كيف يتصالح “الحزب” مع لبنانِهِ؟
لم يكن السؤال سهلا عليّ حين أدرته في ذهني مناقشا لمضمونه ولما قد أحصل عليه من أجوبة، ولا كان ممكنا تجاهله بعد سنة من حرب تموز يوليو . طُرحت خلالها عشرات الاسئلة عن حزب الله وقدرته على الاندماج في الصيغة اللبنانية، الى حد التماهي، أو الانقضاض على رموزها الى حد الرغبة في القضاء عليها دون نجاح يذكر. إذ ان الحرب جعلت من رموز الصيغة اللبنانية عابرين بتمثيلهم الطوائف اللبنانية، يقفون في الصف الاول بتمثيلهم العربي، لا يمر يوم دون ثناء دولي على أدائهم السياسي.
بصرف النظر عما إذا كانت هذه الرموز تستحق ما وصلت إليه من مواقع وتأييد، فإن المضمون الجدي لرسائل الدعم هو التشجيع على القيام بدور أكثر تماسكا في مواجهة المشروع الآخر الذي يعتبر حزب الله رافده الرئيسي في لبنان.
أدعي بقدر معرفتي انه ليس للحزب مشروع انقلابي على السلطة في لبنان حتى الآن على الأقل. وأرى أن كل مساعيه الهجومية تهدف الى دخول الحمى السياسي للسلطة، مما يجعله من وجهة نظر قيادته قادراً على مراقبة ما يجري داخل القاعات وزواياها ويتحسب لما يمكن أن يفاجأ به في وقت لاحق.
إذ ان أبراج القلق والهواجس التي بنتها قيادة الحزب في تصورها للتطورات السياسية بعد الحرب وفي تعبئة جمهورها على هذه الأسس، جعل منها الأسس القلقة والمتوترة أحكاما في السياسة والأمن.
لذلك تبدو لبنانية الحزب ضرورة أكثر مما هي رغبة، وحاجة أكثر مما هي انتماء، وطبيعة أكثر مما هي افتعال. إذ كلما اقترب الحزب في سياسته من لبنانه، كلما فرغت الأوراق المعترضة عليه من مضمونها، وصار منتسبوه أكثر تفهماً للصيغة اللبنانية التي تحميهم معنوياً من الشعور بأنهم مكشوفو الظهر داخلياً أمام خصم خارجي.
الخصومة هنا ليست التعبير المناسب فالتنظيمات العقائدية الأمنية نادرا ما تستعمل الرمادي في ألوانها السياسية، فهي إما بيضاء وهو اللون الذي يستعمل للصديق، وإما سوداء وهو لون الأعداء.
لا بد من الاعتراف بأن قيادة الحزب حاولت في فترات هدوء سياسية تلت الحرب أن تهدئ من حدة أوصافها ومن تعبئة جمهورها. لكن هذا لم يدم إلا لفترات قصيرة جدا كانت تعود بعدها أحكام اللونين الأبيض والأسود الى صدارة نصّها السياسي.
ولا تستطيع القيادة نفسها أن تتجاهل حاجتها الى التحالف مع النظام السوري بما هو خط إمداد عسكري ومشاركة غالبة معظم الأحيان وليس دائما في المواقف السياسية الايرانية السورية مع الحزب. فماذا عن مواقف الدول العربية الاخرى؟
***
تكثر الاسئلة دون أجوبة مطمئنة للحزب وللبنانه، إلا جوابان اثنان تولت الحرب الاخيرة إظهارهما كما يظهر الضوء في الصباح مهما تغيرت الأيام.
الاجابة الاولى ان اسرائيل هي التي اعتدت على الأراضي اللبنانية وعلى القاطنين على هذه الأرض. ومهما قيل ان عملية خطف الجنديين الاسرائيليين للمطالبة بمبادلتهما بالاسرى اللبنانيين، هي السبب في الاعتداء، فإن هذا لا يلغي الاعتداء ولا صفة المعتدي عمن قام بهذه الحرب العسكرية. هناك بعض الروايات الوقائع عن تحذيرات فرنسية رسمية نقلها سعد الحريري الى قيادة الحزب بعد خطف الجندي الاسرائيلي في غزة وردة فعل الجيش الاسرائيلي المدمرة. وعن تحذيرات ألمانية نقلت مباشرة الى الحزب والى الرئيس فؤاد السنيورة من رد فعل اسرائيلي عسكري مباشر على أي عملية خطف للجنود الاسرائيليين.
