من يُكمل عقدَ الاستقلال اللبناني الجديد؟

مقالات 04 يونيو 2007 0

اختار سعد الحريري سلوك طريق العاطفة ليلة “فرحته الثانية” يوم الأربعاء الماضي حين أُقرّت المحكمة الدولية المختصة بالاغتيالات السياسية في لبنان منذ الرابع عشر من شهر شباط في العام 2005 نهار اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، وحتى الآن.
لم يكن سهلاً عليه اختيار غير العاطفة الصادقة وسيلة للتعبير، فهو النجل الوارث للسياسة عن والده، وولي الأهل الممتلئين قهراً وظلماً لا يظهرونه، وزعيم الجمهور العريض الذي عوّض سعد انتخاباً له ولمن معه، وهو قبل ذلك وبعده صاحب الدمعة التي ما كان في الحسبان أن يحجبها في تلك الليلة.
افترض أنه رأى الوالد والولد في عينيه. الوالد الذي ذهب ضحية جريمة سياسية مهما قيل عن نتائجها، إلا أن النتيجة الأولى لسعد هي فقدانه الوالد. الولد هو حسام نجل سعد ورفيق جدّه في أسواق بيروت ونجم الفيلم الذي أعادت بثه C.N.N. مرات بعد اغتياله، فكانت الصورة الأحلى للطفل الذي سيتحدث عنها تكراراً طوال حياته. بينما يمسك بيده الصحف التي تتحدث عن محكمة هي الأولى من نوعها في الشرق الأوسط وربما الثالثة في العالم، تختص باغتيال جدّه ورفاقه في أيامه وفي سياسته.
لم يكن ممكناً ولا متوفراً غير العاطفة الصادقة في تلك الليلة، فكان الدمع هو النجم في عينيه وفي عيني الكثيرين من جمهور والده الذي يقدّر على عادته المستجدة. الجرأة على الغصة والحرارة في الدمعة. أخذت السياسة مكاناً قصياً في تلك الليلة رغم الدعوات الدافئة إلى الحوار السياسي التي تكررت على لسان سعد الحريري. لكن هذه الدعوات لم تخرج من إطار الاستغراب لتردد قادة المعارضة في تلبية دعوته.
بدا سعد مع مارسيل غانم الذي استطاع أن يحقق يومي الأربعاء والخميس ما لم يستطع أحد أن يوصله بكل اللغات وأولها لغة العاطفة إلى الجمهور العربي. بدا سعد مع مارسيل وكأنهما مسؤولان عن إظهار مدى الودّ الذي يستطيع الاعلام المرئي أن يحتضن به الجمهور، فيحصل التطويق “البريء” لقادة المعارضة وكأنه المقيم في الحياة السياسية للبنانيين وهم أي ـ قادة المعارضة ـ يتجاهلونه.
حصل مثل ذلك مع السيدة بهية الحريري المكسورة القلب، الشامخة الجبين، المنتصبة القامة والتي في حركتها الخاصة والعامة، أصدق ما يمكن لشقيقة أن تفعل.
اختار فؤاد السنيورة رئيس الوزراء اللبناني وعشير الرئيس الحريري، طريق الواقعية سبيلاً للحديث في تلك الليلة ففاجأ عارفيه قبل خصومه بقدرته على تجاوز ما قاله غيره وقاله هو، من قسوة وحدة وتدرّج في المواجهة السياسية مع المعارضة. استطاع الرئيس السنيورة أن يُظهر لمن لا يتوقع أن يسمّيهم في “ليلة العاطفة”، أنه قادر على التوجه إليهم مباشرة وقول ما لم ينتظروا سماعه منه.
اعتبر المحكمة ليست موجهة بالتحديد ضد الشقيقة سوريا. معتبراً الحرب السياسية التي شهدتها البلاد منذ أكثر من سنة سوء فهم وتباين في المواقف، مقدراً الظروف التي حالت دون إقرار المحكمة في المؤسسات الدستورية اللبنانية. الأهم قوله أن “لبنان واحد موحّد بأرضه المحررة بفضل سواعد المقاومة وصمود أهلنا في الجنوب”.
