هل يمكن “خصخصة” قرار الحرب والسلم؟

مقالات 26 يونيو 2006 0

تذهب إلى الرئيس نبيه بري في عين التينة العائد من اجازة طويلة، فلا تعرف الى أين يأخذك الحديث معه الى ايطاليا وسويسرا حيث الإجازة ، او الى القاهرة الزيارة الرسمية الاخيرة له أو إلى طاولة الحوار التي يعدّ كراسيها ويؤشر على اسطر ملفها الأعقد “الاستراتيجية الدفاعية” بكل الألوان، لكنه لا يتخلى عن الاجماع حولها مهما حالت صعوبات دون ذلك.
يبدأ في القاهرة حيث التقى الرئيس حسني مبارك والامين العام للجامعة العربية عمرو موسى ووزير الخارجية أحمد ابو الغيط، وهو في ضيافة زميله المصري احمد فتحي سرور، ووزير الأمن السياسي المصري اذا صح التعبير عمر سليمان.
يسبق الرئيسَ المصري في تبرير كلامه عن ولاء الشيعة العرب، فيقول له هل تقبل بشهادة مصطفى الفقي، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشعب؟ أليس هو من قال نحن في مصر شيعيو الهوى سنيو الهوية؟ نحن في لبنان سنيو الهوى شيعيو الهوية.
يرتاح الرئيس مبارك في جلسته ليبلغه بأنه سيستقبل غداً علي لارجاني، سكرتير مجلس الأمن القومي الايراني ومسؤول الملف النووي.
لم يحتج الرئيس بري الى القول ان العلاقات المصرية الايرانية تعزز موقع مصر في السياسة الدولية. إذ ان طهران الآن تقع على خط التماس مع العواصم الاوروبية فضلا عن واشنطن، ممّا يعطيها اهمية سياسية استثنائية في اي اتجاه ذهبت سياستها.
لا يعود يفرّق الرئيس بري “عن قصد” بين كلامه مع الرئيس مبارك او غيره من المسؤولين المصريين، اذ ان هذه الصيغة تُريحه في التعبير من دون ان تلزمه بنَسْب الكلام الى من قاله. يخلط الرواية بالطرفة بمحضر الحديث، فلا تعود انت لتفرق بينها.
يراهن في حديثه القاهري على نجاح الحوار بين رئيس السلطة الفلسطينية ومن يمثّل، وحركة حماس المنتخَبة والممسكة بحكومة غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه شعبها.
يجد في الصدام الفلسطيني مشكلة في كل بلد عربي. يضيف “كل المشاكل تبقى في أرضها، إلا المشكلة الفلسطينية فهي مشكلة وطنية لكل عربي”، فكيف بلبنان الحائز وجودَ المخيمات المسلّحة المطلوب تنظيمها، والمفضَّل لدى تنظيمات فلسطينية تقبع بسلاحها خارج المخيمات تنتظر قراراً بنزع سلاحها اجمع عليه المتحاورون اللبنانيون على طاولة المجلس؟
يربط الرئيس بري العودة الى تنفيذ هذا القرار بعد خروج الدخان الأبيض من الحوار الفلسطيني في الداخل.
ماذا عن العراق؟ متى يُعقد طائِفُه؟ هل حان زمن التسوية ام ان لائحة القتلى لم تكتمل بعد؟
صار الرئيس بري مسكوناً بالحوار. يربط بين التسوية في العراق والحوار الاميركي الايراني.
لا يُخفي الرئيس الحرّيف، وهو يشير بيده الى محاوره، قلقه وحذره من المفاوضات الاميركية الايرانية ولا يعتقد بسهولتها ولا بمدتها الزمنية القصيرة، “إذ ان الفتوى في امر كهذا تأخذ وقتاً طويلاً، اطول مما تريد واشنطن حيث الفتوى تنتظر دورها في وزارة الدفاع”.
إذاً، لماذا الجلوس الى طاولة الحوار اللبناني يوم الخميس المقبل ما دامت الطاولة الرئيسية الكبرى مؤجلة بين طهران وواشنطن، وما دامت الطاولتان الأخريان في فلسطين والعراق ما زالتا على حالهما؟ “لا خيار امامنا غير الاستمرار في الحوار. إذ من دون ذلك نعلن وفاة استقرارنا السياسي، وندخل في نفق من التجاذب الحاد شكلاً ومضموناً بدلاً من تناول عنوان مصيري مثل الاستراتيجية الدفاعية على طاولة مهما قيل فيها او حولها فإنه لا يتجاوز الخلاف السياسي الممكن تطويقه وايجاد مخارج له موقتة او دائمة. لن أقبل إلا بإجماع على هذا العنوان. وإذا كنت محايداً في عناوين اخرى فإنني في العنوانين الاقليميين، اي مزارع شبعا والاستراتيجية الدفاعية، طرف يعمل لتحقيق حوار يؤدي الى تفاهم واضح ونهائي في هاتين النقطتين. لا يجوز لأحد الاستخفاف بقرارات الحوار التي أُقرت بالإجماع، إذ انه حين يحين موعد تنفيذها تكون حاضرة وموقعة من الجميع. حتى لو ظهر الآن ان تنفيذ هذه القرارات غير ممكن، فعلينا ان ننتظر الظروف السياسية المناسبة لما اتفقنا عليه وعندها تقوم الحكومة الموجودة او غيرها بالاتجاه مباشرة نحو التنفيذ، لا نحو الجدل حول مضمونها”.
