنترك الأمر للغد”. صرت أسافر لفترة طويلة ومن ثم أعود إلى بيروت وذلك لمدة خمس سنوات بقيت على هذا الحال حتى شعرت انهم نسوا وجودي. في تلك المرحلة مرت العلاقة بالرئيس الحريري بطلعات ونزلات، فأنا مجروح ولم أتعود على وضعي الجديد وهو غير قادر على فعل شيء في ظل الوجود السوري. وضعي الجديد أي علاقتي به وطبيعة العلاقة، كله اختلف. مررنا بفترة صعبة جداً عليّ وعليه وبقيت سنة ونصف السنة لا أتكلم معه، أراه في المناسبات ولا أتحدث معه”. على كلٍ صار عندي الآن مجموعةً متميزةً من الاتهامات، أوّلها الاتهام السوري بأنني عميل للمخابرات الاسرائيلية ثم من حلفاء سوريا في لبنان الذين وصفوني بالوديعة المصرية وبالالتزام بالمخابرات السعودية. وفضلاً عن بعض من في معسكري السياسي الذي اتهمني بالعمل لصالح المخابرات السورية، وأخيراً اتهام وليد جنبلاط الذي لم يجد غير غيرهاردليمان من لجنة التحقيق الدولية ليلصقني به وأنا لا أعرف له صورة
لحود قال لي: أنا الوحيد الذي يرتاح معه بشار
ومن باب الوصف المجازي لتلك المرحلة يرى المشنوق أنها كانت “الفترة التجريبية لبشار الأسد. كان يتدرّب فيها على كيفية تعامله مع الوضعين اللبناني والسوري وكان واضحاً أن لديه حدة شخصية في التعامل مع الوضع على عكس صورته العلنية، التي توحي بأن كلامه دقيق ومهذب ولا يتجاوز الحدود. لكنه في الحقيقة ليس كذلك بل لديه قدرة على الكره ورد الفعل لا حدود لها على عكس الشائع تماما”ً. يتابع: “غازي كنعان اعتبر انه كسر العصا الغليظة التي في يد الرئيس الحريري الذي كان ذكياً أكثر منه لأنه تولى شخصياً العمل الذي كنت أقوم به ولم يوزعه على المقربين منه وخصوصاً في الفترة الأولى. اتخذ قراراً بخوض معركة انتخابات العام 2000 بقوة، والذي خدمه في تلك المرحلة أن سوريا كانت تمر في فترة انتقالية فضلاً عن كمية الأخطاء التي لا تزال تتكرر إلى اليوم. أي بين مرض الوالد وتسلم الابن، فترة سمحت للحريري بالتقدم بقوة في الانتخابات حتى استطاع أن يحقّق نصراً قوياً، لأن النظام السوري لو كان متماسكاً، كما كان في زمن الأسد الأب أو لو أن بشار أمسك بالشكل اللازم كلياً لما كان للانتخابات عام 2000 ان تتم بالطريقة التي حصلت”. يلفت المشنوق إلى أن اميل لحود ومنظومته شركاء رئيسيون في سياسة بشار الأسد: “لحود قال لي عام 1995 أي وقت التمديد للياس الهراوي افعلوا ما تريدون وفي النهاية لن تقنعوا من كلامي”. وبعد 9 جلسات نقاش بيني وبينه في الحمام العسكري ومحاولة تهدئة جموحه، “قال أنا وصلت لموقع قائد الجيش وأنا جالس في بيتي”، قلت له لماذا يا جنرال؟، قال لي “الرئيس الأسد يريد شخصاً يرتاح معه في لبنان، وهو سيسلم الحكم لابنه، والوحيد الذي يرتاح معه ابنه هو أنا”. هناك شراكة استراتيجية ورئيسية، كان المنظر الرئيسي والمنظم لها جميل السيد”.
