نتائج لجنة التحقيق الدولية؟ لك أن تختار…

الأخبار 22 أغسطس 2005 0

لكل امرئٍ من عمره فترة لا ينساها. يتعلّق بأهلها. يُلزم نفسه بنتائجها لو لم توافقه دائماً. تبقى تفاصيلها في ذاكرته. تلتصق به فرحةً كانت أم غضباً. يتذكّر من وجده إلى جانبه. يعتب على من غاب. يُحاسب أو لا يُحاسب. أمر يعود لطبيعة الشخص ولقدرته على الحساب.
هكذا حدث مع الرئيس رفيق الحريري، رحمه الله، بين العام 1998 حتّى انتخابات العام 2000.
التاريخ الأول هو ذكرى خروجه من الحكومة مُلزَماً باعتذار له لم يكتبه ولم يقدمه، بل سمعه على الراديو وهو في طريقه إلى القصر الجمهوري.
يتلفت حوله فلا يرى بعينيه. عقله يعمل بأسرع من قدرة عينيه على الالتقاط.
اعتقد الحريري أن المجموعة المقبلة على الحكم في سوريا ولبنان اكتفت بإبعاده من لبنان بعد مفاوضات استمرّت ثلاثة أشهر. فإذا بها تأخذ استقالته، وتستدعي كل يوم واحداً من وزرائه أو من مُساعديه للتحقيق.
كلّ رئيس جهاز أمني يمنّ عليه بمنع توقيف هذا أو ذاك من مُحازبيه. ثلاثة منهم على الأقل دخلوا السجن. مهيب عيتاني رئيس مجلس إدارة مرفأ بيروت. عيد المنعم يوسف المدير العام للاتصالات. نقولا سابا محافظ بيروت.
ذهب إلى المركز الطبّي الأميركي في كليفلند حيث كانت تُعالج والدة زوجته، رحمها الله. كانت المرّة الأولى التي يُحدّثني فيها إلى باريس بعد أشهر من الفراق. ضحكنا كثيرا وتحدّثنا قليلاً.
أراد أن “ينهار” وحده ويغسل نفسه وعقله مما حدث.
زوجته السيدة نازك بين المستشفى والفندق حيث تنزل العائلة.
يتذكّر بهدوء. يُفسّر. يستنتج. يندم على أشياء. يستحسن أخرى.
جاء إلى باريس. التقيته هناك مُتألّماً.
يُسمّي أصدقاء أضاعوا طريق قريطم، ومُناصرين نقلوا البندقية من كتف إلى كتف.
زوجته السيدة نازك تهز برأسها مُوافقة على عتبه. لا تستطيع أن تُدافع عن صديقاتها اللواتي اختفين. نسين حتى الاتصال الهاتفي.
لم يكن يتحدّث على الهاتف حين يُسافر خارج لبنان إلا مع عدد محدود جدا من الصحافيّين الذين أصبحوا أصدقاء، ومع مُساعدين له أصبحوا أكثر ائتمانا من أيّ وقت مضى. لا يجد في لائحة طالبيه إلا القلّة القليلة من السياسيين. بعضهم يتّصل يطلب شيئا، وآخرون يسعون إلى معرفة أشياء يكتبونها في تقاريرهم.
صارت هذه هي خريطة حياته الخاصة والعامّة.
هو دائماً يخلط بينهما إلى أن تأتي السيدة نازك إلى بيروت فتضع حدّاً ليس فاصلاً بين الخاص والعام.
زيارة “وليد بك” الأسبوعية. حضور مروان حمادة وغازي العريضي الدائم للتشاور. ينضم إليهما باسم السبع. الموعد الصباحي يوم الجمعة ل”فخامة” جان عبيد.
الطبق اليومي فيصل سلمان ومحمد شقير وغيرهما يتردّد. هاني حمّود ينتقل من باريس إلى بيروت ليخوض معركة إعلاميّة طاحنة ناجحة في تلفزيون “المستقبل” في وجه رئيس الجمهوريّة ومن معه. يستقر ويُضاف إلى لائحة المقيمين في قريطم. آمال مدلّلي القادمة من واشنطن حديثاً تجد نفسها في وسط المعركة. تحتفظ بابتسامتها وتنزل إلى الساحة من دون دورة تدريبيّة إعلاماً وسياسة دولية.