“تفضل”. هذه هي الكلمة المدخل من الرئيس بري للمحاور بالكلام. قلت له: لقد قرأت ملخصا عما قاله السيد حسن نصر الله في مطالعته على طاولة الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية، وهو مراجعة للكلام الذي يقوله السيد نصر الله لزواره منذ ثلاثة اشهر. صحيح ان المطالعة مبرمجة ومفندة لكنها لا تخرج عن نطاق المعروف من قراءته لهذه الاستراتيجية.
هو يعتمد في التعابير العالمية للادارة، نظام “الخصخصة المجانية”. الفرق ان الجهة المعنية بهذا الموضوع هي تنظيم اهلي مناطقي من لون واحد يريد قرار السلم والحرب اللبناني بيده وحده، وليس ادارته من طرف إدارة الدولة الخاسرة التي بإمكان الادارة الخاصة وحدها ان تحييها وتجعلها مربحة.
الفرق الثاني ان هذه الادارة المتحالفة مع سوريا وايران اتت بربح غير مسبوق في العالم العربي حين انسحبت اسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلة من دون توقيع معاهدة سلام.لذلك تجد في ماضيها مستقبلاً يحتذى به
الفرق الثالث ان وحدانية الانتساب الى التنظيم ليست قوة إقناع بقدر ما هي مجال سجال باعتراف السيد نصر الله.
يستنتج السيد نصر الله في مطالعته ان لبنان موجود دائماً في دائرة التهديد، ويمكن ان يذهب ضحية الصراع سواء عبر الاطماع الاسرائيلية او ظروف المنطقة او الصراع المستمر على فلسطين.
إذا كان لبنان لا يزال تحت وطأة مسؤولية الصراع على فلسطين، فكان علينا ان نسمح لجزء من الجيش الاسرائيلي بأن يبقى على أرضنا كي نستمر على تماس معه لا يتعارض مع مفردات مجلس الأمن الدولي.
يحدّد سيد المقاومة أشكال التهديد المباشر وغير المباشر ويدعو الى استراتيجية دفاعية شاملة على الصعد العسكرية والأمنية والدبلوماسية والاقتصادية والتربوية والتعبوية.
تقوم هذه الاستراتيجية على المزايا الجغرافية لجنوب لبنان، التي تجعل من نصف سكان اسرائيل في مرمى الصواريخ التي خلقت توازن الرعب بالتجربة المعاشة من قبل المقاومة، والتي تعتمد القدرة اللوجستية المرنة والسرية، وكون المقاومة محلية اي انها تعيش بين أهلها مع صواريخها.
تتحدث استراتيجية “حزب الله” عن عدم إمكان الاعتماد على الجيش لمنع الاعتداء وإقامة التوازن، لأن الجيش مكشوف وغير مخندق، والعبء المالي يحول دون تعزيز قدراته وصعوبة الحصول على عتاد في حال توافر الإمكانيات…
الصيغة النهائية للمشروع تقول بالتنسيق مع الجيش على قاعدة ان الدولة متفهمة ظروف المقاومة والمقاومة متفهمة ظروف الدولة.
