مَن يسمع “دويّ” الحوار؟..

مقالات 28 أغسطس 2006 0

وأنت تدخل إلى الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت. تستقبلك الأحجار متراكمة فوق بعضها البعض. أحجار، أحجار، أحجار. بحيث لا ترى على الدروب التي أصبحت ريفية الطابع إلا رؤوس المارة.
منهم من يتفرج. آخر يمشي ورأسه في الأرض يضع كمامة على فمه. يتوقف اثنان يضمّان بعضهما البعض بعد طول غياب وبعد رفع كماماتهما عن وجهيهما.
رائحة الحرب الحقيقية لا المجازية تصل إلى أنفك من المباني التي أصبحت ركاماً يقارب الأرض في مستواه.
صورة الموت تنبعث من الصور حولك لشوارع أصبحت خريطتها من الماضي. الخريطة تحتاج الى مهندس إشارة يدلك على هذا المبنى أو ذاك. هذا المحل أو آخر أكبر منه على زاوية المبنى المنهار.
يستطيع ساكن قديم لمبنى أن يأخذ صورة أمام منزله فيجد نفسه أكثر علواً من مبنى من عشرة طوابق كان يسكن الطابق الخامس منه.
يصبح الدليل الى يمين المبنى الكبير المنهار. أو إلى يسار المبنى الصغير المنهار أيضاً.
هنا كانت الأمانة العامة ل حزب الله . هناك كان منزل السيد محمد حسين فضل الله. تتذكر أنها كانت فيلا حديثة أضيفت إليها احتياجات لسكانها بشكل غير مدروس.
هنا كان تلفزيون المنار . إذاعة النور . مباني السكان كانت فقط دون أن تصبح إشارة دليل الى ما كانت عليه.
هنا كانت الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت.
الأجانب يمشون على طرقاتها. لكنهم صحافيون وليسوا سياحاً. العرب يتفرجون على ركام مبانيها لكنهم ليسوا زواراً بل بعثات تفقّد وتقدير أضرار.
من بقي من السكان يخرج من بين الركام ويعود من بين الدمار. يذهب الى عمله صباحا ويعود مساء ليطمئن على أن منزله وعائلته بخير. لا يبتسم. لا يتجهّم. يسلّم أمره لله وليس لحزبه في الذهاب والإياب.
لا تدور في ذهني صورة لما أراه غير أحياء في مدينة برلين الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية التي احتاجت لمشروع مارشال لإعادة بنائها حديثة كما هي الآن.
مشروع مارشال الأميركي الدولي أصبح مرجعاً إعمارياً واقتصادياً للمدن المهدمة منذ منتصف القرن الماضي حتى اليوم. لكن لا مشروع مارشال وهي الرتبة العسكرية الأعلى في الجيش الأميركي ولا مشروع نقيب وهي أعلى الرتب المتدنية عسكرياً للضاحية الجنوبية حتى الآن. بصرف النظر عما إذا كان مارشال هو اسم الشخص الذي سمّي المشروع باسمه أو رتبة عسكرية.
لا تقل دهشة زوار الجنوب وهم يرون قرى بكاملها ممحية عن بكرة أبي بيوتها. تعتقد نفسك رأيت أسوأ ما يمكن رؤيته فإذا بعينك بعد دقائق تقع على قرية تجعلك تجد في ما رأيته سابقاً مظهراً حسناً. تتنافس القرى في عدد البيوت المساوية للأرض بانهيارها. قرى مدمرة بالكامل. قرى نصف دمار. قرى ربع دمار. وهكذا دواليك حتى تتعب من الإحصاء.
كثير هو الكلام عن التعويضات أو المعونات أو إعادة الإعمار التي بدأها حزب الله بعد رسالة أمينه العام السادسة والأخيرة منذ بداية الحرب الى اللبنانيين.
وكثيرة هي الحساسيات التي نشأت بعد إعلان السيد حسن نصر الله عن نية الحزب تولي إعادة الإعمار على نفقته. إذ تبيّن أن طبيعة الدمار وأعداد الناس المدمرة بيوتهم مشكلة أعقد بكثير من حلها بواسطة المال مهما بلغت كمية هذا المال، فضلاً عن طبيعته السياسية. وأن الوقت اللازم لوضع تصور واضح وممكن التنفيذ لإزالة آثار العدوان الإسرائيلي أطول بكثير من التبسيط القائل بسنة واحدة تعيد الأهالي الى بيوتهم.