شيراك عن بشار: ولد دلّوع
عن هذه المرحلة وتشبيهها بالمرحلة الماضية يرى المشنوق أن “ما حصل في الماضي يتكرر الآن. استمر العقل نفسه الذي تحكم بتلك المرحلة، وكل المحاولات الأوروبية والسعودية تحديداً للاحاطة ببشار الأسد وتولي أمره ووجود الملك عبدالله بن عبد العزيز في دمشق بعد دفن الرئيس الأب وقيام الأمير بندر بن سلطان بتسهيل اتصالات بشار برئيس حكومة بريطانيا طوني بلير والرئيس الفرنسي جاك شيراك والرئيس الأميركي جورج بوش الذي كان مستاء جداً من اتصال بشار به على ما نقل إلي مسؤول سعودي كبير، حيث اعتبر الأسد انه يستطيع ان يعطيه دروساً في السياسة وذلك في بدايات العام 2000. كان واضحاً ان الأسد الأب حضّر ورتب لابنه كل شيء سواء ما يتعلق بالجيش أو بالحزب أو بمجلس الشعب، والسعوديون دخلوا على الموضوع اعتقاداً منهم ان ذلك استمرار للعهد السابق وتبين مع الوقت والتجربة عكس ذلك، أما شيراك فقد كان يصف بشار الأسد بالولد الدلوع”. إذا نظرنا الى المشهد الأوروبي والأميركي واللبناني كان واضحاً ان قراءة بشار الأسد للوضع بلبنان وعلاقته به هي قراءة لا تقبل الاجتهاد ولا تحتمل التفسير. وفي النهاية ما يقرره يريده ان يحصل في لبنان من دون جدل. المشكلة الحقيقية هي انه كان هناك الكثير من الصعود والنزول والشخصانية في قراراته”. يقول عن طبيعة القيادة السورية في تلك المرحلة ان شخصاً معروفاً من طرابلس على علاقة حميمة بكل القيادة السورية روى له أنه أيام حافظ الأسد كان يذهب الى الشام ويأتي بالتعليمة. بعد العودة يمرّ على غازي كنعان ويقول له هناك كلام “من فوق”، ثم ينزل عند اميل لحود أو جميل السيد ثم الى رستم غزالي فتصل التعليمة لكل المعنيين بها من دون تغيير. أما في أيام الابن فصارت تعليمة بشار الاسد تتناقص على الطريق، فحين يصل إلى عنجر ويلتقي غزالي يقول له “خبروني ولكن عدّلوا النقطة الفلانية”. يذهب إلى اميل لحود الذي يقول له “أخبروني، لكن هناك نقطة اضافية عدلوها”، ثم يصل عند جميل السيد فيقول له “أخبروني ولكنهم عدلوا النقطة الثالثة”، ليصل عند ضابط آخر فيقول له “صحيح، ولكنهم غّيروا رأيهم وأجّلوا الموضوع كله”. هذا هو الفرق بين الأداء السياسي للأب والأداء السياسي للابن.
جلسة “النهار”
يعتبر المشنوق أن العقل السياسي نفسه هو الذي عالج الفترة الأصعب التي بدأت بعد انتخابات العام 2000 وصولاً الى الاصطدام السياسي بين الحريري وبشار الأسد وصولاً إلى مرحلة القرار 1559 والتي تصرّف تجاهها الأسد بحدة وشدة وسوء تقويم للوضع، وعدم قدرة على الاحاطة بكل التغييرات التي تحصل في لبنان وفي المنطقة وفي سوريا، والتي وصلت للصدام الشهير الذي حصل بين الأسد والحريري في جلسة 2 كانون الأول 2003 والتي سميت جلسة “النهار” التي حضرها كنعان وغزالي وخلوف، وطلب فيها من الرئيس الحريري بيع أسهمه في صحيفة “النهار” لرفع الغطاء عنها. يعتبر المشنوق أن التعبير المجازي عن هذه السياسة في تلك الجلسة أنها جلسة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين أي بلدين. يجلس رئيس حكومة بحضور 3 ضباط من جهاز المخابرات، ليلقنوه محاضرة في الوطنية بحضور رئيس دولتهم. صورة هذا الاجتماع تظهر العقل الذي تعاطى بمصير منطقة الشرق الأوسط، لأنه ولا في اي مكان يتجرّأ رئيس دولة بالاتيان بثلاثة ضباط مخابرات إلى جلسة مع رئيس حكومة دولة اخرى، حتى في سوريا القوية أكثر من يومها.