عبد اللطيف شمّاع. وسام الحسن. سليم دياب. أضيف إلى مهامهم القليل من الخوف والكثير من الأعباء. الدكتور بهيج طبارة والرئيس الحالي فؤاد السنيورة مقيمان بعد تفرّغهما عن الوزارة مُرغمين طبعاً. فادي فوّاز مهندس شاب متحرك ناشط أصبح معنياّ بكل المشاريع الاعمارية. هذه تسمياتٌ عن بُعد. قد لا تكون كاملة.
أمسك الرئيس الحريري هذه الخريطة كمن يُمسك بحبل الخلاص. لا أحد قبلهم. لا أحد بعدهم. هم المؤتمنون والمخلصون.
التاريخ الثاني أي عام 2000 هو تاريخ الانتصار الانتخابي الذي حقّقه الرئيس الحريري في بيروت، والأوّل من نوعه.
نوّاب بيروت جميعاً على لائحته، وآخرون من مناطق أخرى الى طاولة كتلته.
حقّق ما اعتبره ثأراً لكرامته، بعد جهد ماراتوني لمدّة سنتين.
الرئيس الحريري أقدر طبعاً على الإمساك بانتصاره بيده والتسامح مع الجميع.
يفتح باب منزله لمن لا يخطر ببالك أن تراه هناك. الانتصار سلطة، فكيف إذا كان في يد رفيق الحريري؟ فرح بنفسه وأراد أن يرى الجميع فرحه. من غاب لسنتين، من حضر، من انقطع ثمّ عاد.
دفء المساء فقط لطوق الحضور الدائم في السنتين الأخيرتين، صحافة ومعاونين وأصدقاء.
انقلبت مقاييس. تغيّرت أحوال. اشتعلت الحروب السياسية مرّة أخرى بنارٍ أقوى. حقّق نجاحات. هزم مرّات. شكّل الحكومة. استقالت الحكومة. سافر حول الدنيا. ذهب إلى دمشق. عاد من دمشق. بقيَ الطوق هو نفسه حتّى لحظة الاستشهاد. ذهب معه الدكتور باسل فليحان وأبو طارق، رحمهما الله. لا يتركهما. واحد من تاريخه اللبناني، أبو طارق، والثاني الدكتور باسل من أهل الطوق الجديد.
تفقّد “طبقه اليومي” “فيصل شقير”و”محمد سلمان”. هما آخر من التقاه في المقهى المواجه للبرلمان.
عصا الزعامة
اغتيل الرئيس الحريري.
أمسك سعد الحريري بالعصا السياسية لوالده. تحرق نارها يده، كذلك قلبه. أغلق التمثيل النيابي السني اللبناني وحضوراً مسيحياً على عصا والده الشهيد. جلس على كرسيه.
ماذا يفعل الآن؟
هل تأخذه دورة الأحداث والانتصارات النيابية فلا يجد وقتاً ينظر إلى نفسه وإلى من حوله، أم يتراجع قليلاً نحو الهدوء ويُقرّر؟
هناك ثلاث تجارب حديثة في الوراثة السياسية. اثنتان عربيتان في السنوات الخمس الأخيرة، وواحدة لبنانية قديمة قاسية جداً منذ أكثر من عشرين عاماً.
الأبطال الثلاثة مثّلوا فيلم السلطة في سن مبكّرة كما سعد الحريري.
الأولى في الأردن. الثانية في سوريا. الثالثة في إمارة جبل لبنان.
وراثة الفيلم القديم
اثنان من مساعدي الملك الأردني حسين، الرئيسان عبد الكريم الكباريتي وسميح البطيخي. الأول رئيس الحكومة والثاني رئيس المخابرات العامة، عملا بإشراف الملكة نور على نقل الصورة المُبالغ بها لتصرّفات شقيقه الأمير الحسن وليّ العهد آنذاك.
أكملت الملكة نور مُهمّتها وأقنعت الملك حسين، طريح الفراش المُقتَرِب من الموت؛ أقنعته بعزل شقيقه وتعيين ابنها حمزة ولياً للعهد، وبالتالي ملكاً. تحكم هي من خلف ستارة ولدها كما الأفلام السينمائية.
