أمّا وقد وقعت الحرب ..
كنت في طريقي الى مارون الراس في الجنوب يوم الخميس الماضي، للمشاركة في حلقة على الجزيرة مع الزميل الصديق غسان بن جدو، الذي مهما بالغت في انتمائك الى صمود المقاومين، فإنه دائما أمامك حماسة في السؤال فكيف بالجواب؟ لذلك اختار موقعا لحلقته في ذكرى الحرب، تلاً يشرف على المستوطنات الإسرائيلية، حيث كشف المقاومون منذ سنة، بصمودهم المقاتل، مدى التخبّط في الإدارة العسكرية الإسرائيلية لقواتها النظامية.
قرأت أولا الرواية الإسرائيلية لمعركة مارون الراس وهي بالفعل فضيحة عسكرية وإدارية وأخلاقية لا تقع فيها أصغر العصابات في شوارع مكسيكو. من حيث فقدان التنسيق، والحساسيات الشخصية بين الضباط كباراً وصغاراً على أرض المعركة، والتحجّج الدائم بأن مفاجأة العدو، أي المقاومة، هي التي أضاعت توازنهم وقدرتهم على المواجهة.
ثم قرأت الرواية اللبنانية للمعركة نفسها للزميلة سعدى علو الملأى بالشهادات الحيّة، والمفعمة بالعاطفة الصادقة والمندفعة طبعاً لما حققه المقاومون في تلك التلة الحدودية.
إلى ان جاء دور الصحيفة السفير في الطريق الطويلة من بيروت. بدأت بالقراءة إلى يمين الصفحة الأولى. أكملت متسائلاً ومتفاجئاً، ما الذي حدث للزميل طلال سلمان ؟ ما الذي استجد على موقفه حتى يكتب بهذه الطريقة عن الحكومة ورئيسها؟ لم يفعل ذلك الناشر من قبل وليس الآن هو الوقت المناسب لطرح الأمور بهذه الطريقة. ليست الذكرى السنوية الأولى لحرب تموز بما سببته من تغيير في قراءات الحرب العربية الإسرائيلية، ومناسبة لفتح جراح لم يحن أوان نسيانها.
انتهيت من قراءة المقال وفي ذهني قرار بمفاتحة الناشر مساءً في اجتماع التحرير حول سبب كتابته وتوقيتها. أعدت الصحيفة إلى الصفحة الأولى منها بعد ان قرأت التتمة، لأجد ان الكاتب هو رئيس مجلس النواب نبيه بري وليس الناشر فازدادت حيرتي بدل أن أطمئن.
تعوّدت مناقشة الرئيس بري في كل شأن أفتش فيه عن حقيقة بدل السؤال في قراءتي للأحداث. وقد فعلت ذلك في الأسبوع الماضي حين استذكرت معه أيام الحرب ومدى نجاح التنسيق بينه وبين الرئيس فؤاد السنيورة أو الثنائي المرح على حد تعبيره وقدرتهما سوياً على كتابة أسطر جديدة في تاريخ لبنان ونصوصه القادمة من مجلس الأمن الدولي في نيويورك.
استمر تدفق الكلمات الدافئة الفخورة من الرئيس بري في الأسبوع الماضي، حتى تذكّر جلسة الحوار التي حجب فيها الرئيس السنيورة عنه، معلومة استلام الحكومة للصياغة النهائية للمحكمة ذات الطابع الدولي وانعقاد مجلس الوزراء في غير موعده المقرر لاقرارها. بقية الرواية معروفة باستقالة وزراء حركة أمل وحزب الله من الحكومة احتجاجاً على اصرار الرئيس السنيورة على التصويت على المحكمة ونيلها ما تبقى من اجماع بعد خروج وزراء الحركة والحزب ويعقوب الصراف الوزير المحسوب على الرئيس لحود.
***
لم افترض قبل صدور المقالة ان على روزنامة الرئيس بري الكثير من الاعتراضات الحادة والشخصية على الرئيس السنيورة. بل ان لديه ما لدى غيره من اعتراضات تقليدية لمعارضة بنّاءة على رئيسٍ للحكومة يواجه في السياسة اللبنانية والعربية والدولية ما لم يواجهه غيره من قبل سواء من حيث الحدة في الاعتراض أو المبالغة في التأييد.
لكن بما ان المقالة أخرجت ما كان مختبئاً فلا مانع من سرد الروايات التي تناولت الرئيس السنيورة وصوّرته على انه شريك استراتيجي للسياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.