بعد العام ألفين وحتى كانون الأول 2003 كان الوضع يتطور سلبياً، وكان من الواضح ان الرئيس الأسد غير قادر على التعامل مع الوقائع القديمة والحديثة. أكثر ما يعبر عن تلك المرحلة عندما “قال له الحريري انا أعرف سوريا منذ 30 سنة، فرد الاسد وأنا أعرفك منذ 3 سنوات”. فالأسد الإبن قرر ان يبدأ تاريخ سوريا به، هذا العقل ذاته استمر بمواجهة كل الأحداث في لبنان باعتبار انه قادر على كتابة التاريخ من جديد وقادر على تجاهل التغيير الحاصل في لبنان وسوريا بالمواجهة الحادة والقسوة والرعونة: “أسلوب الاسد الاب كان مختلفاً، يبدأ بتمرير الناس بدرجات من المعلومات والمواقف حتى يصلوا إليه: من كنعان، الى خدام. أما الأسد الابن فيبدأ بنفسه وهذا يعبّر عن طريقته بإدارة الوضع في لبنان باعتباره بؤرة أمنية وليس دولة لها علاقة بالعمل السياسي ومعترف بها ولها سيادة وموقع. كان يعتبر أن لديه القدرة على اعطاء دروس بالإدارة السياسية في المنطقة لرؤساء دول منذ عشرات السنين”. وحول عودة اليد السورية على لبنان في هذه المرحلة يعتبر أن بشار الاسد “لم يستعد مكانته القديمة، لكنه ما زال يتصرف بنفس العقل الذي قرر التهديد به عام 2004 والذي هو عقل المواجهة باعتبار ان كل شيء مؤامرة، وهي الحل الأسهل لكل المشاكل لديه، من دون أن ينتبه الى الفرق الكبير بين العام 2004 والعام 2011. في العام 2004 كان خصم سوريا خارجياً، وبالتالي فإن خروجه من لبنان أنعش “وطنية” سورية لدى الشعب السوري، تحت شعار أنهم ظلموا في لبنان وخاصة طريقة خروج جيشهم، فاعتقد بشار أن ذلك كاف له للاستمرار بنفس العقل السياسي ونفس الطريقة، ولكن الفرق هذه المرة ان الثورة السورية ثورة داخلية والخصم الحقيقي هو خصم داخلي ممتد على الأراضي السورية، وهو لا يزال يتعامل مع الثورة السورية باعتبارها مؤامرة وبؤرة أمنية يجب مواجهتها بالسلاح. استخدم العقل نفسه في لبنان، يبدو أن لا شيء تبدل في عقليته”.