تشاور الملك مع خبراء بريطانيين أصدقاء له، يعرفون الأردن أصلا وفصلاً.
قالوا له إن الأردن لا يحتمل مُبالغتين: الأولى عزل شقيقه؛ والثانية الإتيان بأصغر أبنائه ولياً للعهد.
استقرّ الرأي على عبد الله الثاني ولياً للعهد ثم ملكاً على أن يكون شقيقه الأصغر حمزة ولياً للعهد.
أقسم الملك الجديد لزوجة والده الملكة نور بتسليم الحكم إلى ولدها بعد 20 عاماً.
خلال أقل من سنتين عَزَل الأميرَ حمزة من ولاية العهد وتفرّغت الملكة نور للمهرجانات. منع حرب الملكات بالتهديد. كاد يوقف طباعة مذكرّات الملكة نور. جاء بجيله إلى الديوان الملكي حيث الحكم. يُغيّر الحكومات بوتيرة سريعة، إذ إنها السبيل الوحيد للإيحاء بأن هموم الناس أولويّة عنده.
حاول تقليد والده بحكومة مُستقرّة لفترة طويلة. لم يستطع.
مُقيمان دائمان. الأول للتخطيط، شاب، باسم عوض الله. الثاني متوسّط العمر، نائب رئيس الوزراء مروان المعشّر.
سمير الرفاعي رئيساّ للديوان الملكي في السنوات الأربع الأولى. هو من عائلة قريبة جداً للحاشية الملكية وبين أفرادها من تبوَّأ مراكز الصف الأول في عمّان منذ نشوء المملكة. زامله الفريق الركن سعد خير مديراً للمخابرات. انتهت السنوات الأربع فاستبدلهما بفيصل الفايز في رئاسة الديوان، وضابط من عائلة عصفور رئيساَ للمخابرات، بدأ اسمه يلمع بانتظار التغيير. كلاهما من الدرجة الثانية في الحضور السياسي والأمني في الأردن.
وضع خريطة والده السياسية الخارجية على طاولته. الأولوية طبعاً لواشنطن. نجح في إقامة علاقة شخصية حميمة وفعالة مع الرئيس الأميركي جورج بوش؛ ثم أوروبا التي اقتحمها سياسة ومساعدات عامة وأغلفة مجلاّت وعناوين صحف.
زوجته الملكة رانيا أخذت الحصة الكبرى من الانتشار الاجتماعي.
صارت صورتها مُلازمة للحداثة الأردنية. هذا أيضاً تقليد حرص عليه المغفور له الملك حسين وزوجاته على تعاقبهن.
تمهّل الملك الجديد في علاقاته العربية. يتواصل مع الرئيس المصري حسني مبارك ومع ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز. خاب أمله من العلاقة مع زميله ومُجايله سناً الرئيس بشار الأسد، جاره الأقرب.
الحروب المقرَّرة نتائجها مسبقاً
تجربة الرئيس الأسد مختلفة. تدرّب سنوات على حياة والده. لم يكن سهلاً عليه اكتساب حق الأمرة ممن يفوقونه سنا ورتبة حزبية، كانت أم عسكرية. توقّع والده ذلك من اللحظة التي استقال فيها العماد حكمت الشهابي رئيس أركان الجيش السوري ورفضه القبول برئاسة الحكومة.
بدأ نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدّام يمتد لبنانياً، يتحرّك حزبياً، يستعين بالرئيس رفيق الحريري عند الحاجة.
اعتمد الرئيس حافظ الأسد تكتيكاً آخر. ينتظر اشتباكاً في وجهات النظر على موقع سوري ما. يُغلّب وجهة نظر الدكتور بشار فيَفهم الجميع أن الطبيب الشاب على طريق القرار.
ينقسم معسكران حول مسألة لبنانية عالقة بين المؤسسة السياسية للجيش في ذلك الحين وبين الرئيس الحريري.
ينتهي الأمر بانتصار وجهة نظر الجيش، فيفهم من يعرف الاستيعاب أن الطبيب الشاب تقدّم خطوات نحو الرئاسة.