اعتمد السنيورة طريق الواقعية متكئاً على نص سياسي رفيع المستوى في شكله، شجاع في مضمونه، قدير في أدائه.
انتحى وليد بك، جانباً، تاركاً لآل الحريري ومن لفّ حولهم، ليلة العاطفة. مضيفاً بذلك إلى رصيده جديداً. تاركاً نفسه وجهده للعمل الجماعي الذي صدر في بيان قوى الرابع عشر من آذار بصرف النظر عن سلامة ما جاء في مضمون أسطره الأخيرة.
أمسك البك بترفّعه الشكلي في تلك الليلة مكتفياً مبكراً بدعوة جمهوره إلى عدم الاحتفال وممضياً سهرته يخاطب النجوم وربما أكثر.
كان وليد بك حتى اللحظة الأخيرة من اليوم يتابع أنباء مجلس الأمن في نيويورك وهو محاط برفيقه الدائم أي القلق، الذي صار يعتبر مرافقته له تهمة أكثر مما هو واقع. مستعملاً الكثير من التعابير التي لن يقولها إلا بعد الاقرار. صار مثل المتطيرين الذين يخافون من إعلان الحدث السعيد قبل وصوله، لربما أصابه الحسد.
***
ليس هذا مستغرباً على من رافق هذا التغيير السياسي الكبير الذي شهده لبنان منذ الشهر العاشر في العام 2004 حتى الآن. صورته على حائط مستشفى الجامعة الأميركية يتسقّط أخبار العمليات الجراحية المتكررة لمروان حمادة. وقفته في قريطم يوم اغتيال الرئيس الحريري قائداً بمن حضر. حضوره الصاخب للجنازات السياسية لرفاقه. جرأته في الكلام فوق كل قدرة على الاغتيال. ذهابه إلى الحد الأقصى لما يمكن ان تصل إليه الطائرة حيث اجتمع مع الرئيس الأميركي وأدهى معاونيه في واشنطن. وفي المشهد الأخير يكتفي بمن حوله من القلائل جداً ليحتفل على طريقته. يجوز هذا الوصف، في حال كان بيان قوى الرابع عشر من آذار في منزل الرئيس رفيق الحريري هو فاتحة كلام وليس منصة هجوم سياسي لا يعرف للوقوف محطة ولا يريد أن يرى من اللبنانيين إلا جنازاتهم.
ليس هناك من عاقل في السياسة يسعى لأحسن ما في الصيغة اللبنانية من ابتكار، أن يرى في “العاطفة الشجاعة” لسعد الحريري وفي كلامه السياسي “البريء” في مقابلته التلفزيونية وفي “الموضوعية الجريئة” لكلمة الرئيس السنيورة، وفي المطوّلات المبدئية لما جاء في بيان قوى الرابع عشر من آذار، وفي ترفّع وليد بك عن الاحتفال، ليس لعاقل أن يرى في هذه الخريطة من الكلام والتصرّف، إلا أنها تبتعد في تضاريسها عن معنى حدث بحجم المحكمة الدولية. حتى لو كان المقصود منه استدراج عروض تقليدياً يعرف الصديق قبل الخصم أنه صياغة لم تعد شائعة الاستعمال.
ليس هناك من قادر عادل في الفهم السياسي للصيغة اللبنانية، لا يعلم أن ما هو مقرر وقضاء وقدر دولي للبنان في الخريطة السياسية الجديدة لا يقوم سلماً إلا بتفاهم الحد الأدنى في الداخل. مهما عظمت قوة القرار الدولي ومهما صغرت أحجام اطراف الداخل. فكيف إذا كانت الجهة المعنية بهذه الخريطة، ليست مصابة بعقدة الأقلية، ولا حزن الغربة، ولا احتمال فقد المولى والمورد والمرجع؟
هذا في الشكل الخارجي لصورة الثلاثي السياسي الحريري، جنبلاط، السنيورة. إلا أنه في الحقيقة رباعي، رغم الحساسية السائدة من تسمية الحلف الرباعي السيء الذكر والنتيجة في الانتخابات النيابية الأخيرة.
