حديقة البخور 9
إنّها.. إنّها .. إنّها .. لم يخطر في بال الكاهن وهو يكتب كل ما كتب عن ميزان للربح أو الخسارة.. وضع لنفسه ميزاناً لم يفهمه أو يقبله غيره هو.. وإلا فما تفسير هذا الجنون المستمرّ؟ كيف يقبل “آخر” كل ما قبل “ويعرف كل ما عرف” ويقول إنه يريدها لنفسها.. الكاهن يشعر بحس الرجل الذي فيه أن “الآخر” يريد أن يأخذها “منه”. لا أن يأخذها “منها”.
لا بأس.. الحساب عندها وليس عنده..
ما يهمّه أنه هو فتح صدره للحياة.. بالغ.. تواضع.. تمهّل.. استعجل .. تنازل .. لامس الارض شغفاً .. فعل كل ذلك .. أظهر صوراً جميلة أساساً لبنيان يكاد أن يختفي من حياته ..
العادّيات موجودة في كل الدكاكين .. حصل عليها ملايين البشر .. لها أن تحصل عليها. لن ينقص ذلك شيئاً منه .. نجح في نشر فرح صدره كتابة على الجدران.. الحساب هنا أيضًا عندها وليس عنده.
شرنقة “الخيانة” خنقت الفراشة فيها .. لم تعد أجنحتها الملوّنة تطير حول جدران القرية أو داخل ادراج أوراقها ..
هو ممسك بميزانه حتى السطر الأخير .. اليوم الأخير .. تتويجاً لما فعله لنفسه وليس لوهمه ..
يعلم أن كلماته تتعارك مع بعضها البعض.. وهكذا حال أوهامه ..
قَرَّر الصُموُدَ حتى يأتيَهِ الجوابُ من الجامعات. لا بُدَّ أن تتجاوب معه واحدةٌ منها. يأتيه الجوابُ من الجامعات الثلاث كُلُّها تُرحِّبُ به مع كثير من التقدير لعلمه.
يُؤجِّلُ قرارَه ليومٍ واحدِ. يَقْبَلُ في اليوم التالي التَدريسَ في الجامعة الأقرب إلى القرية. لا يُريِدُ أن يترك الحياة في “قريتها”. يكفي أنّه تَرَكَ المعبد. القرية أيضاً؟ ماذا يبقى من الإنسان حياتِه غيرُ التعليم؟
يلتَحِقُ بالجامعة التي اختارها. يرتَاحُ لاختياره. استطاع خلال شهرٍ واحدٍ أن يُحقِّقَ شُهْرَةً تفوقُ ما توقعَهُ إعجاباً بالأسلوب. يقول أُواجِهُها بواقعي الجديد لا بدَّ من أن تَسْتَفيقَ. أُظهر لها أنني حققت ما حَلِمَتْ به طِوَالَ سنواتِ شَغَفِهما.
يتردّدُ. هو يَعْرِفُ طَبِيعتَها. هي لا تُعطي نَفْسَها. إن فَعَلَتْ هذه المرّة فهي لن تَسْترِدّ ثيابَها من “الآخر” بعد أن أعطتْهُ إيّاها. لم يَنْتَظِرْ جَوَابَه لِنَفسه، حمل ثوبَ كَهنَوتِهِ ورسالة تَنَازُلِه عنْ منْصِبِه في معبد البخّور. ضَحِكَ منْ نَفْسِهِ لماذا لا أُرسِلُ لها صُورَتي بثيابي المَدَنيّة؟
ذهبَ إلى تلميذتِه الصغيرة. كَبُرت سنةً. حَمَّلَها ثيابَ كَهنوتِهِ وَرِسَالةَ التَنازُل. طَلَبَ مَنْها أنْ تَقومَ بهذه المُهمَّة للمرّة الأخيرة. ضَحِكَتْ مُستَجِيبةً.
ذَهبتْ إلى منزل “بيبي” سَلَّمَتها الثيابَ والرسالة. عادت إلى أُستاذها. كيف قابلتْكِ؟ مذْهولةً إنّما مُتمَاسِكة يا سيدي.
صَحَّ ما توقَّعَهُ. جاءتْ إلى الفُندق بعدَ ظُهرِ اليومِ التالي. صَعَدَتْ إلى غرفته دقَّت الباب. دَخَلَتْ.
قَبْلَ أن تَبْدأ الكَلاَم سَألَها ماذا فَعَلْتِ لَيلَةَ أمس؟ أجابته ببساطة “ذهبنا” للعب الورق في منزل صديقة “لنا”.
لم يَدَعها تُكْمِلُ قال لها يَأتيِكِ ما حَلُمْنا به لسنواتٍ طوال. ما طَلَبْتِهِ مئاتِ المرّات. قرأْتِ الوَثيقة التي وقفت بيني وبينك. لا تُعْطِها من الوقت ما تستحقّ للتفكير بها. لمناقَشَتِها مع نفسِك.
تَقدحُ عيْناها فوراً. لا تحمّلني مسؤوليّةَ ما فَعَلت. جاءت الورقةُ متأخرةً سنواتٍ طويلة. حتى أنني لم أعُدْ أشعُرُ بحرارةِ الإمساكِ بها.
