وزير الداخلية يكافح التصحر!

قالـوا عنه 21 مارس 2018 0

:: قاسم يوسف ::

ليس في سوق الاستهلاك المحلي ما يستحق التوقف أو التأمل. لبنان يهرول بقده وقديده نحو التصحر، والسياسة في بلادنا باتت صنو البذاءة وصنو الابتذال، فيما تلجأ الكثرة الكاثرة نحو الارتجال الشعبوي والأدبيات الممجوجة والخطاب السهل.

ليس سهلًا أن تحضر هذه المنازلة بكل قوامك، وليس عابرًا أن تحافظ على تبقى من قيم ومن فرادة وابتكار.

يخرق نهاد المشنوق هذه الرتابة بفيض من النبل والحصافة. يُصر، مثلًا، على استحضار كل لباقته في حوار مع الأجيال الإلكترونية، وكأنه لا يأبه لأي تبسيط أو تسريع ما لم يكن على سجية السهل الممتنع، وإن تعذر المزج لسبب أو لأخر، فلا بد أولًا من تحصين الصورة والقول، ولاحقًا تأتيك المضامين، تمامًا كما لو أنها فراشة تعطرت لتوها ثم راحت ترتدي برشاقة حُلة العيد.

يطرب نهاد المشنوق لوقع الكلمة، ويريد للجميع أن يرقص معه على إيقاعها. كيف لا ونحن أهل النص. طالما كنا كذلك. نرتجف كلما سمعناه. نتلقف سحر بيانه ونحسن الصمت المحبب أمام طنين سجعه وروعة بديعه. لا نشوة تفوق هذه النشوة ولا سعادة، وهذه أحجية لن يفهمها إلا كل متذوق وكل لمّاح.

يقول شاب متحمس إنه ذهب يومًا إلى لقاء نهاد المشنوق عقب نشره لمقالة قاسية تنتقد انتقالة الأخير من الشارع إلى الدولة. تريث المتحمس قبل الذهاب وفكّر. ثم راح يتحضر لمواجهة عنيفة حول مضمون ما كتب، لكن نهاد المشنوق باغته حين التقاه بابتسامة عريضة ودافئة، ليعود ويردد على مسامعه ومسامع الحاضرين: لقد ضربت بهذه اللغة عن الوتر الذي أحب.

ثمة رواية يسردها نهاد المشنوق قد تختصر جانبًا أساسيًا لهذا النزوع وهذا الشغف المستفيض. هي حكاية رسالة عجيبة كتبها صديقه وحكيم بيروت تقي الدين الصلح إلى رئيس دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان بمناسبة تبرعه لإعادة بناء سد مأرب في اليمن. يقول في ما يقول: بدأ تقي بك كتابة الرسالة ولم ينهها إلا بعد أسابيع على عادته، ثم جاء جواب الشيخ زايد بعد شهرين. كان واضحًا أن كلاهما حرصا على الكتابة حفرًا.

لاحقًا اطلع الرئيس حسين الحسيني على نص الرسالتين، فقال: الآن فهمت سبب تأخرهما في الكتابة وفي الإجابة، إذ أن مثل هذه النصوص يحتاج إلى سهر الليالي.

أعاد الفرنسيون، ومعهم كل العالم، اكتشاف شارل ديغول كاتبًا وأديبًا، قبل أن يكتشفوا فرانسوا ميتران, ذاك السياسي المحنّك الذي يُعطي الكلمة مكانة مرموقة، على ما يقول جوزف سماحة في مقالة بديعة. ونحن أيضًا سنعيد اكتشاف نهاد المشنوق، وسننصف براعة قوله وسلطة نصه وسحر بيانه.

في خضّم هذا الزحام الشديد، وفي غمرة التحضيرات وضجيج الانتخابات وصخب الوزارة ومشاغل الترشح وبيروت والناس، سيجد نهاد المشنوق حتمًا وقتًا لقراءة هذا النص. وهذا وحده ما يبعث على الفرح. إذ أن في بلادنا اليابسة وزير داخلية لا يزال حريصًا على القراءة والكتابة وعلى الشغف والاخضرار.