الرباعي هنا يقصد فيه البطريرك صفير الذي عاد من زيارته الأخيرة إلى الفاتيكان ليحمل الشمعة السياسية مضيئاً درب اللدودين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع. الأول بصفته التمثيلية الشاملة المسيحية في مجلس النواب وليس من مبرر لتجاهل أهميتها. والثاني بتحالفه المبكر مع قوى الرابع عشر من آذار والتي تجعلهم يرون في تقدم تمثيله السياسي واستعادته للكثير من الهيئات المهنية الموالية لتنظيمه السياسي في مجتمعه، تجعلهم يرون فيه توازناً ضرورياً وفاعلاً.
هذا لا يعني التزامهما ـ أي العماد عون والدكتور جعجع ـ بما يراه البطريرك صالحاً لخير لبنان وضمان استقلاله، ولترسيخ الوجود المسيحي حيث هو بدلاً من فقدانه. لكن من الواضح أن البطريرك الذي يحوز إجماعاً على اعتداله وتأييداً لواقعيته، معتمد لدى الجهات الدولية والعربية الفاعلة على الساحة اللبنانية. ومن يريد مخالفته من القيادات المسيحية لن يجد أذناً صاغية لارائه لدى هذه الجهات.
***
لذلك لا يجوز الاستهانة ولا المبالغة بالمحادثات التي اجراها العماد عون مع وزير الخارجية الفرنسية في باريس في الأسبوع الماضي.
إذ كان واضحاً من التصريحات التي أدلى بها بعد المحادثات الفرنسية وقبلها مع ديفيد ولش مساعد وزيرة الخارجية الأميركية في بيروت، وبعدها في روما حيث استرد الفاتيكان الملف اللبناني بعد انتخاب البابا الجديد، أن العماد عون يريد الاحتفاظ لنفسه بصفة المرشح لرئاسة الجمهورية وهذا حقه الذي لا ينازعه عليه أحد، ولا يتمسك بالدور الذي يرشحه له حلفاؤه أي تعطيل انعقاد الجلسة النيابية المخصصة لانتخاب رئيس للجمهورية والتي اتفق على أن يكون نصابها ثلثي الأعضاء في المجلس.
يمسك الرباعي اللبناني بقرار مجلس الأمن الخاص بالمحكمة الدولية وهو يناور في سياسته الداخلية حكومياً بعد أن صارت المحكمة من ماضي القرارات مبدئياً. ويلوّح بالقرار 1559 المنفذ منه خروج الجيش السوري من لبنان بموجب أحد بنوده، ويستقر على القرار 1701 الراعي لانتشار قوات الطوارئ الدولية على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية والمطالِب بحصرية السلاح في يد الدولة اللبنانية.
حققت هذه القرارات الدولية الكثير من الوعد بالاستقرار الدائم على الرغم من الاهتزازات الأمنية العابرة إذا صح التعبير. إلا أن مقعداً أساسياً على طاولة الإدارة الوطنية، رغم حضور الرباعي، لا يزال خالياً. وما لم يشغله صاحبه أو أصحابه تكون قوى الرابع عشر من آذار كمن يمسك بالجمر أو بأحسن الأحوال بالهواء.
من المبكر اصدار الأحكام في هذا المجال فالحوار “الاجتماعي” لا زال في بداياته بين سعد الحريري والرئيس نبيه بري، والمكالمات السياسية ـ الأمنية لم تنقطع بين وليد بك والرئيس “الحريّف”. إلا أن مراجعة هادئة لحركة بري السياسية منذ الاعتداء الإسرائيلي في شهر تموز الماضي حتى الآن تؤكد بما لا يقبل الشك ـ إلا لمن يريد اتهاماً ـ أن رئيس المجلس حرص بكل ما لديه من قدرات على تمرير الحوار ما بين قوى 14 آذار وقوى الثامن من الشهر نفسه، وابقائه على حواراته رغم معرفته بعض الاحيان باستحالة الوصول إلى نتيجة سريعة لهذا البند في جدول الكلام.
ساهم الرئيس بري في صياغة القرار 1701 الراعي لنشر القوات الدولية في جنوب لبنان، باعتباره حجراً في عقد استقلال لبنان الجديد.
وضع بنود الحوار منفرداً، فكان سلاح المقاومة واحدا من بنوده تداركاً للمراسلات الكلامية حول هذا الموضوع الحساس والمستفز في وسائل الإعلام.
