الصيغة. العدالة. الإنسان..
يستحق جمهور رفيق الحريري أن يعتبر الأمس يوم فرحة. كما كان الرابع عشر من شباط موعد للحزن، والرابع عشر من آذار إعلاناً لقدرته على إرسال صوته في جميع الاتجاهات مطالباً بالعدالة قبل الحقيقة.
العدالة ليست فقط رداً في وجه قتلة رفيق الحريري أياً كانوا ـ وهم ليسوا أياً على كل حال ـ ولا ثأراً لمن لحقوا بالشهيد الأول سريعاً في جنازاتهم. بل هي ـ أي العدالة ـ لمن بقي من الشعب اللبناني على قيد الحياة من الموالين والمعارضين. إذ لا يمكن لإنسان أن يكون مؤيداً لاغتيال قد يطاله في يوم من الأيام. ولا يمكن لمواطن أن يتجنب عدالة يحتاجها يوماً فيجدها إلى جانبه تدعم حقه الإنساني في الحياة خاصة إذا كان عاملاً في الشأن العام، فينتصر بالعدالة نفسها للتعبير عن رأيه فيصبح أقوى من “السوبرانو” صوتاً وأرفع كرامة حتى يكاد يصبح صدى صوته هو الحق.
ما حدث بالأمس في لاهاي من افتتاح رسمي للمحكمة الدولية بشأن الاغتيالات السياسية في لبنان وأولها الانفجار الذي شهدته منطقة “السان جورج” ولا يزال صداه يتردد حتى الآن. يجب أن يُدرج في الكتاب الجامعي اللبناني ليس لقانونيته ولا لدوليته، بل لما فيه تعبير عن قدرة الصيغة اللبنانية أن تنصر شعبها وحريته.
لا أحد يستطيع أن ينكر لسعد الحريري أو وليد جنبلاط أو لفؤاد السنيورة ما فعلوه للوصول إلى احتفال الأمس ولا بالطبع للوزراء الذين شاركوا رئيسهم ليالي الحزن في السرايا الكبيرة. لا أحد ينكر لهم دورهم لكن “الصيغة” التي يشكو منها لبنانيون يومياً هي التي فتحت لولي الدم الحريري الزعيم الشاب “الصبور” ولجنبلاط النسر المنطلق من سجنه، وللسنيورة الأسير السابق واللاحق للحكم والحكومة. فتحت لهم آفاق المناداة وأتاحت لجمهور رفيق الحريري أن يستمع ويلبي. الصيغة هي التي فتحت لهم الباب فوصل الصوت الى حيث يستطيع أن يفعل في العالم. ليس في عواصمه فقط بل في مركزه الأدق أي مجلس الأمن الدولي.
ماذا لو كان الاغتيال السياسي حاصلا في غير لبنان كما هو متحقق دائماً. من كان المنادي ومن هو القادر على الاستجابة؟
هذه القدرة لا تأتي فقط من الصوت ولا من الحزن وبالطبع ليست نتيجة لشعارات. هذه القدرة تأتي من نعمة نعيشها منذ زمن ويتنكر كُثُر لها كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
تداول السلطة. ولو شوهت. حرية التعبير مهما وقع منها في الأسر.
ما بقي من “جمال التداول” ومهما انخفضت نسبة المحرَّر من التعبير كافيان لأن ينجح اللبنانيون في مشاهدة حفل افتتاح محكمة دولية تنعقد لتعطيهم العدالة.
من لم يشارك هذه الفرحة احتفالها بالأمس ظلم نفسه. إذ أنها لكل اللبنانيين. الضعيف منهم قبل القادر. المنقطع منهم قبل الواصل. من يملك صوته فقط قبل مالك الكثير من الأصوات.
لو أراد سعد الحريري أن يتقاعد من العمل السياسي ـ وهو لن يفعل ـ لتقاعد اليوم، إذ صار في رصيده المعنوي ما يتجاوز رصيده المادي من ثروة حققها والده ولا بد أنه أضاف إليها في سنوات عمله السعودي. كذلك تستحق عينا أم نادر ـ بهية الحريري ـ أن ترتاح.
سعد الحريري ليس وحده في الرصيد الأول. كل لبناني يريد العدالة ـ وهذا يعني جميع اللبنانيين ـ شركاءه في احتفال الأمس. لا لسياسة ولا لثأر ولا لانتقام. بل لعدالة إنسانية، حققتها لنا “صيغة” الوطن الذي يسكننا.
حان وقت تقاعد السياسة من العدالة الدولية. ليس مثل العدالة راحة للضمير، ولا غيرها يحقق رحابة الصدر، وهي القادرة على جعل الإيجابي من العقل نوراً للأنفاق المظلمة.
حان وقت إنصاف “الصيغة” والفرحة بها. وصار علينا واجب ـ نحن المواطنين ـ إلزام السياسيين بالتقاعد من العدالة الدولية. أليس كذلك؟
****
الفرحة اليوم أيضاً في نيويورك عاصمة المال العالمي ولو على انهياره، وللرئيس الشهيد حصة فيه. ففي نيويورك يكرّم حاكم البنك المركزي رياض سلامة الذي اختاره رفيق الحريري منذ 14 سنة مسؤولاً عن النقد اللبناني الأعز على الناس مهما ادعوا غير ذلك.
لا يوحي لك الحاكم سلامة عندما تراه ـ دون معرفة ـ أنه أبرز حاكم للمصرف المركزي بين العرب. وجهه الطفولي. صوته المتقطع. ابتعاده عن الأضواء. غيابه عن الحفلات العامة والخاصة إلى حد “البخل الشديد” بالحضور.
استطاع هذا الشاب بخبرته العميقة غير الاستعراضية مماشاة تطور القطاع المصرفي اللبناني إن لم يكن التسبب به معظم الأحيان. ومواجهة أعاصير من الهجوم على الليرة اللبنانية، منها المعلن وأكثرها غير معلن، دون ارتباك.
هنا يظهر أن الاقتصاد الحر في لبنان ليس فضيلة “للصيغة اللبنانية فحسب، بل هو رافعة للإنسان الذي يريد النجاح فيجد في النصوص ـ وقد أحسن سلامة قراءتها ـ ما يمكنه من النجاح في مهامه وفي الحفاظ قبل ذلك على ودائع المواطنين من اللبنانيين والعرب عند أي هزة مصرفية، التي “يصدف” معظم الأحيان أنها تحدث لأسباب سياسية خارجة عن إرادة الحاكم والرؤساء الثلاثة أيضاً.
لم أكن أعرف منذ أسابيع أن لتعبير “الأيقونة” الإنكليزية معنى سياسيا يطلق على الاستثنائي من الناس، حتى زارني منذ أسابيع باحث أميركي من مؤسسة دراسات جدية ومعروفة جداً في العاصمة الأميركية.
الهدف من الزيارة السؤال عن الحاكم سلامة وكيف استطاع تأمين استقرار السياسة النقدية وسط العواصف المالية التي هزت العالم.
لم أجد جواباً ـ غير الوصف الشخصي ـ إلا ما عرفته بأن الحاكم أصدر تعميماً منذ أشهر طويلة طلب فيها من المصارف الامتناع عن الاستثمار في الأسهم ذات المخاطر العالية. للحاكم فقط أن يستنسب ما هي المخاطر العالية. ويبدو أنه فعل إلى درجة اعتبر فيها كل الأسهم الخارجية لها صفة المخاطر العالية. فسلِمت المصارف اللبنانية ـ كلها دون استثناء ـ من خسائر كان يمكن أن تلحق بها مباشرة نتيجة استثمارات خارجية في سوق الأسهم المنهار.
اجتهدت في الشرح للباحث الأميركي ـ على قدر معرفتي ـ دون دقة في تسمية عناصر الاستقرار النقدي اللبناني.
بالأمس سمعته يقول إن تحويلات اللبنانيين من الخارج بلغت في السنة الماضية ستة مليارات دولار. تذكرت “الصيغة” والإنسان اللبناني. وتذكرت أيضاً أن الباحث الأميركي أطلق على سلامة صفة “الأيقونة الاقتصادية”.
نهاد…