لمن “ولاية” التسوية التاريخية للعلاقات اللبنانية السورية؟
رئيس الجمهورية في لبنان يأتي لمزيج من الاسباب التي ما إن تجتمع في سياسي معين حتى ترفعه الاصوات والاقدار الى قصر الرئاسة.
الدور هو الذي يجد في هذا السياسي او ذاك خبرة راكمها وكفاءة وقدرة تفرضه كمرشح اكثر من غيره في الوصول الى الرئاسة.
ليس هناك من رئيس للجمهورية اللبنانية اتى من الفراغ سوى الرئيسين الاخيرين. بدأت مع الاول منهما مرحلة القرار السوري الكامل بينما تسبب الثاني بنهاية الدورين، اللبناني المستقل والسوري القادر.
كل الرؤساء السابقين من شارل دباس عند اعلان الجمهورية في العام 1926 حتى أمين الجميل في العام ,1982 تمتعوا بحيثية داخلية اكيدة، ووجدوا امامهم دورا يملكون كفاءة القيام به، او يجربون فيفشلون.
العنوان الرئيسي للرئيس المقبل حين تسهل له التسوية الداخلية والخارجية الوصول، هي المصالحة التاريخية بين لبنان وسوريا، وهي ما لا يستطيع لبنان استكمال استقراره دونها. ولا تستطيع سوريا تجاهلها رغم كل الادعاءات ان ادارتها السياسية متفرغة لنظام لبناني يعادي سلوكها الامني دون نجاح يذكر لهذه الادارة.
تاريخيا تم انتخاب الشيخ بشارة الخوري رئيسا بعد الاستقلال سنة 1943 على قاعدة اعادة رسم مناطق النفوذ في الشرق وتقدم بريطانيا وتراجع فرنسا.
عبّر الانقلاب الابيض ورئاسة كميل شمعون سنة 1952 عن بدايات ازمات الحرب الباردة وتلكؤ الشيخ بشارة عن القبول بمشروع الدفاع المشترك عن الشرق الاوسط الذي ارادته اميركا وبريطانيا سدا امام التوسع الشيوعي.
أتت التسوية الاميركية – الناصرية برئاسة فؤاد شهاب التي استمرت مع شارل حلو الذي حاول المواءمة بين الشهابية ونقيضها.
سأتحدث عن مراحل ما بعد الشهابية لاحقا.
النقطة الثانية، ان اللبنانيين في تساؤلهم يكثرون من المقارنة مع الدول الغربية التي لا شك في اننا جميعا نريد التمثل بها. لكن في هذا التمثل جلدا لأنفسنا نمارسه يوميا. الدولة في لبنان تتحكم بها جغرافيتها وبالتالي المقارنة لا تجوز الا مع المحيط العربي. حين نفعل ذلك نجد ان في بلدنا صيغة سياسية، اجتماعية، علمية، لا تتوفر في غيرنا من الدول العربية حتى الآن على الاقل كم عدد الاجتماعات التي تعقد في الدول العربية مثل الذي نعقده للبحث في انتخاب رئيس الجمهورية؟
تحضرني صورتان حين يكون الحديث عن الرئيس الراحل الياس سركيس، الاولى رئيسا منتخبا للجمهورية في فندق الكارلتون حيث كان مقر نشاطه الانتخابي. اجريت معه الحديث الصحافي الاول وربما الاخير في حياته الى طاولة غداء متواضعة محاطين من خارج الفندق بأصوات الرصاص ودخان الحرائق. استكثر الرئيس سركيس الغداء والحديث معا على شاب صغير يقابل رئيس للجمهورية للمرة الاولى في حياته.
كان الحزن يملأ عيناه. والكلمات تخرج من ذهنه لا من فمه بصعوبة، اذ كان يعتبر كل كلمة يقولها التزاما بصفته حاكما سابقا للمصرف المركزي وقاضيا في ديوان المحاسبة.
امضى سركيس ولايته وهو على الحزن نفسه والتزام متزايد بقلة الكلام.
الصورة الثانية في ذاكرتي هي حين رافقت الرئيس سركيس والوزير ميشال اده، الوفي الدائم لاصدقائه ولحقه الدائم في رئاسة المدرسة الشهابية، من بعبدا الى المطار، مغادرا للاستشفاء فرحا بنهاية ولايته الرئاسية.