افتعل اجتماعات التشاور. جعل من توقيع السيد حسن نصر الله والعماد ميشال عون ملزماً على البنود التي لا ترتاح إليها دمشق.
وقف الى الجانب السعودي مبادرة واتصالاً ورغبة في جعل الرياض مقراً للاتفاق، ومساندة لمنع “المعتصمين” المحيطين بالسرايا الحكومية من الصدام مع القوى الأمنية بنيّة الاقتحام.
وضع الرؤوس المشتعلة في مياه باردة حتى تهدأ. قال حين لم يكن الكلام مسموحاً بأنه ليس لحركة “أمل” ملاحظات على نص قرار إنشاء المحكمة الدولية.
وافق على القضاء دائرة انتخابية داعماً لموقف بكركي. نادى بصفة المقاومة السياسية للحكومة اللبنانية من الجنوب مسانداً النقاط السبع التي ساهم في نصها ودعمها بعد أن عادت من روما مع الرئيس السنيورة بعد اجتماع مع وزراء خارجية دول عدة بينها وزيرة الخارجية الاميركية، حيث ظهر هناك أنها لم تحظ بالدعم المطلوب من قبل القوى التي لا تريد للعدوان الاسرائيلي أن يتوقف.
فعل كل ذلك، لكنه عاد واجتهد في مسألة المحكمة الدولية استناداً إلى الحديث الشريف “من اجتهد وأصاب فله أجران ومن لم يصب فله أجر واحد”. فذهب ما أقدم عليه سابقاً ضحية الحدة التي سادت لغته ومعاونيه في حق الرئيس السنيورة، حتى الدعوة إلى استقالته، ولو بشكل مؤقت.
يعلم الرئيس بري أن تفسيره لموقفه من المحكمة الدولية ليس ببساطة القول عنها إنها ذهبت ضحية التوقيت بينه وبين الرئيس السنيورة. وإن ما حاول إخراجه في الشكل لم يخفه المسؤولون السوريون في وصفهم للمحكمة قبل صدور قرار إنشائها وبعده. مع ذلك يُنتظر من الآخرين في القوى السياسية المناوئة له ان تجد في خصومته ما يتجاوز قاعة مجلس النواب التي لا تفتح في وجوههم حين يقفون في بهو المجلس كل يوم ثلاثاء. فلا تتجاهل دوره ولا رغبته في حسن إدارة الصراع بين الأطراف المتصارعة. “فما لا يدرك كلّه، لا يترك جلّه”، على حد قول فخامة جان عبيد.
***
هذه أوصاف واقعية لحياة سياسية تنشأ على خط زلازل المنطقة الحبلى بانفجار لا بد أن يحصل على جبهة ما. لقد سجل تاريخ النظام اللبناني للمرة الأولى منذ قيامه تجاوزين كبيرين لا سابق عهد له بمثلهما، الإنجاز ـ التجاوز الأول هو المواجهة السياسية الدولية في مجلس الأمن مع النظام السوري وكسر إرادته بعدم التصويت على المحكمة الدولية. وهو ما لم يحصل رغم امتناع 5 دول عن التصويت أهمها روسيا والصين.
أما الإنجاز ـ التجاوز الثاني فهو قرار المواجهة المسلحة مع تنظيم أمني ـ إرهابي على علاقة عملانية مع أجهزة الأمن السورية. فللمرة الاولى منذ العام ,87 اتخذت الحكومة اللبنانية قراراً نفذه قائد الجيش العماد سليمان بحكمة ووعي واحتراف، بالدخول في حرب “مربعات” في مخيم نهر البارد للقضاء على ما يسمى بتنظيم “فتح الإسلام”. فحقق القرار وتأكد الجيش من احتضان لبناني جامع له. وستنشأ بعد هذه المعركة مفاهيم أخرى للمخيمات وللسلاح فيها وخارجها ممن يدعون أسباباً فلسطينية لوجودهم المسلح على الأراضي اللبنانية.