مصير الحكومة الحالية أسوأ من حكومة 2004
ويعتبر المشنوق أن هذا العقل نفسه هو الذي حكم ملف تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان: “الأسد وحلفاؤه يعيدون التاريخ من خلال تشكيل حكومة مماثلة تماماً لحكومة قرار التمديد. حكومة بمواجهة غالبية اللبنانيين والعرب والعالم، لذلك في هذه المرحلة يستعمل نفس عدة الشغل القديمة، لم يتغير شيء والتجميل الوحيد الذي حصل هو تسمية نجيب ميقاتي بدلاً من عمر كرامي رئيس حكومة العام 2004 أي مرحلة اغتيال الرئيس الحريري”. ويرى المشنوق أن مصير هذه الحكومة “أسوأ من مصير حكومة 2004 لأن طبيعة الاغتيال أكبر من حدث الحكومة وأكبر من أي تطور سياسي داخلي. الآن الطبيعة تغيّرت والظروف تبدلت والوقائع السياسية اختلفت، وأهم ما فيها ان هذه الحكومة تواجه قراراً اتهامياً وليس إنشاء المحكمة، وهناك مجموعة من المتهمين المنتمين حزبياً، وبتصرفات الحكومة يتحول الأمر من اتهام أفراد الى اتهام تنظيم معني ومسؤول. هذا حزب مشارك ومقرر في تشكيل الحكومة وهو الجهة التي تولّت اخراج هذه المرحلة. والمشكلة ان الأسد يظن نفسه قادراً على تكرار تجربة 2004 التي تحمل عنوانين: التطابق الكامل مع السياسة الإيرانية ومواجهة كل الآخرين. عملياً هو يفعل الشيء نفسه، وهنا نتذكر الصورة الشهيرة لقمة دمشق (الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، والتركي رجب طيب أردوغان، وأمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني، وبشار الأسد) هذه الصورة لم يبق منها أي شيء، وهذه المرحلة عودة الى الماضي مع اختلاف الظروف كلياً”.
بعد صدور مذكرات التوقيف السورية بحق المقربين من الرئيس سعد الحريري اعتبرت الأمر مؤشراً لعودة بشار الاسد إلى عقلية الإدارة السياسية السابقة، أي إلى مرحلة أعوام 2003-2004 ، هذا المؤشر جعلني أتحرك باتجاه عمان والرياض والقاهرة محاولاً شرح وجهة نظري في سبيل الاستيعاب المبكر والمناقشة الناصحة لسوريا وتلافي هذا الموقف. قابلت وزير الخارجية الأردني ناصر جودة، والأمير مقرن بن عبد العزيز رئيس المخابرات السعودية الذي التقيته بمناسبة حضوري زفاف الأمير عبد العزيز بن فهد، ووزير الخارجية المصري يومها أحمد أبو الغيط. طلبت من العرب التنبه لهذا الموضوع ومحاولة استيعاب الموقف السوري قبل ان يذهب الاسد بعيداً بمواقفه. كما نبهت في حديثي مع السوريين إلى أن مرحلة العام 2004 لا يمكن تكرارها. التقيت شعبان والمملوك من دون معرفة الحريري أما في دمشق فقد التقيت بثينة شعبان واللواء علي المملوك من دون معرفة الرئيس سعد الحريري وبغير رضاه وتحدثت اليهم عن الخطأ الكبير الذي يقومون به، ناصحاً اياهم بأن يعترفوا بالتغيير الحاصل في لبنان وعدم التعاطي معه بمنطق الحقد والثأر، ولكن أحداً لم يسمع. كان السوريون يقولون إن “المذكرات” عمل قضائي، وحين حشرتهم بالكلام صاروا يلمحون إلى أن الرئيس الحريري لم يطلب من الأسد سحبها وذلك للتهرب من الواقع. اليوم تفرغت القيادة السورية كلها لمعالجة الأزمة السورية الداخلية، كل هذه المحاولات البدائية في خطابات الأسد الأخيرة كانت جيدة في مرحلة العام 2000 لكنه الآن لا يمكن ان يعيد الساعة الى الوراء. اما المشكلة الداخلية في لبنان فهي ان التحالف الرئيسي مع “حزب الله” يعتمد على نفس العقل السياسي في معالجة الوضع، والكلام الصادر عن الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله وقيادات الحزب وطريقة معالجتهم لوضع الحكومة يدل على انهم لا يزالون يقرأون في كتاب قديم من دون الأخذ في الاعتبار تغيرات المنطقة والتجارب التي مرت بها الطوائف الاخرى، والتي اعتقدت انها بواسطة السلاح وفرض الموقف وفائض القوة تستطيع السيطرة على هذا البلد المتنوع”. يشير المشنوق هنا إلى أن رئيس “جبهة النضال الوطني” النائب وليد جنبلاط كان واضحاً في شرحه لعلامات فائض القوة وما تؤديه الى قرارات جائرة: فتحالف سوريا و”حزب الله” استطاع سرقة الأكثرية. هذه الاكثرية التي شكلت الحكومة هي مسروقة من جمهور رفيق الحريري، ويعتبر هذا الجمهور مشاركاً بانتخاب 6 من اعضاء هذه الحكومة و11 من الاكثرية النيابية الجديدة المسروقة التي اضيفت الى قوى 8 آذار في الشوف والبقاع الغربي وطرابلس وبيروت، هذه اكثرية مسروقة ليست اكثرية عادية او انقلاباً من خلال التحالفات السياسية”.