تمهل الموكب في منطقة الشياح امام كنيسة مار مخايل حيث تنتشر مجموعات مسلحة عشوائيا، فاذا بشاب صغير مسلح يقترب من سيارة الرئيس الجالس على المقعد الامامي، ليأخذ يده ويقبلها قبل ان يحول بينهما الحرس الذين قفزوا من سيارتهم. كان مشهدا سورياليا، لم يتح للفتى ان يبرره ولا كان لتفسيرنا ما يحقق الجواب. دمعت عينا الرئيس سركيس وبقي على صمته حتى وصوله الى المطار.
لم أنجح بعد 25 سنة من ايجاد تفسير لتصرف الفتى المسلح. انما استطيع القول ان الرؤساء الذين تعاقبوا على السدة الرئاسية بعده أكدوا ان الفتى على حق في ما فعله فقد كان يقبل يد الدولة التي ذهبت مع الياس سركيس ولم تعد من ذلك الحين. عرف الفتى قبل الاوان انه يودع آخر الرؤساء المحترمين على حد تعبير الزميل الراحل نبيل خوري.
قيل الكثير عن تراخي الادارة السياسية خلال ولاية الرئيس سركيس. منهم من قال انه استسلم لحزب الكتائب. آخرون قالوا انه سلم الراحل الشيخ بشير الجميل مفاتيح الرئاسة. بعضهم اتهمه بالاستجابة دون شروط للسياسة السورية الحديثة العهد في لبنان.
حين ينصف التاريخ رئاسة الياس سركيس سيقول التالي:
أولا: لم يشعر الرئيس الراحل حافظ الأسد خلال ال25 عاما من ولايته السياسية على لبنان، بخيبة مثل التي مني بها من سياسة الرئيس سركيس. وقد بقي يتذكر هذه الخيبة لسنوات وسنوات بعد وفاة سركيس. أقول هذا عن علم ومعرفة وشهادات حية. اعتقد الاسد انه اتى بموظف مطواع لرغباته فاذا به يواجه بصلابة صامتة اربكته طيلة الولاية وقضت في طريقها على الكثير من الوسطاء والمترجمين. احتفظ الرئيس سركيس بحقه دائما في الخلاف مع الرئيس الأسد، لكنه لم يسمح لنفسه ولا لادارته بالدخول في احلاف تهدد النظام السوري.
ثانيا: اعتمد الرئيس سركيس التحالف مع الشيخ بيار الجميل على عادة الشهابية، ومنعا لاجتماع الزعماء الموارنة عليه كما فعلوا مع الرئيس شهاب. فنجح في ذلك. لكنه لم يسمح لسياسة الدولة ان تنجر وراء تحالف الضرورة.
ثالثا: اصطدم سركيس ببشير الجميل النجم الساطع في ذلك الحين أمنيا وسياسيا، لكنه لم يكن على استعداد للقضاء على الصوت المسيحي الرافض للاحتلالات العربية على انواعها. فداراه وحافظ عليه لكنه لم يلتزمه سياسيا إلا في الايام الاخيرة من عهده.
أطلت الحديث عن الرئيس سركيس، لأقول ان الدولة كمفهوم جامع للبنانيين بقيت في عهده منتشرة وقادرة رغم كل الاضطرابات بسبب صورته المستقيمة الصادقة ومعه الوزير فؤاد بطرس والسفير جوني عبدو من فريق عمله.
الرئيس سركيس هو آخر الرؤساء الذين تم اختيارهم من الادارة الاميركية وبموافقة سورية لاحقة، كما أشرت سابقا. الادارة الاميركية وجدت فيه ميزتين، الاولى انه اداري ومالي وقانوني في الوقت نفسه ما يعطيه القدرة على اعادة لم الادارة التي ينتشر في بعض مناصبها العليا شهابيون. الميزة الثانية انه على صلة تاريخية بمؤسسة الجيش المنقسم في ذلك الحين ويملك مفاتيح اعادة دمجه من مختلف الطوائف. وقد حقق ذلك بالفعل.
تولى اقناع الجانب السوري في ذلك الحين ضباط المكتب الثاني للاجئين الى دمشق. وقام رئيس مجلس الشعب آنذاك محمد علي الحلبي والسفير في موسكو لاحقا قبل ان يتقاعد بالاتصال بالنواب المترددين لتشجيعهم على انتخاب سركيس للرئاسة. بينما توزعت القيادات الفلسطينية بين العميد ريمون اده المرشح في الصنائع والرئيس سركيس في الكارلتون .
وصل سركيس الى الرئاسة وهو يعتقد ان بيده مقرارات قمتي الرياض والقاهرة بنزع السلاح الفلسطيني بواسطة قوات الردع العربية التي تعهد الرئيس الاسد دون تحديد باكمال ما ينقص من عديدها البالغ 30 ألف جندي، لعلمه بأن مشاركة العرب ستكون رمزية.