لم تلاحظ قيادة “حزب الله” الخريطة الجديدة التي رسمت للبنان بعد ظهور هذا التنظيم في الشمال. أولاً بسبب تنوع جنسيات المنتمين إليه من العرب والذين يتبعون فكر “القاعدة”. ثانياً بفضل المعلومات التي قيل إنها منسوبة لاعترافات معتقلين من هذا التنظيم عن الخطط المقررة لمنطقة الشمال أمنياً وعقائدياً. ثالثاً المخططات التي ظهرت لتوجه مقاتلي هذا التنظيم نحو القوات الدولية في الجنوب.
***
دخل لبنان في خريطة الإرهاب الدولية والتي فتحت مخازن الذخيرة الأميركية في المنطقة، ولو بشكل محدود أمام تنفيذ التزامات مقررة سابقاً، عاد لبنان الى عناوين الصفحات الاولى من الصحف الأميركية. “كريستيان ساينس مونيتور” عنونت صفحتها الاولى في الاسبوع الماضي بالتساؤل عن التهديد الذي يشكله الشباب الأميركي المســـــلم البالغة نسبته ثمانية بالمئة من المجتمع، خاصة وان الجنسية الاميركية والمعاملات الحكومية لا تتصل بالدين فلا يمكن البحث عن هذه الشريحة الاجتماعية أو عن توجهاتها.
جون كولي كتب عن أن التطرف الديني لا يتراجع مع الوقت حتى لو كان صاحبه مولوداً خارج بلاده وفي دولة علمانية مثل دول اوروبا، على عكس نزاعات المنطقة القادم منها المهاجر، والتي يضعف انتماؤه إليها مع مرور الوقت.
يضيف كولي في دراسة للصحيفة نفسها إن للإرهاب جذوراً في الغرب. وإن الرئيس الفرنسي الجديد نيقولا ساركوزي يشجع زملاءه في الاتحاد الاوروبي على دفع المهاجرين المسلمين نحو الاندماج في مجتمعهم الجديد.
“نيويورك تايمز” تنصح العراقيين بالاستفادة من الدرس اللبناني الذي وحّد الأمة خلف الجيش في مواجهة الإرهاب. هذه المقالات وغيرها من الدراسات استيقظت كلها في اسبوع مخيم نهر البارد. حيث بدا أن الجيش ليس طفلاً تخاف عليه من التعرض للحر او للبرد بل لدى قيادته النضوج الكافي لتحديد المدى الذي تحتاجه عملية عسكرية من هذا النوع. متمتعاً بمحيط متضامن في الشمال وبسلطة وطنية فلسطينية تدعم كل ما يقوم به.
***
مجلس العلاقات الخارجية الأميركية عقد ندوة في اليوم التالي لصدور قرار مجلس الأمن. اعتبر المنتدون ومنهم المعلّق الشهير ستيفن كوك أن إقرار المحكمة الدولية يضع حداً للعنف السياسي في منطقة الشرق الأوسط وليس في لبنان فقط.
من هنا ظهر الارتباك على الموقف السياسي لحزب الله في الأيام الأولى من المعارك في المخيم الشمالي. ركّزت القيادة على نقاط الضعف في الجيش وانخفاض نسبة مناعته أمام عملية عسكرية من هذا النوع. ثم ربطت الاشتباك بمخططات أميركية تحاك في لبنان لنزاع داخلي استناداً الى انتشار القاعدة “الإرهابية” فيه. حين ظهر الالتفاف الشعبي حول الجيش ودوره في الشمال، وقعت قيادة الحزب بين مطرقة قرار “المواجهة المسلحة” الذي اتخذته قيادة الجيش للمرة الاولى منذ زمن طويل، وبين سندان الجمهور الذي لا يرى في الجيش غير دوره المطلوب وطنياً. ولا زال الارتباك على حاله. مع العلم أن الانتشار العسكري للجيش اللبناني في جنوب الليطاني متعاوناً مع قوات الطوارئ الدولية قوبل في حينه بالترحيب الفعلي من قيادة “حزب الله”.
التعليق الأدق للجانب السوري الذي يشعر بتوالي الضربات على سياسته في القرارات الدولية بشأن لبنان، هو ما جاء في صحيفة “تشرين” التي اعتبرت أن قرار إنشاء المحكمة قد تكون له انعكاسات خطرة على الوحدة الوطنية اللبنانية.
