النفي الرباعي 17 – الوفاء البيروتي الهادىء..
أسأت إلى سيرة المغفور له الرئيس تقي الدين الصلح حين أدخلت حواري مع كاهن معبد البخور في سياقها. إذ ليس في السيرتين ما يقارب الاخرى او حتى يسمح بمجاورتها.
أسأت الى سيرتي بنشر الحوار مع صديقي الكاهن السابق والاستاذ الجامعي حالياً. اعتقدت أنني أمتشق مفردات تساعد الكاهن على انتصاب قامته، فإذا بي أصبح شريكاً له في البحث عن إبرة قِيَمٍ وسط كومة من الزبالة.
أسأت الى كل من حولي بإلزامهم قراءة نصٍ يفوح منه ما لا يجوز من روائح..
نعود الى الاصول التي كان سيّد قواعدها تقي بك. وصل الجثمان الى بيروت بعد يومين من إعلان نبأ وفاته. عشرات قليلة من الاصدقاء الصادقين ينتظرون في المطار. تصل الطائرة. تنزل “فدوى خانم” الاولى بين المغادرين للطائرة. تتماسك “الخانم” إلى حدّ الصلابة وهي تنزل درج الطائرة تنظر الى مستقبليها وجثمان زوجها بعيني الصبر المفرط.
أعطت المستقبلين كلاً على حدة ما يحتاجه من الدمع، حجزت دمعتها الى حدّ خصت معه كلاً منا سلاماً باليد او قبلة على الوجنتين أو إحاطة بيديها دون ان تسمح للدمعة الواقفة على باب العين أن تنزل.
قبّلت يدها متراجعاً الى الوراء أداري ما في عينيّ من دمع لا ينتهي.
كنت قد أمضيت اليومين الماضيين لوصول جثمانه أصطبح بنهر من الدمع وأنام على ساقية عريضة منه. لم أسامح نفسي عن انني تركته في الايام الاخيرة من عمره بعد سنوات طوال من التتلمذ يومياً على يديه. شعرت بأنني تخلّيت عن معرفتي بما في عقله من حكمة ودراية لأسباب عادية في حياة اي شخص. تركت الكلمات الأخيرة من الأيام المحدودة قبل ختام حياته من دون ان اعرفها.
علمت فقط ان الشيخ رفيق الحريري، طيّب الله ثراه، زاره في المستشفى في غيابي وحاول ترك مبلغ من المال تحت وسادته فكان جواب تقي بك ” لو أردت ان تستعجل موتي، فاترك المال حيث وضعته”. ارتبك الشيخ رفيق الى درجة سحب المظروف الذي يتضمّن المال الفرنسي والاعتذار إلى شيخوخة تقي بك.
لكن هذا لم يمنع الشيخ رفيق، رحمه الله، من التكفّل بكل مصاريف فندق جورج الخامس في باريس والمستشفى أيضاً عن طريقي. بعد أن تبنى ولدا عماد الصلح شقيق البك الأصغر الذي توفي قبله، منذ أن كانا صبياناً صغاراً في مدرسة الشويفات في لندن حتى تخرّجهما من الجامعة.
تولى عمر الزين، الذي اصبح اميناً لسر نقابة المحامين في بيروت وأميناً عاماً مساعداً لاتحاد المحامين العرب والذي لا زال في منصبه الثاني حتى اليوم، تفاصيل التشييع الرسمية والشعبية فجاءت كما أرادها تقي بك.
ودعته بيروت كما أراد. بلياقة وتهذيب وودّ، كأنه الهمس في الكلام الذي حرص عليه طوال حياته. كانت مئات السيارات المنطلقة من منزله الى مثواه الاخير تمشي ببطء يتقدمها القرآن الكريم فتغلق المحلات أبوابها قبل دقائق من وصول السيارة الاولى إليها.
يقف صاحب الدكان أمام دكانه يقرأ الفاتحة عن روح الفقيد وفي عينيه معرفة بأنه يودع شهيداً.