يزدادُ هدوءاً من صحّة توقُّعه. يقولُ لها أنا لم أُحمّلْكِ مسؤوليّةَ قرارٍ اتّخذتُهُ بِمُفْرَدي. أنتِ لستِ منْ عرِفْتُ. فَعلْتُ ما فعلْتُ لأُبرِّئ ذِمَّةَ قَلبي منكِ. عقلي هو الذي تردّدَ. هو الذي تأخّر. حين انْتَصَرَ قلبي لم يفْعل انتصاراً لكِ بل لأنّه أراد أن يُصالحَني مع نفسي اولاً. مع كبريائي. مع كرامةِ الرجل الذي يفي بوعده ولو مُتأخِّراً. لم أتخلَّ عن مبادئي. عن مُثُلي. من أجلِ خائنةٍ مثلِكِ. تتحدّثين عما كان بيني وبينك وكأنه طاولة لعب ورق انكسرت أرجلها. هذه تعابير تعّبر عمّن يقولها لا عمّن يسمعها. لم أقل ما قلت. ولا كتبت ما كتبت. ولا فعلت ما فعلت لاستردّك من حفرة السُّم. بل لاستردَّ نفسي من هبوطها. ارتفع نحو الأعلى حيث لا “أنت” هناك.
تَخْرجينَ من هنا الآن. لساني لا يُخاطِبُ لسانكِ ما حُييتُ.
تُحاولُ. تَستَعمِلُ دَلَعَها تَعُودُ إلى طلبِ المرجَعيَّةِ فيه. تُخبِرْهُ عنْ صَدىَ شُهْرَتِهِ الجامعيّة التي وصَّلَتْها يَزْدَادُ إصراراً هادِئاً على موقِفِهِ.
رأى السُمَّ يَخْرُجُ من عينيها من فَمِها يُلوِّثُ يديها. يَقْفِلُ البابَ على نَفْسِه، على قَلْبِه، على عقْلِه. للمرّة الأولى يَعْتَرِفُ أنَّ شَغَفَهُ ماضٍ هابطٌ وليسَ صُعوداً لدرجِ المستَقبَل.
للمرة الأولى يرى فيها الوحش القادر على كل اعتداء.
يَتَذَكَّر زميلاً له في معبد البَخُّورِ مُتَخَصَّصاً في اللُّغَة نَاقَشَهُ في أُصول كَلِمَةَ شَغَف قالَ لهُ الكاهِنُ اللُّغَوي إنَّهُ يُفَضِّلُ استعمالَ كَلِمَة “الهوى” إذ إنّها تُعبَّرُ بِدِقَّةٍ عن حالةِ من أصيب بالشَغَف، “فالهوى” ليسَ إحساساً بالمرأةِ شَغَفَاً فقطْ. هو أيضاً وصفٌ لحالة السقوط من أعلى الجَبَلِ إلى قاعِ الوادي. هو اليومُ في قعرِ الوادي سَيَصْعَدُ إلى فوق إنّما ليس مَعَها. أحقادها ليست عصب صعوده.
مَرّت على إقامتِهِ في فُنْدقِ القريةِ أشهر حتّى الآن. لا خَبَرَ عنها. لا مُلاقاةَ ولَوْ مُصادفةً. يَسْتَقِرُّ في جامِعَتِهِ. يَسْتَقِرُ في فُنْدُقِهِ. لم يَعُد غريباً عمّا يَعِيشُهُ كُلَّ يوم.
يَعُودُ إليه الضَعفُ بين حين وآخر. يَحضُره اللقاءُ الأخير بينهُما. ينخطف قلبه منها. ينخطف أكثر عليها.
قرّر السفر إلى بلاد النيل. إستأذن رئيس جامعته ليذهبَ إلى معبد عقيدَتِه السابقة في بلاد النيل. هو يُحِبُّ انسيابَ النهر ولطافةَ أهلِه. له الكثيرُ من التلاميذ هناك يفتَقِدُهُم ما دامت أعشابُ الهدوء لم تَعُدْ تكفي صبرَه. ربَما للنيل وفراعنتِه “بركات” تهدِّئ من جنونهِ اليومي.
يَصِلُ إلى معبد طريقَتِهم في بلاد النيل. موقعُهُ جميل تنزلُ من دَرَجَ واجهتِهِ الخلفيَّةِ إلى الماء مُبَاشرةً. يَستقبلُهُ أصدقاؤه وتلامذتُهُ ترحيباً وتقديراً.
مضى عليه تسعةَ عشرَ يوماً وهو لا يَشْعُرُ بالوقت في الليلةِ العشرين جلس كعادته على حافّة دَرَج المعبد ينظُرُ إلى النهر فإذا بصورتها تملأُ النيل بعرضِه مبتسِمةً. من يستطيع بوجهه أن يملأ عَرْض النيل؟ ارتعش من الخوف. هذا “سحر” وليس شَغَفَاً أو هوى فقط.
ذَهَبَ إلى غُرفَتِه لملم أغراضَهُ قَرَّرَ العودةَ إلى قريتِهِ في الصّباح ودَّع أصدقاءه ومشى عائداً.