لا يجوز اعتبار الموقف السوري ارتباطاً بمخاوف “حزب الله”، ولا العكس طبعاً. فالأمين العام للحزب أعرب مرات عدة عن مدى الالتزام الوطني للجيش في كل ما طلب منه وما عمل عليه. والرئيس السنيورة عاد الى الاعتراف بفضل سواعد المقاومة في تحرير الأرض وسعد الحريري مد يده “البريئة” للحوار ووليد جنبلاط تحدث عن صيغة لسلاح المقاومة يشبه بما حدث للجيش الجمهوري الايرلندي الذي احتفظ بسلاحه ولكن وفق ترتيبات وضعت إطاراً رسمياً له. ليست هذه مقررات بل اقتراحات تظهر اعترافاً من قادة الأكثرية “الرابحة” للقرار الدولي انها على استعداد لتسوية الملف الاصعب في ملفات الحوار. هذا مع العلم أن عائدين من دمشق ينقلون عن الموقف الايراني تشجيعه لعقلنة الصراع السياسي في لبنان، على عكس الصياغة السورية لسياستها في الشأن اللبناني.
***
لن تغيّر كل هذه الوقائع المفترضة لمرحلة ما بعد إقرار المحكمة من أن أحداً لم يقدم على الخطوة الاولى حتى الآن، ما عدا السفير السعودي في بيروت.
السفير عبد العزيز خوجة لا يتعب من المبادرة، وكلما أوقعت مبادرة من يده، همّ بالثانية شارحاً فضائلها لمن يقابله من المسؤولين. لا يكل ولا يمل ولا يترك التجربة تعتب عليه. رغم السهام التي تتلقاها مبادراته من الاصدقاء وهم كثر، والخصوم وهم قلّة. يعلم السفير الخوجة أن مفتاح الاستقرار السياسي المطلوب لانتخابات رئاسة الجمهورية هو الوضع الحكومي. وأن مهمته تقوم على تسهيل مخرج للمعارضة لكي تنسحب من الاضطراب الأمني والسياسي، وليس تأمين رصيد جديد للأكثرية على طريقة بيانها الاخير الذي دعا الى وفاق حكومي بعد انتخابات الرئاسة.
لذلك تحرك السفير خوجة في ثلاثة اتجاهات: الاول يتولاه قريباً الامير سعود الفيصل مع زميله الايراني العائد من دمشق. والثاني مع السفير الأميركي في بيروت. والاتجاه الثالث مع ســـعد الحريري ووليد جنبلاط. الصيغة تعود الى الماضي الطبيعي للتسويات أي توسيع الحـــكومة بحــيث تكون السعودية هي الضامنة لعدم صدام ثلثي الأكثرية بثلث المعارضة.
كيف؟
لم تتبلور الصياغة النهائية بعد، لكن الرئيس بري لا يثق بكل ما يسمعه حتى الآن بعد تجاربه السابقة. لكنه كما هو “معروف عنه” لا يتجنب التفاوض، او حتى يمكن القول إنه كثير السعي إليه. والسفير خوجة يجد في مجلسه ما يُسعد دبلوماسيته وشعره وحكايا الناس. يستطيع وليد بك ان يقول إنه رصف عقد الاستقلال اللبناني الجديد حجرة، حجرة. وإنه حجز لنفسه مكاناً دائماً في تاريخ لبنان الحديث في القرار الأخير لمجلس الأمن. ويقدر سعد الحريري أن يدّعي أن التحاقه المتأخر والاضطراري بركب السياسة اللبنانية لم يمنعه من قياس حجر العقد اللبناني نفسه. إلا أن هذا العقد لن يكتمل ما لم توضع فيه أحجار “الحزب” و”الحركة” بما هما تمثيل للشيعة اللبنانيين. ما لم تحدث هذه الإضافة الطبيعية يكونان ـ أي جنبلاط والحريري ـ كمن يحاكِم نفسه، لا ما فعله الآخرون به.

* العقد هو طريقة لبنانية ـ عربية في البناء تعتمد شكل القنطرة، ويقوم توازن العقد على حجر واحد يوضع على رأسها.