لا بد من التحديد أولاً بأن الإدارة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي ترى في الرئيس السنيورة الشخصية الأكثر فعالية بين أقرانه في الشرق الأوسط. وهذا ليس بفضل تصرفه أو رغبته فقط، بل بسبب التحالفات السياسية التي دعمت وصوله إلى رئاسة الحكومة والتي استمرت وعلى رأسها سعد الحريري في حماية قرارات الرئيس السنيورة وبقائه سيداً للسرايا الكبيرة.
هذه الحقائق لا تنال من صورة الرئيس السنيورة ولا من طبيعة قراراته ولا من اتجاهه السياسي إلا إذا قبِل الرئيس بري الاتهامات الافتراضات التي تتربّى في حضن القلق والهواجس والأوهام التي تصوّر لحزب الله الوقائع على غير حقيقتها، والمقابلات بغير مضمونها، والقرارات بغير ما أحاط بها من مناقشات، والأحداث بغير مجراها الصحيح.
بداية تجاوز الرئيس السنيورة واقعتين شارك في واحدة منهما وعرف بالثانية بالتأكيد.
الواقعة الأولى ان رئيس الوزراء نقل إلى الحاج حسين خليل المعاون السياسي للأمين العام للحزب تحذيراً من وزارة الخارجية الالمانية، جاء فيه ان إسرائيل سترد بقسوة شديدة عسكرياً إذا ما قام الحزب بعملية خطف لجنودها، في الوقت الذي كشفت فيه عملية خطف جندي إسرائيلي في غزة ضعفاً شديداً في قدرة الحكومة والجيش معاً على استرداد الأسير من الأراضي الفلسطينية. وتبين من الحديث بين الحاج حسين والرئيس السنيورة في السرايا الكبيرة انه سبق للألمان ان أبلغوا الحزب مباشرة بهذا التحذير.
الواقعة الثانية ان زعيم كتلة تيار المستقبل سعد الحريري أبلغ المسؤول الحزبي نفسه رسالة من الرئيس جاك شيراك شخصياً يحذّر فيها من نتائج عملية خطف للجنود مماثلة للتي حدثت في غزة.
لم تجد قيادة الحزب في هذين التحذيرين الصديقين، غير تجاهلهما والاستمرار في تنفيذ قرار عمليات سابق، استناداً الى وعد سابق من الأمين العام للحزب بالافراج عن الأسرى اللبنانيين بعد الغدر الإسرائيلي به في التبادل الأخير للأسرى والذي لم يتضمن الافراج عن لبنانيين اثنين من الأسرى رغم وعد الحكومة الإسرائيلية للوسيط الالماني بذلك. ولم يجد الأمين العام ما يبرر به حجم الدمار الذي حققه الاعتداء الإسرائيلي على لبنان إلا بالاعتراف صادقاً انه لو قدّر ان رد الفعل الإسرائيلي سيكون بهذا الحجم لما قام مقاتلو حزبه بعملية الخطف.
***
أول الاتهامات الافتراضات حدثت نتيجة زيارة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية دايفيد والش إلى بيروت للتفاوض على وقف اطلاق النار، والتي تم فيها صياغة القرار 1701 بالشراكة بين الرئيسين بري والسنيورة.
الرواية التي سمعتها من الحاج حسين خليل والرئيسين فؤاد السنيورة ونبيه بري، وذلك قبل سريان مفعول تعميم الافتراضات الاتهامات. تقول الرواية الثلاثية ان الرئيس بري كان مجتمعاً في عين التينة مع الحاج حسين خليل وقد اغلق باب مكتبه من الداخل بالمفتاح منعاً واقعياً لدخول أحد عليهما. فإذا بأحد مساعدي بري يبلغه هاتفياً بوصول الرئيس السنيورة فطلب من الحاج حسين بتهذيبه الجنوبي فتح الباب من الداخل لرئيس الحكومة.
لم ينتبه الرئيس السنيورة إلى وجود الحاج حسين إذ انه كان لا يزال وراء الباب الذي فتحه. إلى ان تقدم الحاج حسين من السنيورة مصافحاً. المهم ان الاجتماع الثلاثي تناول الورقة الأميركية ولكنه كان قصيراً، بعد ان اذاعت محطة العربية نبأ الاجتماع الثلاثي واضطرار الحاج حسين إلى المغادرة خوفاً من قصف إسرائيلي لدارة رئيس المجلس النيابي بسبب وجود مسؤول من حزب الله، على حد قول المعاون السياسي للأمين العام للحزب.
يكمل الرواة ان الرئيس السنيورة لم يتبنَّ ما جاء في الورقة الأميركية ولا تخلى عنها، بل ناقش بنودها مع رئيس المجلس والمسؤول الحزبي للخروج باتفاق يحفظ للبنان حقوقه دولياً بعد الدمار الذي أحدثه العدوان الإسرائيلي على أهله وبنيته التحتية.