هذا منطق لا يقوم في الشركات فكيف بين دولة وتنظيم اهلي. كيف يمكن لاستقرار في لبنان ان يعيش والقرار الاهم في حياة شعبه ليس بيد الجهة التي خولها الشعب هذا القرار، اي مجلس الوزراء. الخيار المعروض امامنا يتناول الدولة في ضعفها والجيش في عجزه ويضعنا امام خيار بين أمرين احلاهما مُر: إما صراع من ضمن سياسة المنطقة التي لا نشارك في بلورتها، وإما صراع داخلي لا نريده ولا نسعى إليه. فأيهما نختار؟
اعتمد اللبنانيون اتفاق الطائف كصيغة نهائية لحياة وسائلهم ووسائطهم السياسية والدستورية. الآن انتهى الزمن الذي كان ممنوعا علينا تنفيذ بنود هذا الاتفاق، فإذا بنا نُدعى الى الاستغناء عن منطق الدولة الراعية المسؤولة في البند الاول والاوسع تمثيلا لحياة اللبنانيين، مرة بسبب السوريين في الوقف الشامل لتنفيذ هذا الاتفاق لمدة 15 سنة، ومرة اخرى بتأجيل تنفيذ اهم بنوده بطلب من حزب الله ولزمن غير محدود. هل يمكن خصخصة قرار الحرب والسلم يا دولة الرئيس؟
يبتسم الرئيس بري من دون ان يجيب. اتابع الكلام عن الورقة التي تقدم بها وليد جنبلاط رداً على مطالعة السيد نصر الله. أقول له: لقد ناقشت “وليد بك” الاسبوع الماضي في المختارة حيث إقامة النسر الجارح.
تعترف الورقة المعنونة ب”ملاحظات اللقاء الديموقراطي”، بالتضحيات الهائلة التي بذلتها المقاومة اللبنانية والاسلامية، لكنها ترى ان أهل الجنوب يتذكرون استعمال أرضهم كساحة للصراعات الاقليمية في اطار حسابات لا تتعلق لا بمصلحة الجنوبيين ولا بالمصالح الوطنية العليا، ما يتطلب مناقشة عقلانية وهادئة لمستقبل الدفاع عن الجنوب آخذين في الاعتبار ما تمثله المقاومة لأهله، وإمكانية الاستفادة من خبرات رجالها وتجربتهم في إطار استراتيجية دفاعية تجمع بين متطلبات حماية لبنان ومنطق ممارسة الدولة، عبر مؤسساتها الشرعية، إحدى اهم وظائفها السيادية، اي الدفاع عن أرض الوطن.
تؤكد الورقة سقوط الهامش بين الدولة والشعب لصالح الخيار اللبناني الواحد في الصراع العربي الاسرائيلي الذي حدد في اتفاق الطائف. لكن المقاومة تكون قبل زوال الاحتلال وليس بعده، حيث لا يوجد في التاريخ القديم أو التاريخ الحديث اي نموذج للمقاومة طرح نفسه بديلاً عن الدولة في الدفاع عن أراضيها بعد زوال الاحتلال. فالمقاومة في كل من فرنسا والاتحاد السوفياتي سابقا وفيتنام وغيرها من الدول، انضمت بعد التحرير الى مشروع الدولة الذي له الحق السيادي في ممارسة الدفاع عن الأراضي اللبنانية.
تتابع ورقة اللقاء الديموقراطي التساؤل:
يبدو ان الامين العام لحزب الله يعتمد في الاستراتيجية الدفاعية عن لبنان على خيار أساسي، هو ترسانة الصواريخ التي برأيه قادرة على اقامة التوازن مع اسرائيل ومنع الاعتداء على لبنان. ان ثمة اعترافا ضمنيا في مداخلة السيد حسن نصر الله بأن الاجتياح امر ممكن حصوله، حتى في وجود المقاومة، حيث يعتبر “انه لا مفر لاسرائيل لوقف الهجمات الصاروخية إلا باحتلال الجنوب بكامله”. ألا يوجد تناقض في هذا الطرح. فمن جهة يعتبر “حزب الله” ان قوة الردع الصاروخية لديه تحول دون قيام اسرائيل بمغامرة هجوم بري على لبنان، ومن جهة ثانية يقول السيد حسن نصر الله انه من اجل وقف الهجمات الصاروخية للمقاومة ليس امام اسرائيل سوى خيار واحد هو احتلال الجنوب بكامله. هذا يعني ان خيار احتلال الجنوب قائم حتى بوجود الردع الصاروخية. من هنا نتساءل ما هي مهمة الصواريخ، هل هي للدفاع عن لبنان؟ ام هي مخصصة لاغراض اخرى خارجة عن متطلبات الدفاع؟ وثمة سؤال آخر: اذا حصل، لا سمح الله، احتلال اسرائيلي للجنوب وتم احتواء ترسانة الصواريخ لدى “حزب الله”، فما هو البديل عن توازن الرعب، وما هي الخيارات المطروحة لحماية لبنان، خصوصا ان السيد حسن نصر الله قد اعتبر ان الجيش اللبناني على مستوى من الضعف لا يمكنه من مواجهة المخاطر الاسرائيلية؟ لقد قدم السيد حسن نصر الله صورة سلبية عن وضع الجيش، واصدر حكما مبرما على المؤسسة العسكرية، واعتبر انها عرضة للتدمير من قبل العدو الاسرائيلي خلال ساعات. إننا نتساءل: لماذا لم يقدم اي تصوّر لتطوير الجيش والاستفادة من امكاناته في الاستراتيجية الدفاعية؟ ولماذا هذا الحكم المتسرع على اننا لا نستطيع بناء جيش قوي نظراً لكلفته العالية او للعقبات المفترضة والتي تحول دون شراء السلاح والعتاد؟ ولماذا تكلّف لبنان كل هذه الاموال على اعادة بناء الجيش اذا كانت الاستفادة منه في الدفاع عن لبنان امرا غير وارد؟ ولماذا لم يقدم السيد حسن نصر الله اي تصوّر عن كلفة الدفاع عن الجنوب لنرى ما اذا كانت الدولة قادرة على تحملها ام لا؟
إننا لا نختلف مع “حزب الله” على اهمية الدور الذي لعبته المقاومة في تحرير الأرض وفي الخبرات التي تمتلكها، وفي الميزات العملية لديها، من المناورة السريعة والسرية، الى القدرة الصاروخية وغير ذلك، لكننا لا نفهم، لماذا لا يمكن للجيش ان يقيم توازن الردع، اذا اصبحت ترسانة الصواريخ تحت امرته؟ ثم لا نفهم، لماذا لا يستطيع الجيش ان يمتلك وحدات قتالية تتمتع بالمناورة السريعة والقدرة على الحركة والقتال الخاص؟
لا تترك الورقة، وكذلك “وليد بك”، مناسبة محقة إلا ويتناولان العرقلة السورية للقرار اللبناني مرة بسبب موقفها من لبنانية مزارع شبعا؛ ومرة اخرى من اتفاق فك الاشتباك بين سوريا واسرائيل في الجولان. ثم تتحدث الورقة عن إمكانية استغلال المقاومة لاغراض لا علاقة لها بمتطلبات الدفاع عن لبنان كالملف النووي الايراني على سبيل المثال.
الاستنتاج العسكري للورقة يأتي كالتالي:
1 – ان الدفاع عن الجنوب هو مسؤولية الدولة اللبنانية.
2 – لا شرعية لأي سلاح خارج إطار الجيش اللبناني، وبالتالي لا بد من انتشاره حتى الحدود الدولية.
3 – اعادة هيكلة الجيش اللبناني بناء على المخاطر المتفق عليها، بشكل يسمح لوحداته القتالية باعتماد طرق ووسائل ملائمة لمواجهة المخاطر.
4 – دمج المقاومة او إلحاقها بالجيش في اطار خطة مرحلية ومحددة زمنيا على ان تؤخذ بعين الاعتبار درجة طمأنة أهل الجنوب والخطوات العملية التي بلغتها اعادة هيكلة الجيش، وربما ابتكار حلول من نوع إنشاء حرس وطني.
5 – يمكن للجيش اللبناني في المرحلة الاولى من خطة الدمج ان يستوعب الوحدات القتالية للمقاومة في الوحدات التي اعيدت هيكلتها للقيام بمهام الدفاع عن الجنوب.
أما في المرحلة الثانية، فيمكن استيعاب وحدات الصواريخ وترسانة الردع، في اطار خطة عملانية قادرة على الاحتفاظ بقوة الردع، مع الاخذ بعين الاعتبار اهمية درجة السرية في تمركز هذه القوة وطريقة التعامل مع موجبات حمايتها من الضربات الجوية الاسرائيلية.
6 – تنشأ في اطار الاستراتيجية المعتمدة خطة أمنية متكاملة لحماية كوادر المقاومة ومنع استهداف قادتها.
لا يضيف الحديث مع “وليد بك” الكثير الى ورقته، إذ ان الاستنتاج الواقعي هو انه على سوريا وايران ان تتخليا عن الملف اللبناني كي تنتظم امور الدولة. هل هذا ممكن؟
يُنهي الرئيس بري الحديث بالقول انه شكل لجنة صياغة للاستراتيجية الدفاعية تأخذ في اساس مضمونها ثلاث نقاط: الاولى عدم الانطلاق من نقطة نزع سلاح المقاومة الآن. الثانية حتمية الاجماع على هذا البند. الثالثة استكمال تحرير كامل الأراضي اللبنانية.
حين تجيبه وهو يعيد مسودة كتاب اقتراحه للاستراتيجية الدفاعية قائلاً ألا تشبه ورقة وليد بك النظام العصري الآخر المتبع لبناء المؤسسات وإدارتها لفترة معينة ثم تسليمها إلى الدولة B.O.T. لا يثير التعبير الرئيس بري وكأنه يقول الأمور مرهونة بأوقاتها
إذاً، لا خصخصة مجانية ولا دولة قادرة على حماية قرار الحرب والسلم، بل انتظار لطاولات الحوار في المنطقة. إنما بهدوء…