استسلم الجميع في أوقات متفرّقة لهذا الواقع الجديد من دون أن يقول الرئيس الوالد كلمة لأحد منهم.
تسلّم الرئيس الشاب السلطة منذ خمس سنوات. كسب أرباحاً هادئة. حقّق خسائر.
الأرباح تحققت من خلال سياسة انفتاح اقتصادي تدريجية، وقرار بإتاحة مجال محدود ومضبوط أمام الحرّيات السياسية.
تراجع بسرعة عن الحريّات السياسية. أبقى على سياسة الانفتاح الاقتصادي التدريجي. افترقت السرعتان. ساد الجمود النسبي.
الجمود الاقتصادي هنا نسبي. إذ إن الرئيس حافظ الأسد عمل على بناء بنية تحتية زراعية وصناعية خلال 30 سنة أتاحت للعديدين تحقيق ثروات كبرى في هذين القطاعين.
في الخريطة السياسية انفتحت الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا على الحوار مع الرئيس الجديد لاستكشاف آفاقه وإمكانياته. بداية وجدتا نقاطا مشتركة معه في كثير من القضايا الشائكة، على رأسها الصراع العربي الإسرائيلي. نهاية اكتشفتا أنه يريد أن يبدأ من حيث انتهى والده. عيّنتاه في خانة المُتشدّدين بعد تسليمه لائحة من المطالبات لم يستجب لأي منها بشكل واضح: “حزب الله”؛ مساعدة العمليات ضد الأميركيين في العراق؛ دور سوريا في عرقلة السلام الفلسطيني الإسرائيلي؛ تعطيل تام للديموقراطية في الداخل؛ مزيد من دور الحزبيين في إدارة الدولة؛ التمسّك بالتحالف مع إيران.
انتظر خمس سنوات حتى أحدث تغييراً في الحزب الحاكم لصالح من أرادهم في القيادة يفهمون سياسته ويعرفون أسلوب عمله.
يتمعّن كثيرا في قراراته اليومية حتى الأمنية منها. أخذ هذه العادة عن والده. الآن يستطيع أن يقول إن له رجالاً في كل المفاصل الأساسية للدولة.
لكن هذه المفاتيح الأمنية والسياسية جاءت لتواجه القرار 1559 لمجلس الأمن الدولي.
اغتيل الرئيس رفيق الحريري. انسحب الجيش السوري من لبنان. تحمّلوا نتائج التمديد لرئيس الجمهورية اللبنانية. ماذا تفعل القيادات الجديدة لمواجهة الوضع؟
يُظهرون أنهم مُتماسكون. يعتبرون الخسائر الأميركية في العراق مكسباً سياسياً لهم. لكن أزمتهم جدّية، عربيا ودولياً.
ماذا ومن بقي في العراق؟ أي عراق سيتسلّمون بعد الانسحاب الأميركي؟ هناك مشروع واحد في المنطقة قادر على تسلّم “فتافيت” العراق، هو المشروع الإيراني. هل سوريا شريكة فيه، وبأي منظار؟
حاول الملك عبد الله بن عبد العزيز احتضان الرئيس الجديد لسوريا منذ بداياته. عمل الرئيس المصري حسني مبارك على التواصل الدائم معه تشاورا وتنبيها وتحذيراً من المطبّات. دخل الملك عبد الله الثاني في تحالف ثنائي تسمح به مجايلة السن وتشابه التجربة. لم يُوفَّق. لم يستطع أحد منهم مُنفرداً، أو مجتمعين، التوصّل مع الرئيس السوري الشاب إلى منظومة سياسية ولو موقّتة.
قبِلَ معهم بسياسة المياومة. لكل موضوع نقاش ولكل نقاش إطار، فقط لا غير. هذا منطق مُغاير للبراغماتية التي عُرفت عن والده.
يقول دبلوماسي فرنسي كبير مولع بالسيارات، إن الإدارة السورية مع الرئيس الشاب تبدو من الخارج وكأنها سيارة فيراري جديدة حاضرة للسباق. توحي بالقوة والثراء أيضاً. لكن عندما تفتح غطاء المحرك تكتشف أنه موديل 1960، صناعة فولكسفاغن.