تسكن هذه الهواجس الرئيس نبيه بري الى حد استعادة ريفية قريته تبنين الجنوبية. فيتذكّر ليلة الشتاء السنوية في عيد الصليب ويحدد 22 تشرين الأول موعداً لبدء موسم الشتاء. عندها تبدأ المشكلة. إذ أن معونة الإيجار التي دفعها حزب الله ومثلها التي دفعتها الهيئة العليا للإغاثة لا تعني توفر منازل للإيجار في بيروت فكيف في الجنوب حيث هناك نوعان من المنازل إما مأهولة وإما مدمرة فأين الإيجار ولو توفر المال؟
يستنفر الرئيس بري اتصالاته في كل الاتجاهات لتأمين منازل جاهزة متنقلة للسكن. بدأ بإيران حيث لديهم تجربة الزلزال ومعمل متخصص في صناعة هذا النوع من المنازل. حتى الآن لم يأت الجواب من طهران رداً على الرسالة التي حملها السفير الإيراني في بيروت من رئيس مجلس النواب.
لكن هذه الأزمة الإنسانية على أهميتها، ليست البند الوحيد على طاولة الرئيس بري. فالحوار الذي تعطل حضور أعضائه الى طاولة المجلس النيابي يجري في أماكن أخرى متفرقة ومتعددة الاتجاهات.
صحيح أن الغالبية العظمى من عامة اللبنانيين ترى حتى الآن أن ما حصل هو انتصار على الجيش الإسرائيلي قدمه حزب الله الى اللبنانيين عربون دعم وصمود ومؤازرة. لكن الحوارات المتفرقة تجري من ضمن النخب السياسية وداخل الغالبية العظمى من اللبنانيين مما يجعل السرعة ضرورية لوضع إطار لها يجمع ولا يفرّق. يسائل ولا يحاسب. يحتضن ولا ينفّر. يسهّل ولا يعقّد.
هناك ثلاثة أنواع من الحوارات تجري هذه الأيام علناً ودون مواربة.
الاتجاه الأول يقول بعودة الصيغة اللبنانية الى الحياد في النزاع العربي الإسرائيلي. وهو بالتالي يرفض الوجود المسلح ل حزب الله جملة وتفصيلاً. لا يعترف بالانتصار ولا بأهله ويريد نزع السلاح منذ الساعة الأولى لوقف إطلاق النار بعد صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن. ويريد لبنان مبتعداً بسياسته وجيشه وإدارته عن الموضوع الفلسطيني الشائك والمعقّد منذ سنوات بين السلطة الوطنية والحكومة الإسرائيلية المحتلة.
عبّر عن ذلك الوزراء الثلاثة نائلة معوض وبيار الجميل ومروان حمادة في جلسة مجلس الوزراء الأولى التي عقدت لمناقشة الصياغة النهائية لقرار مجلس الأمن الدولي.
لكن البادئ كان وزير الدفاع الياس المر الذي أبلغ رئيس الوزراء موافقته واعتذر عن حضور الجلسة. الى أن اتصل الوزير حمادة ملحاً على حضوره فحضر وأبلغ المجلس إصراره على أن لا سلاح إلا للجيش في المنطقة الممتدة من الحدود حتى نهر الليطاني.
تبيّن بعد ذلك أن الاتفاق تمّ مع مساعد وزيرة الخارجية الأميركية ديفيد ولش خلال اجتماعه بوزير الدفاع قبل صدور القرار الدولي.
بالطبع لم يحدث شيء من هذا. إذ تبيّن أن القرار 1701 مطّاط ويسمح للمفاوضات السياسية أن تأخذ مجالها في الوقت الذي ينتشر فيه الجيش والقوات الدولية على الحدود مع إسرائيل. بينما ينتشر الجيش اللبناني وحده على الحدود مع سوريا مع مساعدة تقنية غربية.
آخر المجتهدين في هذا الاتجاه هو النائب وليد جنبلاط الذي صرّح من فرنسا أن الحرب تجري بين التحالف السوري الإيراني الحامل لعلم فلسطين وبين التحالف الأميركي الإسرائيلي بينما لبنان يطالب بحمايته وحياده من هذا الصراع.
يروّج هذا الاتجاه للكثير من الأقاويل عن استشهاد عدد كبير غير معلن من قوات النخبة في الحزب وأن لا جريح واحدا جرت معالجته في مستشفى معلن. وعن إصابة عدد كبير من منصات الصواريخ التابعة للحزب.