لا زلت أتذكّر حتى الآن الحزن في عيون الناس الذين وقفوا في الشوارع يودّعون بصمت وخفر وإيمان. كانوا يظهرون انهم فقدوا كبير حكمائهم لا زعمائهم، كما هو التقليد المتعارف عليه. كبيرهم. حكيمهم. عاقلهم. شهيدهم دون إعلان. أكثرهم تأثيراً من دون ضجة… أعمقهم حفراً من دون صخب.. هذه هي الحقائق التي تراها في أعينهم.
ذهب تقي بك إلى مثواه الاخير بهدوء، كما حاول أن يعيش بهدوء أيضاً. كتب سيرته الذاتية قبل سنوات من وفاته. أضاف عليها أو شطب منها مرات ومرات.
كان يحرص على أن يوفر على غيره المغالاة فيما لا يريده. أو التبسيط فيما يريد التركيز عليه. فجاءت سيرته، كما حياته، كما جنازته، لا إكثار فيما لا يحرص عليه، ولا إقلال مما يرغب فيه. غصّت دار الفتوى حيث قبلت التعازي بشهيد اللقاء الإسلامي بالمعزين من كل الطوائف. بدا أن ركيزة اساسية من ركائز التوازن الوطني للصيغة اللبنانية يفتقدها المعزون حين يأتون من قراهم البعيدة او طوائفهم الأبعد في ذلك الحين.
حتى النظام السوري لم يجد بداً من إيفاد وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية للتعزية، رغم معرفة الرئيس حافظ الأسد في ذلك الحين إصرار تقي بك على حق الخلاف دون التآمر على النظام السوري من لبنان. كانت “الخانم” تستقبل المعزّين في صالونات المنزل حسب الأصول سواء التي تعلمتها من أهلها في مدينة حماه السورية أو التي حفظتها عن زوجها “البك” الذي بدا وكأنه وضع اصول وداعه اكثر مما اعتنى باتباع الاصول في استقباله، وذلك في المنزل الذي عُرف دائماً بأنه منزل تقي بك من دون أن يملك فيه شيئاً غير حق السكن المجاني.
رحم الله تواضعه وتنازله وتفهمه وقدرته على القبول بالآخر وإصراره على حقوق الآخر بالاعتراف أقلية كان ام أكثرية.
اربعة من مئات الوافدين الى المنزل لتعزية الخانم لهم نكهة خاصة وقراءة مختلفة في الحزن وتقييم خاص في تقييم الفقيد الشهيد.
الاول نصري المعلوف اللبناني الوحيد الذي شارك في كتابة وفهم صيغة 1943 حين كان واحداً من رفاق الزعيم رياض الصلح. ثم كتب بخط يده بنوداً من اتفاق الطائف في العام 1989 حين التزم به كنائب عن الأمة اللبنانية، بعد توليه وزارات متعددة اهمها وزارة العدل.
نال إجازته في الحقوق من دمشق حين كانت العاصمة السورية أقرب من باريس وحفظ القرآن الكريم وهو الكاثوليكي القادم من قرية بسكنتا في جبل لبنان المسيحي.
لا تعرف ما إذا كانت الاناقة في الملبس بدأت معه او هو أحسن اختيار أحسن ما فيها حتى اليوم الاخير من حياته. ولا تعرف ما إذا كان النص الأنيق الدقيق من خط قلمه او جاء مختلفاً فتحوّل الى ما هو عليه من ترفّع ودقة.
بقي حتى اليوم الاخير من حياته الخيار الافضل في كثير من المجالات للرئيس رفيق الحريري بصرف النظر عمّا إذا استطاع تحقيق هذا الخيار ام لا. وبقي حتى التاريخ السابق نفسه المرجع الموثوق والمعتمد لمفهوم صيغة ,1943 ولنصوص اتفاق الطائف.
شهدت قاعات المحاكم اللبنانية مرافعات له مشهودة لا تنسى وعرفت له نصوصاً في السنوات الاخيرة من حياته لا زالت مرجعاً.