تصعد إليها لتذهب إلى هدفك، تصل بعد فوات الأوان.
العباءات الأربع لكتف واحدة
أمير الجبل وليد بك، بقي قريباً من كل شيء إلا السياسة حتى يوم اغتيال والده الزعيم الوطني الكبير كمال جنبلاط.
كان وليد بك، قبل ذلك، يزور منزل والده قرب فرن الحطب في المصيطبة. يقف على الشرفة. يتفرّج على الوفود المتقاطرة. يتناولهم بكلمات هازئة. لم تكن علاقته بوالده هادئة ومستقرّة. كثرة تحرره لم تُماش كثرة تحفّظ الوالد. تدرّب على الصحافة في “النهار”حيث أعطاه مروان حمادة مكتبه. لا يجلس “البك” على مقاعد المتدرّبين. هذا رأي الوزير حمادة وليس وليد بك.
جاء الاستحقاق. وقف في المختارة لابسا عباءة والده الشهيد يستقبل عبد الله الأحمد عضو القيادة القومية لحزب البعث الحاكم في سوريا. جاء باسم الرئيس الأسد مُعزّياً.
لم يرتبك البك. لم يرمش له جفن. بدا كأنه يعرف قواعد العباءة التي يلبسها وأصولها.
تصرّف على هذا الأساس. ذهب إلى دمشق في اليوم الأربعين على اغتيال والده. اجتمع بالرئيس حافظ الأسد. بادله الرئيس الأسد الزيارة بأن وضع على كتفيه عباءة جبل العرب في سوريا.
ذهب لزيارة دروز سوريا وزعيمهم سلطان باشا الأطرش. من رافقه في سيارته الفولفو لا يستطيع نسيان ما شاهده: استقبال عاطفي بحجم فجيعتهم بوالده، وبأكبر مما يُمكن تصوّره من مبايعة له.
نزلت دموع وليد جنبلاط من الكلمات التي قيلت. اقترب منه المشايخ. قالوا له أنت ابن عمود السماء. لا تبك انت. نحن نبكي عنّك.
عاد إلى بيروت ليجد عباءتين أخريين بانتظاره: الأولى من ياسر عرفات، الزعيم التاريخي الفلسطيني؛ الثانية من السفير السوفياتي سولداتوف.
أربع عباءات على كتف رجل واحد؟
احتملها وليد بك.
استكمل ما بدأه والده من حروب إلى جانب أبي عمّار. لم تكن هذه رغبته، كما يقول الذين عرفوه في ذلك الحين.
حفظ دار المير مجيد أرسلان في خلده لسنوات طويلة. اقترب من أهل الدار. اهتمّ بمشاكلهم. حلحل بعضها. جدّد خصمه.
لم يكن يُقيم وزناً للمال وإن كان لا يملك منه الكثير. طوّر مداخيل ضرورية لإدارته السياسية. قاتل داخل طائفته من رفض وجهة نظره. أراد أن يُفهم الجميع: “الأمر لي”. هذا ليس صعباً في الجبل لزعامة تُقيم في التاريخ.
يختار أصدقاءه بعناية فائقة. هو فقط يُحدد مبرراتها. يُفضّلهم من غير الدروز. يُبعدهم عنه بقدرة خارقة. هو أيضاً يُخفي مُسبباتها. يدخل ويخرج على أصدقاء لا يربط بينهم شيء.
كريم. يعرف كيف يأتي بالمال، ويعرف أكثر كيف يُنفقه، على عكس والده تماماً.
ذهب إلى باريس بعد اغتيال والده. قابل فيليب لابوستير، كاتب فرنسي يُحضّر لنشر كتاب عن والده بعد مقابلات طويلة معه عنوانه “هذه هزيمتي”. عاد بالكتاب تحت عنوان “هذه وصيّتي”.
احتفظ من فريق والده بمحسن دلول ورياض رعد للاتصال بدمشق؛ خالد جنبلاط للضرورة الدرزية؛ توفيق سلطان يستعيد ماضي العلاقات العربية للحزب التقدّمي؛ محسن إبراهيم لعقله النيّر ولترجمته الدقيقة لأحداث المنطقة فضلاً عن قدرة فائقة لرواية أهم الاستنتاجات السياسية عن طريق طرفة لا تُنسى؛ جورج حاوي يستقبله عند الضرورة. قرّب منه مروان حمادة وسمير فرنجية. جاء بالأول وزيراً للسياحة في بداية الثمانينيات، واحتفظ بالثاني للتفكير والتداول.