الأخطر من ذلك القول بأن سوريا أوقفت إمداد حزب الله بالصواريخ في الأسبوع الثالث من الحرب بعد قصف متواصل للحدود اللبنانية السورية وإصابة قيادة فيلق عسكري سوري موجود في منطقة الحدود على الجانب السوري.
الخلاصة أن ما حدث هزيمة يجب محاسبة الحزب عليها بعد الدمار والخسائر الجسيمة التي أصابت اللبنانيين. لأن قرار الحرب اتخذ في طهران دفاعاً عن الملف النووي الإيراني. ولإبلاغ الإدارة الأميركية أن إيران تستطيع أن تضرب إسرائيل الدولة الأهم للسياسة الأميركية في المنطقة.
يمكن القول ببساطة إن هذا الاتجاه في الحوار لا يؤثر في القرار السياسي اللبناني بقدر ما يحاول استثارة رغبة شعبية بالسلام والأمن والاستقرار.
التوجه الثاني يقول بالمساءلة. أي أنه ليس رافضاً لوجود حزب الله ولا داعياً لنزع سلاحه بالمطلق. بل يدعو الى دراسة تكافؤ القوى والفرص في نزاع عسكري من هذا الحجم قبل الإقدام عليه. بما يفسح في المجال لفرص مدروسة ومحسوبة ومهيأة للنجاح. ليس من الناحية العسكرية فقط بل أيضاً لدعم صمود الجنوبيين في أرضهم وعدم تعريضهم لما تعرضوا له من مصاعب النزوح. فضلاً عن الدمار الذي لحق ببيوتهم وأرزاقهم.
بدأ هذا التيار برسالة وجهها الزميل جهاد الزين الى المرشد العام للثورة الإيرانية يسأله فيها عن تكافؤ الأرباح والخسائر فيما تعرضت له الطائفة الشيعية في لبنان.
لحقت به الدكتورة منى فياض الأستاذة الجامعية التي قالت في النهار لا أرباح. ما حدث كله خسائر.
ثم الزميل نصير الأسعد في المستقبل الداعي الى حوار داخل المدنيين الشيعة حول ما حدث لمناطقهم وطائفتهم.
أخيراً مفتي صور وجبل عامل السيد علي الأمين الذي تحدث أول أمس مديناً كل ما حدث من الوجهة الشرعية القائلة بتكافؤ الفرص وتكافؤ القوى. معتبراً مبدأ ولاية الفقيه غير ملزم. قائلاً إن بقاء الأهالي في ملاجئهم أفضل من الفرحة بعودتهم من نزوحهم.
كان السيد علي الأمين قريباً من حزب الله في فترة نشوئه باعتباره محققاً شرعياً ثم التزم موقف حركة أمل في الصراع بين الحزب والحركة. إلى أن استقل عن الجميع كاتباً رفضه لما يراه عند الضرورة في رسائل بليغة الفصاحة الى الرئيس نبيه بري.
بالطبع ردت السفارة الإيرانية على الزميل الزين ورد العشرات مؤيدين أو رافضين للدكتورة فياض منهم الزميل نايف كريّم المقيم في دبي. بانتظار مزيد من النقاش.
يمكن وصف هذا النقاش حتى الآن أنه نخبوي لم ينزل الى الشارع ويؤثر فيه.
التوجه الثالث يقول ببساطة واختصار إن حزب الله انتصر عسكرياً وسياسياً على الجيش الإسرائيلي المعتبر الرابع في العالم. وأن هناك اعترافاً دولياً وعربياً وإسلامياً بهذا الانتصار. وأنه إذا كان هناك من خلاف في التعبير بين الانتصار والصمود فإن حزب الله ليس مؤهلاً في أي حال من الأحوال باحتلال أرض إسرائيلية. لذلك فإن صموده العسكري لمدة خمسة أسابيع هو انتصار بحد ذاته. دون الحديث عن الخسائر المادية والاقتصادية والبشرية التي أصابت إسرائيل. وأن ما يجري من حوار خارج هذا الإطار يهدف الى نزع صفة الانتصار عن ما حدث وتحويله الى هزيمة اقتصادية وإنسانية. وكأن هذه الحرب حدثت رداً على خطف الجنديين الإسرائيليين وهو ما أثبتت كل الروايات الأميركية عدم صحته.
تجنّب الحزب حتى الآن ذكر سيرة إيران أو سوريا في أدبياته السياسية حفظاً للبنانية الانتصار والمحافظة على مضمونه.
استعجل الشيخ نعيم قاسم نائب أمين عام الحزب تكرار ما قاله السيد نصر الله بأن الحزب لم يتوقع رد فعل بهذا الحجم على عملية الخطف. مما أعاد الحديث عن سوء التقدير أو قلة المعلومات الدقيقة عن النوايا الإسرائيلية بقرار أميركي.