الرواية الثانية تتحدث عن شاحنة ذخيرة للحزب متوسطة الحجم قادمة من الهرمل عن طريق فاريا. أوقفها الجيش اللبناني على حاجز له في كفرذبيان وصادرها باعتبار ان مرورها غير منسّق مع المخابرات العسكرية. اتصل مسؤول أمني في الحزب بمدير المخابرات طالباً الافراج عنها، فأجابه مدير المخابرات انه لا يستطيع الافراج عنها إلا بتعليمات من رئيس الوزراء. اتصل المسؤول الأمني نفسه برئيس شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي طالباً تدخله لدى الرئيس السنيورة للافراج عن الشاحنة. بالفعل ذهب رئيس شعبة المعلومات إلى رئيس الحكومة في مكتبه طالباً تدخله. ارتأى الرئيس السنيورة انه ليس باستطاعته طلب ذلك هاتفياً، إذ ان مكالماته بالتأكيد مرصودة ومساعد وزير الخارجية الأميركية يصل في صباح اليوم التالي إلى بيروت، فكيف يسجل على رئيس الحكومة انه أفرج شخصياً عن ذخائر وسلاح وهو يفاوض على وقف اطلاق النار؟
طلب رئيس الحكومة من رئيس شعبة المعلومات ابلاغ مدير المخابرات باسمه شخصياً ضرورة الافراج عن الشاحنة. وهذا ما حصل في الليلة نفسها.
لو راجعت قيادة الحزب ما حدث في تلك الليلة لافترضت ان الرئيس السنيورة ورئيس شعبة المعلومات ومدير المخابرات فعلوا ذلك خوفاً من الكلام الكبير الذي قاله المسؤول الأمني في الحزب. لكن هذا غير صحيح بشهادة من كان في السرايا ليلتها وحضر المناقشات، دون ان يشترك فيها.
الرواية الثالثة تتناول ما نشر عن رغبة الرئيس السنيورة بنزع سلاح حزب الله في منطقة جنوب الليطاني بعد صدور القرار 1701 الراعي لنشر قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان. وهذا الأمر صحيح إذ لا يمكن للقراءة الأولى للقرار الدولي إلا ان تعني ان لا سلاح في جنوب الليطاني لا ظاهرا ولا مخبأ. والرئيس السنيورة لم يخف موقفه هذا أمام كل من ناقشه في نص القرار بما في ذلك قيادة الجيش. فلماذا افتراض التآمر ما دام الأمر صريحاً ومعلناً. لم يغيّر الرئيس السنيورة موقفه بناء على طلب جهة لبنانية أياً كان موقعها. بل ان سفراء الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن هم الذين أبلغوه في السرايا ان قراءتهم للقرار الدولي لا تبرر نزع سلاح الحزب في جنوب الليطاني، وأن انتشار قوات الطوارئ الدولية سيضمن اختفاء السلاح. وهكذا كان.
الرواية الرابعة عن طبيعة الصلاحيات التي أعطيت للجيش اللبناني المنتشر في الجنوب، وما إذا كان يحق له المداهمة بحثا عن سلاح أو توقيفا لأشخاص.
أعرف تماما أن الرئيس بري تولى التفاوض حول هذا البند وقرأ في الكتب العسكرية مضامين درجات الاستنفار واختار منها ما يعطي الجيش الحق في المداهمة والتوقيف بناء على طلب القضاء المختص وليس استنسابياً.
صحيح أن الرئيس السنيورة عمل على صلاحيات أوسع للجيش اللبناني، لكنه وافق دون تردد ولا تمرد على ما اختاره نصف ثنائيه المرح، أي الرئيس بري.
الرواية الخامسة تحدثت عن جهد قام به رئيس الحكرمة لنشر قوات متعددة الجنسيات على الحدود اللبنانية الاسرائيلية. وهذا غير صحيح إطلاقا إذ لا يحتاج قرار من هذا النوع الى معرفة سياسية ودبلوماسية عميقة. فالقوات المتعددة الجنسيات تعني صلاحيات عسكرية تنقل الاشتباك الى الداخل اللبناني. وقد سبق للبنان أن جربها في العام 83 اثر الاجتياح الاسرائيلي وشهد شعبه نتيجة ذلك حروبا ودمارا. فمن هو العلاّمة الدبلوماسي الذي سيطالب بها مرة اخرى. بالتأكيد ليس الرئيس السنيورة.
الرواية السادسة تحكي قصة النقاط السبع وهي معروفة لدى جميع المتابعين وعلى رأسهم الرئيس بري الذي تولى تعديل أولوياتها وإقرارها في مجلس الوزراء.