جاء الاجتياح الإسرائيلي. انتصر مسيحيّو “القوات اللبنانية” في الجبل. لم يتحمّل ذلك. كان جيل الشباب قد ساد القرار المسيحي. الرئيس الياس سركيس ليس مُهيَّأً لضبط الوضع. انتُخِبَ بشير الجميّل رئيساً للجمهورية. اغتيل بعد أسابيع. استلم الرئاسة شقيقه أمين، أقلّ مصداقية.
جاورتُه في فندق كافالييه في شارع الحمرا. التقيته في أماكن عامة. لم يكن ليتراجع عن قول رأيه في الشخصي وفي العام عن بُعد أربع طاولات في مطعم صغير.
فقد وليد بك آخر ما تبقى من أعصابه وقدرته على تحمّل الخسائر. ودّع ياسر عرفات في مرفأ بيروت وذهب إلى سوريا ناصرا ومُستنجداً. خاض مع الرئيس حافظ الأسد وقوّات أبي موسى، القائد الفلسطيني المُنشق عن ياسر عرفات، حرب الجبل.
حمل على كتفيه دماء لا تنتهي بدلاً من العباءات الأربع. آلاف الشهداء. هذا مصير تاريخه. أسلافه من زعماء عائلته لا يموتون إلا قتلاً. فلماذا الهرب من الحرب؟
بقي واقفاً على سلاحه حتى اتفاق الطائف. وقّع على الاتفاق الثلاثي في دمشق مُرغماً. حضر مؤتمري لوزان وجنيف.
يحتضنه في دمشق العماد حكمت الشهابي، ويُخالفه سياسياً نائب الرئيس عبد الحليم خدّام.
يدخل السلطة ممارسة وهو خارجها قولاً.
الدروز موقف وليسوا عدداً
يخوض المعارك ثم يتنبّأ بها. فلا تعرف من يسبق الآخر: النبوءة أم المعركة. يتناول من يُريد بالكلام الجارح ثم يذهب لزيارته ببساطة. هذا طبع الزعماء أم قدَرهم؟
لا يقبل الزعيم الأخير في لبنان أن يتساوى حجم طائفته بحجمه السياسي. يريد لقدراته السياسية أن تكون على قدر الطوائف الثلاث الكبرى: السنّة؛ الشيعة؛ الموارنة. استطاع بقامته السياسية أن يأخذ هذه الحصة ولو على تقطّع في الاستمرارية.
يستعين أحياناً بدروز سوريا وفلسطين. هو زعيمهم أيضاً. لكنهم لا يُعدّلون ميزان العدد.
سألته مرّة بحضور الزميل عماد الدين أديب: كيف تستطيع “الحضور” سياسياً بهذا القدر، بخمسمئة ألف شخص مشكوك بعديدهم في لبنان وسوريا وفلسطين؟ يشتهي من يعمل في السياسة أن يكون درزياً.
أجابني من دون أن يبتسم: الدروز موقف وليسوا عدداً.
لم تسر الكهرباء في شريط الانسجام بينه وبين الرئيس الجديد لسوريا الدكتور بشار الأسد. تعوّد على رفيقه ومُوجّهه في حرب الجبل التي أعادت إليه الأضواء والسلطة: العماد حكمت شهابي.
سمّاه مئة مرّة في السنوات الخمس الأخيرة. دافع عنه في الصحف اللبنانية والعربية حين تناوله الطاقم الجديد للرئيس الأسد بكلمات سوء.
حاول مرات ومرات، مباشرة، مداورة، تحايلاً، توسّطاً، رجاءً، أن يصل إلى تطوير سياسي للعلاقة بين لبنان وسوريا يجعل المخابرات خارجه. لم ينجح. كسر الجرّة حين رفض التمديد للرئيس إميل لحّود. اغتيل الرئيس الحريري. نزل إلى الشارع وبقي هناك حتى انسحب الجيش السوري من لبنان.
