هــي … عــن بعــد

مقالات 25 مارس 2008 0

جلست في مطار دبي في الاسبوع الماضي انتظر موعد رحلة الطائرة الى بيروت. وصلت على غير عادة قبل ساعة ونصف ساعة من موعد الاقلاع، فاذا بمضيفة طيران الامارات تبلغني عن تأخير 45 دقيقة على موعد الرحلة. ذهبت الى منطقة السوق الحرة. واجهات من كل الاصناف ملأى بما يشجّع المسافرين على الشراء. لم أجد ما يغريني. فأنا العائد الى بيروت، المدينة التي تجد فيها كل ما يخطر لك من حاجة والتي عوّدت عيناك على رؤية ما تريده في واجهة انيقة صغيرة لعنوان تعرفه وتعوّدت عليه لسنوات طوال، يعرف المسؤول عنها اسمك ومقاسك وميزانيتك، فلا يعرض عليك ما يتجاوز الاخيرة خاصة.
المهم تغلّب تراكم العادة والسنوات على حداثة الاضاءة في واجهات مطار دبي .
العنصر الثاني الذي ردّني عن الشراء هو انني لست خبيرا في الاسعار ما عدا قلّة من الاشياء. فلا اعرف الفرق الذي يغري بشراء ما أمامي من معروضات.
اخترت الجلوس في مقهى يقع في منتصف “الممر ـ الشارع” القريب من باب المغادرة المخصص لرحلة بيروت. قرأت في صحيفة انكليزية صادرة في المدينة مقالا عن كتاب الّفه رحّالة بريطاني عن المنطقة القديمة من دبي. كان في المقال وصف جميل لعمارة فنية نشأت حول المسجد، راعى فيها المهاجرون الأوائل من الايرانيين الذين وفدوا الى التجارة. تغيّر الطقس. فكانوا ينتقلون صيفا من الطابق الارضي الى الطابق الاول حيث للغرف منافذ تُدخل الهواء ليلا الى مخادع العائلة فينامون في أشهر القيظ ويستيقظون صباحا على صوت المؤذّن في المسجد المجاور.
يضيف المقال ان المنطقة لا يزال يسكن فيها تجار اثرياء يعملون في دكّان صغير لا يوحي ابدا بقدرة صاحبه المادية المتراكمة من سنوات التجارة.
سارعت الى مكتبة المطار حاملا الصحيفة وكأنني أحمل اكتشافا من كثرة رؤيتي في الايام التي امضيتها هناك لمبان شاهقة، لا أعرف الوصول اليها. لم أجد الكتاب ولم أجد من يعرف عنه من البائعين الآتين من القارة الاسيوية المعتذرين بانكليزيتهم الخفيفة الظل المصحوبة بحركات الرأس. عدت الى مكاني في المقهى لأخرج من حقيبتي كتاب “هذه رؤيتي” للمؤلف حامل الالقاب الثلاثة رئيس وزراء الامارات، نائب رئيس الدولة، حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. غرقت في القراءة فالنص دقيق وحديث، فاما ان الشيخ محمد كتبه شخصيا أو انه أشرف على روايته بدقة. اذ ان في الاستعارات الكثير من روايات الهوايات الشخصية المعروفة عنه وأولها الأمثال عن الخيول. ليس غريبا عليه الاثنان فهو شاعر عفوي اي يستطيع الرد بشعر يؤلفّه في اللحظة نفسها التي يبادره فيها آخر بالمخاطبة شعرا.
سمعته خطيبا في مؤتمر اقتصادي في بيروت منذ سنوات فوجدت لديه دقة في الإلقاء وذاكرة يُخرج منها ما يريد اضافة الى خطابه المكتوب في سياقٍ مضبوط للأفكار. (للكتاب ومؤلفه عودة قريبة). انما ما حدث بعد قراءة عددٍ من الصفحات، انني سرحت بنظري على المارّين المسرعين الخطى نحو رحلاتهم. رأيت عن بعد طيف امرأة لفتت نظري. شعرها القصير، كتفاها. مشيتها. تقترب مني وان كنت لا أراها بوضوح. ألاحظ ابتسامة الحديث مع رفيقات سفرها. تلتقي نظراتنا ـ عفواً نظّاراتنا، فيظهر ان نظرات كل منا تفتّش عن ما تدّقق فيه.