بالفعل لم تتجاوز المشاركة العربية ما نسبته 10 بالمئة انسحبت بعد زيارة الرئيس أنور السادات الى القدس وعودة الرئيس الأسد عن قرار القمة العربية بنزع السلاح الفلسطيني المنتشر على الاراضي اللبنانية الى محاولة ادارة هذا السلاح لصالح سياسته، دون ان يحقق نجاحا يذكر.
انفرط العقد العربي، وترك لبنان لقدره السوري – الفلسطيني – الاسرائيلي. التزم الجيش السوري بالقرار الاسرائيلي الوقوف على باب مدينة صيدا الجنوبية. بينما السلاح الفلسطيني يناوش ويقاتل الاسرائيليين حتى العام ,78 حين حصل الاحتلال الاسرائيلي الاول لاجزاء من جنوب لبنان. وصدر القرار 425 عن مجلس الأمن الدولي ليعيش في ذاكرتنا جدلا وحوارا حتى اليوم.
لم يكن الاجتياح الاسرائيلي العام82 مفاجأة دولية. اذ ان انسحاب مصر من المعادلة العربية بعد توقيع اتفاقية كامب دايفيد، شجع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات على اكمال طريق مقاومته في جنوب لبنان، بينما تحتل المقاومة الفلسطينية سياسيا اجزاء كبرى من لبنان بتحالفها مع الحركة الوطنية اللبنانية.
لا شك في ان عرفات حقق الكثير من التقدم السياسي لمنظمة التحرير خلال احتلاله السياسي للبنان. أهم عناصر هذا التقدم اعتلاؤه منبر الأمم المتحدة خطيبا حاملا غصن الزيتون بيد والبندقية بيد اخرى، في العام 1974 .
العنصر الثاني الأهم هو مناداة وزير الخارجية الفرنسي له بسيدي الرئيس في لقاء هو الأول من نوعه في قصر الصنوبر، مقر السفير الفرنسي في بيروت في بداية الثمانينيات. في مقابل التقدم الفلسطيني، ظهرت الأنياب المسيحية الاستقلالية التي مثلها الشيخ بشير الجميل متحالفا مع اسرائيل، ومتقدمة نحو بعبدا حيث لا يؤيد آخر رؤساء الاعتدال المسيحي – اي سركيس – الاتيان بالتطرف الى الرئاسة. لكنه وجد امامه ضرورة وواقعا لا يمكن تجاوزهما. كان الشيخ الشاب خيارا مسيحيا – اسرائيليا – اميركيا في ترشيحه لكنه عند انتخابه صار توافقا سعوديا – لبنانيا، متفهما ومندفعا نحو الصيغة اللبنانية. فكان لا بد من اغتياله. وهكذا حدث.
جاء امين الجميل رئيسا تعويضا لخسارة عائلته ابنها الاصغر. لكنه امسك بعد انتخابه بأوراق شقيقه حين كان مرشحا وليس بما طرأ على الشيخ بشير من تغيرات بعد انتخابه رغم قصر المدة الزمنية. فصارت الانقلابات والاصطدامات حدثا يوميا في حياة اللبنانيين. اختار الجميل الطريق الاقصر باستعمال الاحتياطي النقدي للبنك المركزي لتسليح الجيش فصرنا دون احتياطي نقدي ولم يستطع الجيش القيام بمهام المواجهة مع التمرد اللبناني – السوري.
قررت الادارة الاميركية العودة عسكريا الى الارض اللبنانية فكانت الحرب عليها بتفجير السفارة الاميركية في بيرون وقيادة المارينز.
اقدم الرئيس الجميل على المفاوضات مع الاسرائيليين فكان اتفاق 17 ايار والعودة عنه بسبب الضغوط السورية العسكرية والسياسية.
خاض النظام السوري مع حلفائه اللبنانيين صراعا دمويا انتهى بالدور السوري وحيدا في لبنان متفرجا على نهاية ولاية الرئيس الجميل الذي جهز المسرح المسيحي لصراع دموي بين العماد عون رئيسا لحكومة انتقالية دون وزراء من المسلمين، وفق نظرية الجيش هو الحل ، وبين القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع المنقلب على من سبقه من قيادات القوات ، والذي نجح في صد محاولات سورية بالانقلاب عليه باسم الاتفاق الثلاثي الشهير.
ذهب العماد عون الى العراق سياسيا طالبا المدد العسكري بينما ذهب الرئيس الأسد الى الكويت مشاركا في العملية الدولية – الاميركية لاخراج الجيش العراقي من الامارة النفطية. النتيجة الطبيعية كانت خروج عون من قصر الرئاسة لاجئا الى فرنسا. اكتمل النصاب في السعودية حيث رعى الراحل الملك فهد بن عبد العزيز مؤتمر الطائف بمظلة اميركية – سورية وكان اتفاق الطائف.