خسر مصالحة وتحالفاً عزيزاً عليه مع البطريرك صفير الذي سمّى العماد عون مُمثّلاً للمسيحيين. عتب كثيراً على وقوف البطريرك صفير في وجه استكمال 14 آذار بإسقاط الرئيس لحود. لا يرى في “القوّات اللبنانية” تمثيلا بديلاً من البطريرك والعماد عون.
يُقيم في المختارة آمناً على نفسه، غير أنه ليس آمناً على البلد. يشتكي من غياب الحوار السياسي مع حلفائه، وعلى رأسهم سعد الحريري. لم يبق له من حافظ إلا “حزب الله”. ينتظر حواراً مع الرئيس الأسد.
لم ينزل وليد بك عن حصان استنفاره منذ 28 عاماً. استكمل فريق استنفاره بالنائب الشاب وائل أبو فاعور. جوابه حاضر في مجلس النواب منذ اللحظة الأولى لجلوسه على كرسيه. كأنه سليل كتاب غني في السياسة اللبنانية. أكثر من يُشجّع حضوره قولا وفعلاً شيخ المنابر الصادق غازي العريضي.
قال البك لصديق له يوم محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة: لا أريد العودة إلى الحرب. تعبت. لكنه لم ينزل عن الحصان.
التعجل؟ التمهّل؟ الحصان؟
أي أسلوب سيختار سعد الحريري؟
الملكية المتعجّلة؟ الرئاسة المُتمهّلة؟ الركوب الدائم على الحصان؟
لكل طبيعته وظروفه وألوان لوحته السياسية. لسعد الحريري أيضاً طبيعة وظروفه. إنّما لوحته السياسية عليها لون واحد، لم يتسنّ له إكمالها واختيار ألوانها الأخرى. الألوان هنا ليست طوائف كتلته ولا تحالفاته “النيابية”، بل قراره السياسي منفرداَ أو متّحداً مع “حلفائه”.
يُقبل لبنان في الأشهر القليلة المقبلة على استحقاقات استراتيجية لا مفرّ منها، كتبتُ عنها منذ أسابيع مقالاً بعنوان “وداعاً 14 آذار”. قلت فيه إن وضع المؤسسات السياسية الدستورية اللبنانية هجين إلى درجة عدم إمكانية استمرارها.
تقف الطوائف اللبنانية على زوايا أربع من قاعة كبيرة يتوسّطها لبنان، كلّما تقدّمت واحدة استنفر الباقون عليها فتجمد مكانها.
سعد الحريري، على سعة تمثيله السياسي وحجم كتلته النيابية، لا يُستثنى من التعرضّ لهذا الاستنفار. هو الأكثر تعرّضاً. دفع في الشهر الأول من تشكيل كتلته وتأكيد تحالفاته أربع دفعات على حساب الاستنفار عليه:
انتخاب نبيه بري رئيساً لمجلس النواب.
الثقة الشيعية بفؤاد السنيورة رئيساً للوزراء وسحبها منه مرشّحا لوزارة الخارجية.
القبول بالثلث المُعطّل لرئيس الجمهورية في الحكومة.
التنازل عن المقعد الشيعي الخامس في الوزارة الذي احتفظ به والده منذ تشكيل حكومته الأولى عام 1992 حتى حكومته الأخيرة قبيل استشهاده.
تحمّل معه وعنه الرئيس فؤاد السنيورة كل هذه الفواتير، عجناً وطحناً واختناقاً سياسياً. المهم أنه لم يدفع مالاً!!
في الخامس عشر من شهر تشرين الأول المقبل يُعلن القاضي الألماني ديتليف ميليس نتيجة التحقيق الذي كلّفه به الأمين العام للأمم المتحدة حول عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
أفترض على مسؤوليتي أننا سننتخب رئيساً جديداً للجمهورية خلال شهر من صدور التقرير.
أعتقد على مسؤولية مجلس الأمن الدولي في القول إن الدولة اللبنانية ستلتزم بالشروع في نزع سلاح المخيمات.
القرار الثالث هو الأصعب: أي علاقات نستطيع أن نقيمها مع سوريا نتيجة الوضع الجديد بعد تقرير رئيس لجنة التحقيق الدولية.