الرواية السابعة تتحدث عن اتصالات خارجية قام بها سعد الحريري مطالبا بنزع سلاح المقاومة. اذا كان هذا الافتراض صحيحاً فما هو تفسير الموقف الفرنسي الصديق للحريري والداعي الى إخفاء السلاح في جنوب الليطاني دون نزعه. أما التزامه اللاحق بالموقف السعودي المعترض على توقيت الحرب فهذا ليس مفاجئا، ويدخل في باب الضرورة السياسية وليس في باب التآمر الخارجي.
***
هذا غيض من فيض من روايات الحرب التي اذا ما افترضت سوء النية عند الطرف الآخر، يصبح التآمر حاضراً دون منافس أو مفسر، اذ ان طبيعة الاشتباك الاقليمي الحادة والمنتشرة على عدة جبهات تسهل الاتهام بالتآمر وتكرّم روايات الرغبة بالسيطرة عند الحزب كيفما تحرك ومهما قالت قيادته.
أما وقد وقعت الحرب فماذا نفعل؟
سبقني الزميل حسام عيتاني الى السؤال في مقالته في اليوم التالي لنشر مقالة الرئيس بري، لكن السؤال يبقى قائما ولو استعمل مرتين.
لا أعرف ما هو تحديد المسؤولية الوطنية الغائب عن عمل الحكومة. ولا أفترض أن الحرب ردت مزارع شبعا وتلال كفرشوبا الى لبنان وحررت الأسرى وجعلت اسرائيل تسلّم خرائط حقول الالغام الاسرائيلية.
من تسبب بصدور القرار الدولي الباحث عمن ينفذه معظمه في دمشق هو الصمود السياسي الذي لم يستعجل وقف إطلاق النار على عكس العسكريين، دون الحصول على ثمن سياسي. وهو صمود كان الرئيس بري رأس حربة فيه.
يفترض الرئيس بري في مقالته أن الرئيس السنيورة يحرم لبنان من الجمهورية الفاضلة لكثرة المهام التي حددها له، فيجعل من السهل الدفاع عنه. فلا اسرائيل بحاجة الى شهادات عن عدوانيتها المستمرة جواً، ولا أحد قصّر في وصف صمود المقاتلين، بما في ذلك الرئيس السنيورة نفسه في كلمته بمناسبة ذكرى الحرب.
ليس أجمل من الكلام عن الجنوب عندما يأتي على لسان الرئيس بري أو بقلمه. لكنه لا يستطيع أن يمزجه بالحديث عن المشاركة الحكومية التي كانت أمراً طبيعياً لولا الاشتباكات الاقليمية التي عرفها الرئيس بري أولاً قبل أن يلحق الآخرون بالمعرفة.
ألا تتطلب الذكرى الأولى للحرب مراجعة جدية لمجريات الأحداث التي بدأت بالتمديد لرئيس الجمهورية واغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، إلى حرب إسرائيلية كشفت عورات القوى السياسية اللبنانية وعجزها.
لا يكفي احياء ذكرى البطولات والتضحيات وهي أكيدة، والتفتيش عن حائط تعلّق عليه المؤامرات، فما جرى في الجانب الآخر من آثار اجتماعية واقتصادية وانقسام سياسي لا يقل تأثيراً في الجسم الضعيف للنظام اللبناني. فإذا بالمعارضة تريد من الحرب مدخلاً لتعديل في الميزان السياسي الداخلي، تحت شعارات التخوين.
ألا تلاحظ قيادة الحزب ورئيس مجلس النواب أن الكلام عن مرجعية الرئيس السنيورة يأتي في الوقت الذي تتشكل فيه مرجعية عسكرية إرهابية هي القاعدة ، التي يبارك الرجل الثاني فيها أيمن الظواهري الاعتداء على اليونيفيل في الجنوب، حيث للحزب قدرات معلوماتية وسيطرة على الأرض وما فوقها وما تحتها لو أراد. ثم يناشد الظواهري المسلمين اللبنانيين بتحطيم حلقة الحصار المفروضة عليهم.
حين كتبت منذ أشهر طويلة مقالة تحت عنوان الحريري أم الظواهري بعد أن اعلن الظواهري أن القرار 1701 سقطة كبرى للبنان ولمسلميه. لم يخطر في بالي أن القاعدة ستجد من التسهيلات المحلية والاقليمية ما يسمح لها بالعمل المباشر في لبنان، ولكن الامر حدث تحت أنظار الجيش والحزب واليونيفيل في الجنوب. فهل يحتاج الامر الى التساؤل من جديد، أما وقد وقعت الحرب، فالحريري أم الظواهري؟
الجواب عند الرئيس بري.