لكن هذا وغيره من الأخطاء السياسية الطبيعية للقيادة السياسية الخارجة من الملاجئ والمحاطة بأوجاع ومطالب لا عد لها ولا حصر. لكن هذا وغيره لن يغيّر من حقيقة أن الغالبية العظمى من اللبنانيين تؤيد هذا الانتصار وتدعم معناه.
هذه الغالبية هي نفسها التي استطاعت تحويل مشروع القرار الفرنسي الأميركي الى القرار 1701 الذي قبلت به المقاومة حتى لا يقال إنها تريد استمرار الحرب. صحيح أن الضمانة التي شكّلها الرئيس بري للمفاوضات السياسية والدبلوماسية محاطاً بالحضور الدولي للرئيس السنيورة هي التي أوصلت الى اتفاق وقف إطلاق النار. لكن الضمانة والحضور للرئيسين بري والسنيورة استقويا بتأييد هذه الغالبية ومنعا ما كانت إسرائيل تسعى إليه وتنتظره من قيام ثورة أرز جديدة في وجه حزب الله .
هذا ما قاله موشيه يعالون رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية حتى العام 2005 في دراسة قصيرة نشرتها مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.
ذهب صديق لوليد جنبلاط إليه في المختارة في الأسبوع الثاني من الحرب. سأله. أين كنا في العام 1970 حين جاء الفلسطينيون الى لبنان لمحاربة إسرائيل من حدوده. ألم نكن معهم لسببين. الأول نصرة للقضية المركزية التي آمنّا بها طوال حياتنا. الثاني انتصاراً بهم لتعديل التوازن الداخلي اللبناني. فإذا بالنظام اليميني المسيحي في ذلك الحين يعتبر المسلمين المنضوين سياسياً مع منظمة التحرير قوى محتلة مثلهم مثل الفلسطينيين. خاضوا الحروب على اختلافها واستعانوا بإسرائيل حتى عقد مؤتمر الطائف في العام .1990 دمّرت البلد ببنائها ونفوسها. هل نريد تكرار نفس التجربة باعتبار حزب الله قوة محتلة لا بد من محاربتها بدلاً من الاعتراف بأنها قوة تغيير وللحوار معها لا بد من الاعتراف بانتصارها اللبناني. لقد أصبح العلم الفلسطيني بيد الإسلاميين بسبب فشل السياسة الأميركية في أفغانستان والعراق وفلسطين. هل ندعم مشروعاً يأخذنا الى تدمير أكبر من الذي نحظى به؟ هل نترك لهم العلم اللبناني أيضاً؟
فكّر وليد بك قليلاً على عادته وأجاب أنا لست أميركياً. ولا نحن أبو مازن أيضاً. اعترف بانتصارهم. إنما أين الحوار؟ لبنان ليس فلسطين. الصيغة اللبنانية لا تحتمل مثل هذه الانشقاقات العميقة.
بدا وليد بك فيما قاله في شمال فرنسا علمياً أمام مؤتمر الاشتراكية الدولية. إنما اعترف قبل ذلك بالانتصار واعتبر جاذبية السيد نصر الله السياسية تقارب الزعيم التاريخي جمال عبد الناصر في العالمين العربي والإسلامي.
كل الدلائل تشير الى ان القرار 1701 في طريقه الى التطبيق. رغم أن اللبنانيين يفاجأون بالإيجابيات كلما ظهر جديد منها. هذا حقهم طالما أن الحوار بعيد عن مسامع آذانهم.
الأشهر الثلاثة المقبلة طويلة على اللبنانيين لكنها تحمل في أيامها إجابات على الكثير من أسئلتهم عن الاستقرار والأمان. شهر رمضان صار قريباً على القادة العرب. لذلك لا قمة عربية قبل عيد الفطر المقبل. الجديد في القمة أنها ستخرج بمشروع هجوم سلمي شامل نحو واشنطن. عاد الأمير سعود الفيصل الى التأكيد باسم العاهل السعودي على مركزية الصراع الفلسطيني في سلام المنطقة. محذراً من خطر فقدان العرب لهويتهم.
كان ارتباك الرئيس بري مايسترو الحوار جغرافياً وأمنياً. الآن أصبح ارتباكه سياسياً واجتماعياً. لكنه أقرب إلى تحقيق الهدف مما يعتقد الكثيرون. أليس هو المفاجِئ بابتكاراته؟