لن أتحدّث عن قانون الانتخابات الجديد. هذا مطلب دولي أيضاً، يُحدد بعد وضعه موعداً لانتخابات مبكّرة وحكومة جديدة تُدير الانتخابات.
البندان الأول والثاني يحتاجان إلى جهوزية عسكرية يُسأل عنها قائد الجيش.
في البند الأول حماية الفراغ من المستفيدين من التخريب. في البند الثاني مماشاة القرار السياسي تمهيدا وتحضيرا وتنفيذاً.
الاستفادة هنا مما فعله الرئيس نجيب ميقاتي خلال ترؤسه حكومة الانتخابات.
خريطة الطريق التي تسلّمها تنصّ، من دون أن تُسمّي، على إقالة قادة الأجهزة الأمنية وقيادة الجيش قائدا وأركاناً.
نفذ الجزء الأول. استعمل كل قنوات الاتصال للتوقف عند حدود وزارة الدفاع. نجح بعد جهد جهيد في منع خلخلة مؤسسة الجيش أو التعرّض لأركانها. استعمل ضمانات لم يكن متأكداً من قدرته عليها، لكنه فعل لمعرفته بوحدة الجيش ووطنيته.
الحكمة التي أبداها العماد ميشال سليمان في 14 آذار شكّلت رصيداً جيداً لمسعى الرئيس ميقاتي.
استحقاقات المستقبل؟
نعود إلى “المستقبل”: كتلة العدد الأكبر وتحالفاتها وأصدقائها.
هل يرى سعد الحريري هذه الاستحقاقات أمامه. ينام على سؤال، ويستيقظ على عشرة أسئلة، كما كان والده، رحمه الله.
هل تشاور مع حلفائه في اسم رئيس الجمهورية الجديد قبل أن يُفرض عليهم؟ هل بحث في السبيل الأقصر والخسارة الأقل لنزع سلاح المخيّمات مستفيداً من رصيد والده العربي.
هل استخلص كيف يستوعب مع اللبنانيين احتمال تمرّد سوريا على نتائج التحقيق؟ هل يملك ورئيس حكومته الجهوزية السياسية لمواجهة هذه التطوّرات؟
إذا كان الجواب للحليف وليد جنبلاط فهو يشتكي من غياب التنسيق السياسي بما هو أقل من ذلك.
أما إذا كان الجواب لاحتمال زعامة السنة لسعد الحريري والرئيس فؤاد السنيورة، فعليهما الأخذ في الاعتبار التكليف الدولي للمسلمين السنة بإدارة هذه المرحلة من تاريخ لبنان.
لم يستطع الرئيس السنيورة خلال تجربته القصيرة أن يُقدم “ويخسر” أو يتراجع “فيربح”. الربح والخسارة يأتيان في مرحلة لاحقة لقرار الهجوم.
هل يفعل؟
سعد ورث عن والده الزعامة. يستحقّها بقدرته على القرار. بالاستكشاف المُبكّر للأحداث. بالميزان الدقيق للكلمات والاتصالات. بالتقدير الصائب للأفراد.
إذا ربح يفعل هو وكتلته. إذا خسر نخسر معه جميعاً اعترافاً دولياً بدور مُستعاد للسنة يُحقق الاستقرار ويُعزّز دور المؤسسات الدستورية.
أعرف أنني أحمّله مُبكّراً جداً الإجابة عن كل هذه الأسئلة. لكن عقارب ساعة الأحداث لا تتأخّر وإن فعلت فلوقت قصير.
ماذا يختار سعد الحريري من أشكال الوراثة السياسية؟ التعجّل؟ التمهّل؟ ركوب الحصان الدائم؟
لا خيار أمامك غير ركوب الحصان الدائم. فلتبدأ بالتدريب. لا تحتاج لشراء حصان. والدك الشهيد يملك واحداً استثنائياً أهداه إياه رئيس تركمانستان. ذهبيّ اللون. تسأل أين وضعوه. تبدأ التدريب عليه. المهم ألا تحمل سيف “العدد”. رصيد والدك السياسي، وهو في ضريحه، كافٍ حتى لا تقع عن الحصان، وتوقعنا معك.