عودة “الصلحيّة” إلى صِباها …
استرد عمر الزين الماكينة الانتخابية المتحركة شرعيته الصلحية منذ أسبوعين بعد طول غياب. دار خلالها على الدنيا يسعى فيها فلا يجد لنفسه موقعا أو مقعدا إلا من حيث بدأ، فعاد حاملا معه فوضويته الخلاقة الى عقل تقي الدين الصلح الذي شهد نشأته السياسية والعملية، موقعاً كتابين وثائقيين في نقابة الصحافة عن تقي بك.
لم يفتقد المحامي عمر الزين الموقع أو المقعد لنقص في كفاءته العامة، اذ ان صفة الاهتمام العام لا تليق بحركة أحد كما تليق بحركة عمر. ولا لرفض آخرين في حلقة سياسية انضمام عمر اليهم. لكنه مهما حاول وجاهد وصبر على الوجوه الجديدة التي يسمع كلامها، مسجلاً بحسه الدقيق نغمات الحديث واتجاهاته، فإنه يجد نفسه فجأة غريبا عما يسمع، مترددا مما يرى، مقارنا بما تعوّد عليه وما هو أمامه من حديث أو نص أو قرار. فيُسرع الخطى الى بيت سره اولا أي السيدة عدلا رفيقة حياته، فيجد عندها قدرة الاستماع الهادئ، المترفع. ثم يكمل طريقه الى حيث هواه الاول في القنطاري، منزل البك.
يستقبله الراحل رامز أفندي بسؤال هامس ولائق عن أسباب غيابه، راسما له خريطة الايام الماضية، فتطل عليهما فدوى خانم لتختصر حدث الغياب بكلمتين من العيار الحموي نسبة الى مدينة حماه السورية. فيظهر على عمر وكأنه الابن المتمرد على أهله بغيابه وخياره لكنه قرر التوبة. يذهب ليحتمي بالطربوش العثماني وبطريقة السلام العثمانية التي ما ان تلتقي فيها اليدان حتى تتراجع كل منهما الى الفم يلثمها صاحبها، دلالة على المودة.
لم يكن عمر الزين الوحيد الذي سكنه تقي بك بلياقته وعقله النيّر وأفكاره المبتكرة ويومياته التي تضيف الى الحياة معنى والى العقل معرفة. لكن بالتأكيد كانت فوضوية عمر المحببة الاكثر حضورا، حين يظهر في المجلس، فينسى من كان ينوب عنه في غيابه.
استطاع تقي الدين الصلح أن يجعل من الصلحية وهي مكانة سياسية عاشت أكثر من مئة سنة في لبنان العثماني ثم الفرنسي حتى كان الاستقلال الذي عرف بطربوش رياض الصلح و برنيطة بشارة الخوري قبل رسم العلم اللبناني بألوانه الثلاثة.
استطاع تقي بك أن يجعل من الصلحية طريقة صوفية، ما ان تنتسب إليها حتى تسكنك فتصبح هي منك وأنت منها. تمر السنوات وتتغير الايام ويكبر الصغار وتزيد سنوات الكبار، حكمة أو تهورا. لكنهم جميعا باقون على انتسابهم، من غاب منهم ومن حضر، وحتى من وجد لنفسه مقعدا في ديوانية سياسية اخرى.
حضر عمر الزين بعد طول غياب موثقا هذه المرة، ومعه المنتسب الآخر الناشر تحسين خياط الحاد القادر في جهده وعمله. حضر عمر الصلحي ومعه كتابان من 1200 صفحة يوثق فيهما شهادات عن سيرة حياة وكفاح تقي الدين الصلح. وهي شهادات استحقها تقي بك لكنها ما كانت لتُجمع لولا جهد استثنائي ينم عن محبة عند عمر. كرّم عمر سيرة سياسية ورثها عن والده كما ورد في التمهيد للكتابين. وكرّس عرفا جديدا للصلحية وهو توفر نصوص مطبوعة وشهادات في واحد من كبار هذه العائلة. اذ ان هذه الطريقة السياسية الوطنية الحاضرة منذ أكثر من مئة سنة تجنبت النصوص وسيلة لعرض ما تفكر به، واعتمدت المشافهة وسيلة لنشر الافكار، ما عدا القليل جدا من الصفحات في كتاب أو أكثر لأشقاء تقي بك.
تنقّل تقي الدين الصلح في الكثير من المناصب العامة إلا أن موقعه الدائم كان في البيان الاستقلالي الاول الذي رفض حتى وفاته في المنفى في العام ,1988 الاعتراف بأنه هو الذي وضع النص الاهم سياسة وصياغة في تاريخ لبنان. رغم اعتراف رفاق رياض الصلح، أي الراحل نصري المعلوف والشهيد محمد شقير والحبيب الحاضر بضحكته زهير عسيران، بأن تقي بك كتب البيان الاستقلالي الاول بقلمه وفكره.
ينقل عمر في كتابه مقالا للزميل الراحل ميشال ابو جودة نشر في العام 1980 في النهار تعليقا على اعتذار تقي الدين الصلح عن حكومة كلف بتشكيلها. يقول ان بيان الاعتذار جاء ليؤكد لنا أن هذه الاستقلالية وهذه الوطنية وهذا الترفع، وهذا التهذيب وهذا الأدب السياسي، المعاكس لكل ما نراه اليوم هي من تلك الاستقلالية وتلك الوطنية وذلك الترفع وذلك التهذيب وذلك الأدب السياسي الذي ورد في بيان الاستقلال .
قال تقي الدين الصلح الكثير من الكلام وحُفظ الكثير عنه عِبَرا وقراءات ذكية، لكن الاهم قوله لعدلا رفيقة حياة عمر: طالما بقيت هناك كنيسة واحدة تدق أجراسها فسيبقى لبنان .
كان جرس الكنيسة بالنسبة له، رحمه الله، إعلان حرية واستقلال وسيادة للبنانَهُ.
كذلك عمر الزين. تنقل في كثير من المواقع وتعرّف الى أنواع مختلفة من صناديق الاقتراع اللبنانية والعربية. لكنه حقق في توثيقه الكتابين عن تقي الدين الصلح، النجاح الدائم لصلحيّة لبنانية متآلفة مع العروبة. فأحيا صوفية سياسية وجدناها في الصفحات بعد أن ظننا انها غابت ولن تعود.