هذه الوقائع على دقتها لا تبرر وفق أي منطق عاقل أو عادل أن باستطاعة اسرائيل أن تجد من يبرر لها ولو للحظة القيام بالحرب التي شنتها على لبنان.
الجواب الثاني هو أن الهوية الاولى والاكيدة والثابتة للمقاتلين الذين تصدوا للجيش الاسرائيلي في مفارقة نوعية وزمنية عن أي مواجهة عربية سابقة، هي الهوية اللبنانية التي مهما تنوع اهتمام المقاتلين أو انتماؤهم الديني، لا يستطيعون ولا يريدون إنكارها أو حتى تجاهلها. ولا يستطيع غيرهم في لبنان أو في العالم العربي أن ينفوا عن هؤلاء المقاتلين قدرتهم الاستثنائية على الصمود ولا لبنانيتهم الأكيدة.
في الوقائع السياسية ايضا أن الخروج العسكري السوري من لبنان شكل مفصلا أساسيا في الحركة السياسية للحزب. إذ اعتبر الحزب هذا الخروج حسما جديا من القدرة السياسية له فضلا عن إصابة جدية لخطوط إمداده العسكري. فكان لا بد من القرار بالانفتاح الجدي على السلطة بمعناها الشامل الجدي، اولا بالتحالف مع أحزاب السلطة في الانتخابات النيابية في ما يسمى بالتحالف الرباعي الذي يتباكى الحزب حتى اليوم على غدر حلفائه فيه، وثانيا بالدخول في الحكومة بعد استنكاف متكرر عن المشاركة في الحكومات والاكتفاء بالتمثيل النيابي منذ انتخابات العام 1996 .
يقول الدكتور علي فياض الاستاذ الجامعي ورئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق القريب من الحزب إن مشاركة الحزب في الحكومة يعتبر تطورا أكثر مما هو تغير، فالتأثير في تركيبة وتوجهات السلطة في لبنان لم يكن متلازما في حالة الحزب مع الدخول الى الحكومة.
ويضيف في دراسة عن المواءمة بين الاستراتيجيا الوطنية والدور الاقليمي للحزب والدولة، تطرح علاقة حزب الله بالسلطة رغم خصوصيتها إشكالية العلاقة بين الحركات الاسلامية والسلطة غير الدينية، وتظهر الى مدى بعيد الشروط الضرورية لتطور الحركة الاسلامية في علاقتها بالبيئتين السياسية والاجتماعية .
***
لا ينكر الرئيس فؤاد السنيورة على الحزب لبنانيته بل يؤكد انه تعاطى معه في كل المراحل على هذا الاساس، خاصة في تمثيله الوزاري والذي رفض اعتبار وزراء الحزب وحركة أمل مستقيلين من الحكومة، بل مستنكفين لأسباب سياسية.
يعود الرئيس السنيورة الى الماضي من الايام فيقول ان الحرب كانت سلسلة من المفاجآت، الادارة الاميركية التي أخذت قرار الحرب على حد تعبيري فوجئت بضعف القيادة العسكرية العملانية للجيش الاسرائيلي. الحكومة الاسرائيلية فوجئت بالصمود الذي حققه مقاتلو المقاومة في جنوب لبنان. المقاتلون استندوا الى مفاجأة دعم اللبنانيين لهم دون استثناء واحتضانهم للجنوبيين عن رغبة صادقة بالتضامن. والمجتمع الدولي فوجئ بالصمود السياسي للحكومة اللبنانية رغم الضغوط العسكرية الهائلة الحجم على لبنان.
لا يبتسم الرئيس السنيورة حين أذكره بأنه ايضا كان مفاجأة في أدائه السياسي خلال الحرب، لكنه يؤكد أن التنسيق بينه وبين الرئيس بري هو الذي حقق الصمود السياسي الذي تحدث عنه العالم.
يتذكر رئيس مجلس الوزراء الكثير من الوقائع بينه وبين الرئيس بري بحيث بدا وكأن أيام الحرب كانت مسرحاً لأداء مشترك حقق الكثير من النتائج وخفف الاكثر من الاضرار.
***
يتحدث الرئيس بري عن الماضي من السنة باعتباره يكتب سيرة جديدة في تاريخه السياسي. ثلاث محطات رئيسية في ذاكرته عن تلك الايام السوداء: الصورة الاولى هي إعادة ترتيب الاولويات في النقاط السبع والتي قام بها مع الرئيس السنيورة في منزله، قبل سفر الأخير إلى مؤتمر روما. وحين طُرحت هذه النقاط على التصويت في مجلس الوزراء صوّت وزراء حركة أمل لصالحها في افتراق هو الأول والأخير، حتى الآن، عن وزراء الحزب.
أكد بري موقفه هذا، بالوصول إلى السرايا بشكل مفاجئ في سيارة واحدة مع سائقه بثياب سبور ليقف إلى جانب الرئيس السنيورة مخولاً إياه الحديث باسم الاثنين بعد مجزرة قانا.
ما ان انتهى الرئيس السنيورة من كلامه، حتى همس له بري بأن يرافقه خطوات إلى الأمام، حتى لا يلاحظ الصحافيون وجهة تحركه نحو سيارته في المرأب حتى يعود إلى مقره في عين التينة. لم يفعل ذلك بري إلا لاقتناعه بأن التنسيق السياسي هو الخيار الوحيد لحماية المقاومة الصامدة في الجنوب.
الصورة الثانية هي المناقشات مع مساعد وزيرة الخارجية الأميركية دايفيد ولش على صياغة القرار .1701 كانت الساعة الواحدة ظهراً بتوقيت بيروت والمسؤول الأميركي يصر على الصياغة التي يحملها. رفض الرئيس بري النقطة المتعلقة بوقف الاعمال العدائية لمدة أسبوع قبل تأكيد وقف اطلاق النار، متسائلاً عن الضمانات في الوقت الضائع. توتر الجو بينهما حين رفض الرئيس بري ضمانة الحكومة الأميركية، مصراً على اعلان هذه الضمانة، إذ انه لا يضمن الموقف الإسرائيلي بضمانة أميركية غير معلنة.
تم التوافق في نهاية النقاش على ان تعلن الوزيرة رايس ضمانة حكومتها لعدم الاعتداء المتبادل قبل بدء مجلس الأمن بمناقشة القرار.
التزمت الوزيرة رايس بالاتفاق. وطلب الرئيس بري من وزير خارجية قطر آنذاك حمد بن جاسم والمندوب العربي ورئيس الدورة في مجلس الأمن، متابعة تنفيذ ما اتفق عليه مع الخارجية الأميركية. جلس الرئيس بري ومعه مساعده النائب علي حسن خليل والحاج حسين خليل من الحزب، إلى التلفزيون يتابعون الجلسة في نيويورك في الثانية بعد منتصف الليل، وأجرى بري ثلاثة اتصالات هاتفية بالمسؤول القطري للتأكيد على تفاصيل الاتفاق.
بالفعل، التزم الشيخ حمد بن جاسم ما وعد به وكتب رسالة إلى بري لاحقاً يحدد فيها ما طُلب منه وما نفذه.
يقول الرئيس بري انه استطاع مع الرئيس السنيورة ان يسجلا في تاريخهما، انه للمرة الأولى في تاريخ القرارات الدولية حول لبنان، ترد إشارة واضحة إلى لبنانية مزارع شبعا في القرار .1701
الصورة الثالثة هي للرئيس بري يعلن في مهرجان شعبي في صور، أن هذه الحكومة هي حكومة المقاومة السياسية. ثم في وقت لاحق، يبلغ الرئيس السنيورة هاتفياً بشوقه إليه، فإذا بالأخير في عين التينة ليصطحبه إلى الضاحية الجنوبية لمعاينة الدمار الذي سببه القصف الإسرائيلي، وليترك له الكلام عند مبنى تلفزيون المنار المهدّم باسم اللبنانيين جميعاً.