ضحكت في سرّي، ما الذي يجعلني أدقق في طيف، تعجبني خطوطه لامرأة تقترب مني وهي تضحك، ماذا تفعل هنا ؟ لم أجبها بداية. اذ هي نفسها التي كنت اراقب طيفها عن بعد. فاذا بها صديقة مصرفيّة تعودت على معرفتها من ضحكتها العالية وبريق عينيها حين لا تتحدّث عن المال. وسرعة خطاها نحو مكتبها لتلتحق بموعد مع وديعة جديدة.
الى بيروت ؟ اجبتها بالايجاب.
ماذا تفعلين انت هنا ؟ اتيت لحضور “سيلين ديون” المغنية الكندية الشهيرة. اسمعها في دبي مع صديقاتي ما دامت “سياستكم” تمنعها من المجيء الى بيروت.
كلمات قليلة وضحكات سريعة وتسرع لتلحق برفيقاتها. نلتقي عند باب المغادرة ؟ أجيب نعم.
عدت الى صفحات الكتاب قارئا سريعا للكثير من صفحاته. نصف ساعة اخرى وتسرح عينيّ من جديد. يختلف الطيف هذه المرة انما الرغبة نفسها تذهب بعيدا مدقّقة فيما تراه من شكل لامرأة تسرع الخطى ايضا.
الشعر القصير نفسه. الحديث المبتسم مع اشارات اليد هو ذاته. القياس مختلف انما الخطوط نفسها دون نظارات. تقترب الخطوات من مرمى نظراتي فأجـد الملوّنتين بالأخضر الزمردي تتلاقيان في تدقيقهما مع عيناي .
لا أضحك هذه المرة لكنني اتابع النظر وهي كذلك. تمر الثواني اسرع من خطاها. تعقد ما بين حاجبيها كونها لا تلبس نظاراتها فتصغر عيناها البرّاقتان فلا يبقى من استدارة وجهها الا الشعر القصير. تبتسم. افعل مثلها. ترفع يدها بالتحية عن بعد فاذا هي مصرفية مساعدة لصديق، لم اقابلها منذ زمن. أكملت طريقها بتحية متكررة من يدها. لم اغادر مكاني لأسألها عن وجودها في دبي مع صديقة لها. كان واضحا ان هدف الزيارة نفسه لدى السيدتين. المغنية الكندية. صغر الحقائب المحمولة يؤكد ذلك.
تركت القراءة وعدت الى السرحان. ما الذي يجعل عينيّ تذهبان في المرتين الى طيف كأنه من اشكال وألوان ومقاسات محدّدة ثابتة في الذاكرة لتأخذ عينيك اليها دون جهد.
المهم عدت الى القراءة. تعبت من الجلوس. أمشي قليلا حول المقهى. التقي بالزميلة مايا بيضون من “الجزيرة”. تأخذني في رحلة الى جنوب افريقيا حيث كانت وتعلّمت. حدّثتني عن عقد المصالحة بالاعتراف بالخطأ الذي اعتمد قاعدة لبناء الشراكة في الدولة الجديدة بين البيض والسود. من هو بريء منهم ومن هو مرتكب في حرب طويلة، فيها الكثير من الأبطال والأكثر من الخطأة. أوصلت مايا سيراً الى باب سفرها الى الدوحة القطرية. حمّلتها السلام الى صديق مشترك. عدت الى مقهاي وسط الزحمة. أقرأ في كتاب آخر غير صاحب الالقاب الثلاثة. أنظر الى ساعتي، أجدها تستبق موعد الاقلاع بدقيقة واحدة. اركض نحو الباب رافعا الشنطة والصوت. الطائرة تحرّكت متراجعة عن النفق المخصص لركّابها. لم يعد ينفع الاستنجاد بأحد. خمس ساعات أخرى من الانتظار وتذكرة جديدة على خطوط أخرى الى الواجهة الصغيرة الانيقة في بيروت . خمس ساعات دون التقاء للعين بأطياف ولا بأشكال.
برّأت أطياف السيدتين. منحت عيني العفو عن سرحان اصابهما. الحديث مع مايا اضافةً في المعرفة. إذن من يتحمّل مسؤولية انتظار 7 ساعات في مطار دبي ؟
قراءة صفحات كتاب صاحب الألقاب الثلاثة. أليس هو أميرها ونائب رئيس دولتها ورئيس وزراء حكومتها، ويقول شعراً وهو يبني أطول برج في العالم ؟
“للحديث صلة”
نهاد …