راقب الرئيس الراحل حافظ الأسد المؤتمر اللبناني في دمشق منتظرا حصته السياسية التي يريدها كاملة غير منقوصة. فإذا بالتوافق الاميركي – السعودي يقرر رينيه معوض رئيسا وهو الرائد في المدرسة الشهابية والعارف بخفايا الصيغة اللبنانية المطلوب احياؤها.
اغتيل الرئيس معوض بعد ايام من انتخابه رئيسا فانتهت معه الرئاسة اللبنانية بمفهومها الحيوي المستقل في ادارة العلاقات بين اللبنانيين، فضلا عن علاقات لبنان الخارجية.
ذهب جان عبيد الى دمشق. سقط في امتحان الموافقة على استعمال القوة العسكرية لاخراج العماد عون من بعبدا. فوقع الاختيار على الياس الهراوي رئيسا للجمهورية.
خرجت الادارة الاميركية من الرئاسة ومن السياسة اللبنانية مع الرئيس الياس الهراوي. وبدأ معه تقليد اقليم لبنان في الدولة السورية. فاستحق التمديد لمدة ثلاث سنوات. وصار على من يريد شأنا لبنانيا من الغرب او الشرق ان يذهب الى العاصمة السورية.
لا بد من التذكير هنا، بأن الرئيس رفيق الحريري القادم الى رئاسة الحكومة على قاعدة تفاهم سعودي ? سوري، ادار نحو عشر سنوات بين 1996 و2005 تاريخ اغتياله، صراعا سياسيا لم يتوقف بسبب محاولاته الدائمة، ونحاجه بعض الاحيان، في اعادة العنوان اللبناني بشأن السياسة الخارجية الى بيروت.
استكمل الرئيس السوري الراحل ما بدأه من نموذج للسياسة السورية في لبنان مع الرئيس الهراوي، بانتخاب العماد اميل لحود رئيسا للجمهورية.
لم يأخذ، لا هو ولا وريثه في عين الاعتبار المتغيرات الدولية التي بدأت بانسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان. اذ مهما قيل ان الانسحاب تم تحت ضربات المقاومة التي اشرف على تأسيسها حافظ الأسد ورعتها الثورة الايرانية لاحقا، مهما قيل عن ذلك وهو بغالبه صحيح، فإن قرار الانسحاب الاسرائيلي كان جزءا من ترتيبات دولية يراد منها انهاء النزاع المسلح الحدودي اللبناني – الاسرائيلي، في الوقت الذي تشهد فيه الاراضي الفلسطينية سلطة ناشئة تمهد لقيام دولة تلغي فكرة الصراع العربي – الاسرائيلي.
راوغ الرئيس الأسد الشاب في محادثاته مع الادارة الاميركية، حين وجد ان عليه الانسحاب من لبنان من دون مقابل. فذهب بسياسته الى العراق والى فلسطين، ما عجل في تنفيذ جيشه قرارا دوليا ملزما بالخروج من لبنان. خرجت القوات العسكرية السورية بشكل جعل من الثأر هو الوسيلة الوحيدة للحوار بين البلدين.
انتهى الاعتدال المسيحي الصامد مع الرئيس سركيس. تحقق الانهيار الاقتصادي والانقلابات المتتالية مع امين الجميل. خرجت الشراكة الاميركية مع لبنان في الياس الهراوي واميل لحود. وما بينهم دخل اغتيالان: واحد للصيغة في رينيه معوض والثاني للاستقلال المرتبك في بشير الجميل. اسرائيل خرجت. كذلك فعلت سوريا. الصراع الآن على اوسع مدى بين المشروعين الايراني الذي لم يعد يخفي احقيته في دور عربي متحالفا مع سوريا للدفاع عن التخصيب النووي، بينما يبحث الشعب الايراني عن البنزين، والاميركي الذي يريد ارباحا في لبنان لا يحققها في العراق.
ستجري الانتخابات الرئاسية ولو في غير موعدها، لان المناعة اللبنانية تزداد بدلا من ان تنقص. تقوى بدلا من ان تضعف. تقاوم بدلا من ان تستسلم. ومهما شهدنا من حدة في الازمات وشراسة في التحديات فلا يمكن للبنانيين الا ان يربحوا بلدهم.
أليست هذه سُنة اللبنانيين؟
عاش لبنان…
* محاضرة في مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية