الامن سيد الاحكام
روى أحد الزعماء اللبنانيين، أنه زار أوروبا في الشهر الماضي، فقابل عددا من المسؤولين في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا. فوجئ الزعيم اللبناني بالتقدير الأوروبي له وطريقة استقباله وسرعة تحديد المواعيد الرسمية له. ليس لأنه لا يستحق هذا الاهتمام أو أنه ليس في الجهة المؤيدة لسياسة الغرب. بل لأن السبب الذي ظهر أمامه لهذا الاهتمام بعد المحطة الأولى من جولته، وهي باريس، هو تصريح أدلى به قبل سفره يدعم فيه دور الجيش اللبناني في إنهاء عملية التمرد المسلّح الذي تقوم به مجموعة “فتح الإسلام” في مخيم نهر البارد شمال لبنان. ويرفض في تصريحه نفسه أي دور للإرهاب في لبنان ويدعو المواطنين إلى نبذه ورفضه بشتى الطرق.
لم يخطر ببال هذا الزعيم اللبناني وهو يدلي بهذا التصريح أنه سيفتح له الأبواب الأوروبية أمامه باعتباره عنصرا فاعلا في المنظومة الدولية التي تناهض الإرهاب على مختلف أشكاله.
المفاجأة الثانية التي لاحظها بعد ذلك أن للدول الثلاث التي زارها شواطئ على البحر الأبيض المتوسط وأن المسؤولين في هذه الدول ألمحوا له أنهم طوّروا وسائل منع دخول الإرهاب إلى بلادهم برا وجوا لكنهم لا يعرفون سبيلا حتى الآن لمنع تصدير الإرهاب لهم عبر البحر نفسه الذي يقع عليه لبنان وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا. لذلك فإنهم يريدون من السلطات اللبنانية، التي يعتبر الزعيم أحد أركانها، الاهتمام بالجانب البحري من الأمن، منعا لرحلة إرهابية تبدأ من الساحل اللبناني ولا أحد يستطيع توقّع المرفأ المقصود في نهاية هذه الرحلة.
كشف هذا الحوار بين المسؤولين الأوروبيين والزعيم اللبناني، أن لا حدود للإرهاب وأن الجغرافيا في كثير من مناطق العالم أصبحت واحدة، أيا كانت الدول التي تقع عليها، ومهما اختلفت لغاتها ورغباتها فإن همومها الأمنية واحدة لا تتجزّأ.
ما الذي يجمع بين التفجيرات التي شهدتها لندن الأسبوع الماضي – بفضل بعض الأطباء العرب الذين أرادوا “ردّ” بعض ما تعلّموه إلى السلطات البريطانية، فاستبقوا ما يمكن أن يراه العرب من تغيّر في موقف رئيس الوزراء البريطاني الجديد، عن زميله السابق توني بلير – وبين تفجير في القوات الإسبانية في جنوب لبنان واليمن وإسبانيا أيضا، وبين الانتحاريين الذين يقاتلون كفرا لا يراه غيرهم في مخيم نهر البارد في شمال لبنان. وبين ما سبق وحدث في السعودية من أعمال مخلّة بالحياة الطبيعية التي هي حق لكل الناس. فضلا عما سبق ولحق في العراق من تفجيرات وحشية تقوّض دعائم دولة من أعرق وأغنى الدول العربية بالعلم والأرض والمياه والبترول أيضا، وبين المتفجرات في المغرب؟
ما الذي يجمع بين كل هؤلاء ؟
لا بد من الملاحظة بداية، أن هناك مبالغة في الحديث عن أن تنظيم “القاعدة” هو وراء كل هذه العمليات على اختلاف مواقعها وتنوّع منفذيها. طبعا هذا لا يعني تبرئة “القاعدة” أيضا. فأحد مواقع الإنترنت كشف في الأسبوع الماضي رسالة من شاكر العبسي المحكوم بالإعدام في الأردن والمطلق سراحه في سوريا، إلى زعيم “القاعدة” يناشده فيه تبنّيه ومجموعته والدفاع عنهم، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، طالما أنه يقاتل في سبيل تحقيق الأهداف ذاتها.
الجديد ليس في أن الدكتور أيمن الظواهري تجاهل ذكر مواجهات نهر البارد في رسالته الأخيرة. إذ إنه بدا منشغلا بالتغييرات الكبرى التي يريد تنظيمه تحقيقها بالدعوة إلى “تخريب” يدعم “استقرارها” وتفجيرات تحقق “أمن أهلها”. بل إن الجديد هو أن هذا العقل التكفيري أصبح جزءا من طلبات الانتساب إلى هذا التنظيم، على أن تقصر فترة التجربة كلما بانت القدرة على إحداث أكبر كمية ممكنة من الأضرار والتخريب في الدول العربية.
المستجد أيضا هو أن هناك دولا في المنطقة تفتح الباب واسعا أمام من يصلح لتطويع مجموعة من الشباب مهيّأة نفسيا ومعبّأة سياسيا قدر ما يحتمل عقلها، للقيام بعمليات من النوع الذي يحدث في مخيم نهر البارد. لقد تبيّن من خلال التحقيقات التي تجريها أجهزة الأمن اللبنانية أن أول منتسبي مجموعة العبسي وصل إلى لبنان في الشهر الثاني من عام 2006. وهذا يعني أن الأجهزة الأمنية السورية المتهمة بتسهيل عمل هذه المجموعة بدأت بالتخطيط لإمارة شمال لبنان منذ سنة ونصف. وهي مدة تزيد عن التخطيط والتنفيذ لعملية اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري. إذ إن المكالمة الأولى التي التقطت لأحد المكلفين بالمراقبة في محيط منزل جبلي للرئيس الراحل، جرت في شهر ديسمبر من عام 2003 أي قبل 14 شهرا من عملية الاغتيال.
من هنا يتضح مدى الآمال التي كانت معلقة على عمل هذه المجموعة، ومدى الخيبة التي حصلت عندما انكشف أمرها واضطرارها إلى مواجهة عسكرية مكشوفة دون أي غطاء سياسي.
متى موعد المجموعة الثالثة بعد مجموعة اغتيال الحريري والآخرين ومجموعة محاولة اغتيال الأمن اللبناني والفلسطيني في شمال لبنان؟
صحيح القول إن هناك آلافاً من الشباب في الدول العربية يرون أنفسهم في هذه الأعمال الإرهابية. بل أكثر من ذلك يرون أن أفضل ما في استطاعتهم هو تقديم أرواحهم ضحية لمفاهيم بالية وغير مؤكدة دون أن يتحسبوا أو يشعروا بمدى الضرر الذي يحققونه لأهلهم وبيئتهم ومحيطهم. لكن هؤلاء الشباب ما كان لهم أن ينضموا إلى مجموعات أو أن يقوموا بأعمال إرهابية ما لم تتح لهم فرصة التدريب والتسليح في دولة أو أكثر تشجّع على مثل هذه الأعمال، مستغلّة ضعف إدراكهم الإنساني والسياسي. فهي التي تحدد لهم اتجاهات الحركة بعد إمدادهم بكل ما يلزمهم من إمدادات عسكرية ولوجستية. النموذج الأحدث على ذلك أنه من أصل مئتي شاب عربي منتسب إلى “فتح الإسلام”، هناك 14 فقط، هم الذين دخلوا رسميا إلى لبنان عن طريق المطار من جنسيات عربية يسمح لها بالحصول على تأشيرة دخول إلى لبنان على المطار مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة. أما الباقون فقد دخلوا برا عبر مسارب التهريب على الحدود السورية، إلى لبنان.
هذه ليست أسراراً ولا مفاجآت. بل إنها بالتأكيد كانت على طاولة الاجتماع الذي عقد في الأسبوع الماضي في الرياض لوزراء خارجية وداخلية ورؤساء مخابرات دول مجلس التعاون الخليجي. كذلك فهي على طاولة الأمين العام للأمم المتحدة الذي أصدر بيانه حول تنفيذ القرار 1701 الراعي لنشر القوات الدولية على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، مشددا على مسألة الثغرات على الحدود اللبنانية – السورية. فضلا عن مهمة الأمين العام لجامعة الدول العربية الذي زار العاصمة السعودية قبل سفره إلى دمشق.
كل هذه المحادثات لن تغيّر من الواقع شيئا. إذ إننا نواجه أنظمة أمنية لا تعرف غير الأمن لغة للتخاطب. تريد من دول مجلس التعاون وساطة تضع هي دفتر شروطها. ومن الأمين العام للجامعة حدودا لا يقبل أحد برسمها. ومن الأمين العام للأمم المتحدة تصديقا على ما لا يرضاه أحد.
الرغبات. الحق.المبادئ. الاستقرار. لا تغيّر في الوقائع الأمنية شيئا. ولا في الوقائع السياسية أيضا. المواجهة وحدها قادرة على التغيير. حتى ذلك الحين يبقى الأمن سيّد الأحكام…