لا يأتي الرئيس بري على ذكر المصاعب في مفاوضاته عن الحزب ومعه، في الوقت نفسه. لكنه يقول انه بدأ يسمع كلاماً عن الرئيس السنيورة متزامناً مع المفاوضات النهائية على القرار الدولي .1701 كذلك، لا يقبل بري السؤال عن لبنانية الحزب فهذه مسألة خارج نطاق المساءلة، إذ انه في يومياته السياسية ما زال على قدرته على التفاوض، وعلى التفاؤل، وعلى انتظار القرار.
***
يبدو العماد ميشال عون مرتاحاً في الرابية حين يسترجع فترة ورقة التفاهم مع الحزب. فهو يُظهر الجانب الآخر من الصورة التي تقول انه لولا ورقة التفاهم لكان الحزب معزولاً وفق المفاهيم نفسها التي عزلت الكتائب في العام 75 وأدت إلى حرب أهلية. فهل كان المطلوب ان نكرر خطأ الأمس؟ إن البند الثامن من الورقة، الذي أخذ وقتا طويلاً من المناقشة للتوصل إلى ما هو عليه في العلاقات اللبنانية السورية، هذا البند يؤكد لبنانية الحزب الموافق على علاقات دبلوماسية بين البلدين وترسيم الحدود ولبنانية مزارع شبعا. بينما تضع النقطة العاشرة من التفاهم سقفاً لسلاح الحزب في تحرير مزارع شبعا من الاحتلال الإسرائيلي وتحرير الأسرى اللبنانيين من السجون الإسرائيلية. بعدها، يتم صوغ استراتيجية دفاعية قادرة على دمج سلاح المقاومة ولو تدريجياً في القدرات العسكرية اللبنانية.
يؤكد العماد عون الاستقرار الذي حققته ورقة التفاهم والذي جعله يقول حين ضربت الطائرات الإسرائيلية جسوراً في مناطق الشرقية الساحلية بالرزق ولا بأصحابه . وهو ما سهّل استيعاب المهجرين من الجنوبيين لدى مواطنين في مناطق الجبل والشمال إضافة إلى بيروت وكذلك في المباني العامة، وعودتهم في اليوم الأول من وقف اطلاق النار إلى قراهم.
يشرح الجنرال ان الحزب يواجه أخطاراً في الداخل وعلى الحدود، بصرف النظر عما إذا كان الأمر صحيحاً في ما يتعلق بخطر الداخل. لذلك، فإن مطالبته بحكومة وحدة وطنية تحقق الاستقرار لمن يمسك بالسلطة، وتزيل الخوف الداخلي من فئة كبرى من اللبنانيين.
يتحدث العماد عون عن مطبوعة او مقال، عن استحالة قيام دولة ولاية الفقيه في لبنان، الصادرة عن مركز ابحاث الحزب، ليؤكد ان هناك اجوبة عن كل الاسئلة حين يكون البحث جديا وهو ما لم يتوفر حتى الآن.
***
وليد جنبلاط يضع لائحة من الشروط قبل الاجابة عن السؤال. حين تبلغه بتأكيد العماد عون على القدرة على الدمج التدريجي للسلاح في إطار الدولة، يجيبك بالسؤال عن ولاية الفقيه ويدعوك لمقارنة بين آراء مراجع عدة حول الموضوع نفسه، مثل الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهما من العلماء الذين لا يقرون بولاية الفقيه. ويقترح المقارنة بين آراء هؤلاء وما هو سائد لدى الحزب. ثم يتساءل هل نحتمل اضافة ايران الى تسوية اميركية سورية رعت اتفاق الطائف سابقا.
يحتاج السؤال مع وليد بك إلى حديث منفصل ومفصّل، لكنه لا يغلق الباب، يتركه مفتوحاً أمام الأسئلة. لا ينكر الصمود ولا ينفي اللبنانية، بل يضيف إليهما تساؤلات فقهية وسياسية لا تنتهي.
هل السؤال: كيف يتصالح الحزب مع لبنانه، أم متى؟
الجواب عن السؤال الأول واحد. المقاومون لبنانيون قبل أي انتماء آخر. المطلوب تظهير مدى سياسية الخلاف بينهم وبين آخرين من اللبنانيين. أما متى، فالجواب مرتبط بتطورات المنطقة التي تجعل من الجميع، وليس الحزب وحده، أسيرا لها.