“حزب الله”: التاريخ يبدأ به وينتهي بسلاحه
ويرى أن “حزب الله” يتعاطى مع هذا الموضوع باعتبار أن التاريخ يبدأ معه وينتهي بسلاحه، وهذه نظرية مريضة وخاطئة. نحن نتعامل الآن مع حكومة عنوانين: حكومة اكثرية مسروقة وحكومة مشتبه بهم، لأن هذه الحكومة شكّلت لمواجهة القرار الاتهامي وليس لمواجهة المحكمة وهذا ما قاله السيد نصرالله من دون ارتباك، وعندما تم تسليم القرار الاتهامي قرروا التراجع عن كل تعهداتهم في اتفاق الدوحة. هذه التركيبة التي تقول بتحالف الاقتصاد والسياسة والامن كانت محضّرة مسبقاً وكانت تستند الى ان سعد الحريري سيذهب بتسوية تنهيه داخلياً وتنهكه بين جمهوره وتأتي هذه التركيبة بديلاً له، الفرق انها استعجلت بسبب القرار الاتهامي. فهذا القرار لن تلغيه كل ادلة وخطب ومقدسات وايقونات وتماثيل قيادة “حزب الله” ولا يمكن مواجهته الا بالقانون، ومثل كل المتهمين في العالم الذين بقوا مختبئين لسنوات ثم عادوا صاغرين الى المحكمة اياً كان اسمها”. يضيف: “لم نذهب الى المحكمة الدولية بارادتنا بل نتيجة العجز عن ايجاد بديل لقضاء لبناني مسيطر عليه بشكل او بآخر وعرضة لكل الاهواء السياسية، ونفس التركيبة السياسية كانت شريكة في بدايات التحقيق الدولي. عدنان عضوم كان وزيراً للعدل، وسليمان فرنجية كان وزيراً للداخلية، وعمر كرامي كان رئيساً للحكومة حين اعترفوا أن الاجهزة الأمنية اللبنانية غير مؤهلة لمعالجة هذا الموضوع”. يعود بالذاكرة إلى 27 شباط 2005: “زرت اميل لحود في ذلك اليوم في قصر بعبدا، وقلت له أنا أعرف ان الغرفة فيها تسجيل، لكن سأقول لك إن دم رفيق الحريري لن يُرفع من الارض الا بقرار كبير اكبر من كل ما تقومون به، حتى بشار الأسد لن ينجح في حماية قراراتك في هذا الملف، عليك أن تكلف فؤاد السنيورة بتشكيل الحكومة وإدارة التحقيق في الاغتيال”. ارتبك لحود وقال لي “لن يقبلوا” يقصد السوريين، فقلت له: “اذا لم يقبلوا الآن برضاهم سيقبلون لاحقاً بغير رضاهم”. وتابعت “وليد جنبلاط وصل بمواقفه إلى السماء، وما لم يرفع دم الحريري عن الأرض، كلنا وليد جنبلاط، انا اقول لك هذا الكلام من اجل مصلحة البلد ولا يمكن لاحد تجاوزه”. وبرأي المشنوق أن الرئيس ميقاتي “أسير، بدأ مخيّراً وانتهى مسيّراً. هو أسير في حركته السياسية جراء عوامل عدة أهمها أنه غير قادر على رفض تكليف بشار الأسد له تحت أي ظرف ويجب ان نتذكر ان آل ميقاتي شركاء مع آل الاسد في الخيلوي في سوريا وفي لبنان وبالتالي الأسد له عليهم بالإقتصاد وليس فقط في السياسة لذلك هم شركاؤه الفعليون. السبب الثاني، الميقاتي حضّر نفسه لفترة ما بعد التسوية وسقوط الحريري بنتيجتها وكان يعتقد انه قادر على استعمال العدة نفسها. كل ذلك أوهام وستبقى الاكثرية مسروقة ومع الوقت سيفقد ميقاتي العنصر الاهم في شخصه وهو تمثيله الطبيعي لبيئته ومحيطه ومجتمعه وأهل الجماعة والسنّة. ولذلك فإن القرار الاتهامي لن يلغى، وسيتحول من قرار باتهام افراد تدريجياً الى قرار باتهام الحكومة مجتمعة”. أما بالنسبة إلى ما قاله الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله في احتفال الذكرى الخامسة لحرب تموز عن صمود المقاتلين وقدراتهم وتجاوب الناس معهم فيقول المشنوق: هو صحيح ولكن لم يلاحظ السيد نصر الله أن هذه التجربة لم يعد من الممكن تكرارها، فهي لم تكن سلاحاً فقط بل كانت اندفاعاً وتجاوباً وبيئة لبنانية حامية. واليوم هناك عنصران لم يعودا متوفرين لهذه المقاومة، فالبيئة الحاضنة لم تعد متوفرة. والقرار الاتهامي هو العنصر الحاكم حالياً في العلاقات بين اللبنانيين الذين يشكّلون مجتمعين البيئة الحاضنة. شخصياً كنت في ذلك الحين الوحيد من بيئتي ومحيطي السياسي مقاوماً معهم كتابة وشفاهة من دون تردد، ولكن الظروف تغيرت كلياً. فالتجاهل لن يؤدي إلى نتيجة والاصرار على استعمال فائض القوة بالغلبة على الحياة السياسية لن يستمر أياً كانت موازين القوى التي يعتقدون أن بإمكانهم من خلالها استعمال غلبة السلاح لإلغاء الحياة السياسية أو لتغيير طبيعة النظام اللبناني. وهو ما بدأوا بتطويعه منذ السابع من أيار بالسلاح ثم باتفاق الدوحة السيء الذكر وصولاً إلى الحكومة الحالية، لمعرفتهم بعدم قدرتهم العملية على تغيير النظام السياسي اللبناني. فالنظام اللبناني استنفد قدرته على العيش مع غلبة السلاح، وما عاد ممكناً له بحريته الاقتصادية والسياسية والإعلامية وبتداول السلطة فيه القدرة على العيش مع السلاح خارج إرادة وإدارة الدولة. نحن أمام خيار من اثنين، إما تغيير النظام وهذا يتطلب حرباً أهلية جديدة باعتراف الجميع، قبل أن نصل إلى اتفاق الطائف. وإما انضمام السلاح إلى إرادة وإدارة الدولة، أما شكل هذا الانضمام فيحتاج نقاشاً ودقة في التعاطي. ولذلك اصررنا في كتلة “المستقبل” على القول إن البند الوحيد الذي يجب مناقشته في الحوار هو السلاح، لأنه تحوّل إلى المقرّر الوحيد في الحياة السياسية اللبنانية، وفي مسألة تداول السلطة التي هي إحدى مزايا النظام اللبناني الذي تطالب كل الثورات العربية بمثله