الثاني تحسين خياط رجل الاعمال الحادّ في صداقاته والأكثر حدة في خصوماته. لم أكن أعرف وأنا أراه يتردد على تقي بك أن لهما صلة تعود الى سنوات الصبا الاولى من عمر تحسين وأشقائه. كان تحسين يهتم بالاحتياجات الطارئة ل”البك””، وهو الذي يعمل في صناعة تكاد تبدو سرية، لمن لا يعرفها. وهي طباعة وتوزيع الكتب المدرسية باللغات المختلفة لمدارس دول الخليج العربي. قبل أن يعمل على تجهيز المدارس بما تحتاجه من معدات مدرسية سابقة لاستعمالها. ثم توسع الى شراء شركات عالمية متخصصة برسم الخرائط للدول المعنية بهذا الامر. هذا ما أعرفه على الاقل.
سمر زوجته التي تخصصت لفترة طويلة في إنجاب الاولاد من تحسين وله، توسعت في ابتكار الحدائق والتصاميم الجميلة لها.
نشأت بيننا صداقة لم أتخلَّ عنها رغم تأسيسه لتلفزيون “الجديد” على قاعدة العداء للرئيس الحريري، ورغم امور اخرى لا ضرورة لذكرها الآن. لأنني من باب معرفتي بأطباعه لم استغرب مرة ما يفعله حتى في الاعتداء الأخير عليه من المخابرات اللبنانية السورية، شعرت بأنني فخور بصلابته وبإصراره على مواجهة الظلم في الوقت الذي كان فيه أصدقاؤه وهم كثر يسعون لحل مشكلته مع العميد رستم غزالة بالحد الادنى من الخسائر. وقد عبّرت عن ذلك بالاتصال به من دبي التي كنت أزورها دعماً لموقفه وفخراً بمواجهته. إذ إنني لا استطيع أن أنسى استضافة سمر وتحسين لنا، زوجتي وأنا، في كان حين كانت “بكري” ثريا طفلة لا تستحلي مكاناً للراحة من البكاء غير كتفيّ في العام 1984 .
الثالث زهير عسيران نقيب الصحافة مؤقتاً والصحافي الدائم الذي يروي حكاية لبنان على أنها حكايته الشخصية. فهو أصغر رفاق رياض الصلح سناً وأكثرهم متابعة وحركة أطال الله في عمره. يعرفه الكثيرون من ضحكته التي لا مثيل لها صوتاً وصخباً. لكنني أعرف كم هذه الضحكة تعبّر عن أنّ فرح في قلبه وذكاء في عقله أطفئت أضواؤهما مؤقتاً حين غادر رفيقه تقي بك الدنيا. لا يعفيني كتاب مذكراته من الرغبة في الكتابة المحبة عنه.
الرابع هو السكرتير الشخصي والدائم “للبك” رامز محيو الخبير في القماش واللياقة قبل ان يصبح خبيراً في الدين والدنيا في غرفة مدخل منزل الرئيس تقي الدين الصلح.
رامز افندي تعلّم من سيّده اللياقة والدقة ومعرفة الناس، وهذا هو الأهم.
يعرف بيروت كما يعرف كفّه. بكبارها وتجارها و ” ذواتها ” والعامة من أهلها، رحمه الله.
لم يخطئ مرة في تقييم أحد من ضيوف سيده. كنت أستمع إليه قبل الدخول الى صالون الاستقبال لاعرف احوال الطقس الاجتماعي والسياسي للحوار الدائر. لم يخيّب ظني مرة في معرفته بالناس. إذ مَن كانت له خبرة في السوق والبيع والشراء يجيد معرفة أياً من الضيوف يبيع ويشتري وأيهم صادق بالقول وبالفعل. حين يعجبه شخص ما يصفه بالخواجة وهو يجمع أصابع يده اليمنى على بعضهما البعض.
إنتهى العزاء بتقي بك. وبدأ السؤال عما إذا كان ما حدث هو نهاية اللقاء الإسلامي أم لا؟