من يفجّر الصاعق المسيحي؟ ( 2 )

مقالات 27 فبراير 2006 0

التقيت الدكتور سمير جعجع مرتين. كلتاهما في قريطم الصغير الجميل بعد تشكيل الرئيس رفيق الحريري لحكومته الأولى في نهاية العام 1992.
في المرة الاولى كان “الحكيم” وزوجته مدعوين الى العشاء الى طاولة الرئيس الشهيد طيّب الله ثراه. تأخر الرئيس الحريري وزوجته السيدة نازك في النزول من الطابق الأول. وجدت من اللائق أن أجالس الضيفين في الصالون الرئيسي لتخفيف غربتهما عن المكان. دخلت عليهما، وجدتهما يكادان يلتصقان ببعضهما البعض حيث يجلسان في صدر الصالون، كثيري التهذيب. إنما كان واضحاً أنهما لا ينتميان الى حيث يجلسان. لا لغرابة في المكان أو في المضيف بل لأن “الحكيم” جلس لسنوات طويلة جداً في أماكن بعيدة كل البعد سياسياً وشخصياً عن حيث يجلسان في تلك الليلة.
بدا “الحكيم” ودوداً في حديثه وإن كان لم يتجاوز الإطار العام للأمور المطروحة للبحث في ذلك الحين. دقائق وينزل الرئيس الحريري يستقبلهما بالترحاب. يرتاح “الحكيم” في جلسته. أنسحب من الجلسة إذ كان مقرراً انه عشاء مغلق.
لم يتضح لي منذ البداية سبب الدعوة أو مضمونها، إلا انه بدا ان الرئيس الشهيد على معرفة سابقة حميمة وودودة بالحكيم.
مرت أسابيع قليلة ليظهر ان الحريري يسعى لمصالحة بين الدكتور جعجع والوزير حبيقة في ذلك الحين، وأن مساعيه تكللت بالنجاح. إذ دخل ذات ليلة “الحكيم” علينا في صالة قريطم ليتبادل كلمات قليلة مع الرئيس الحريري، ثم يمسكه من يده نزولاً الى الطابق السفلي من المنزل حيث كان ينتظر حبيقة منذ ربع ساعة.
دقائق قليلة يمضيها الرئيس الشهيد معهما ثم يعود الى صالونه لمتابعة استقبالاته وأشغاله. كانت البسمة بادية على وجهه وهو يصعد السلم من الطابق السفلي، أما أنا فكنت أضحك من حجم الحروب المتوفرة في صالون الطابق السفلي.
بعد أقل من ساعة يعود الرئيس الشهيد لينزل السلم للانضمام إليهما. لم نكن قد سمعنا صوتاً لهما طوال الساعة الأولى من الاجتماع. بينما نحن نتبادل السيناريوهات حول فحوى الحديث بين الزميلين المتقاتلين المفترقين، الرمزين للقوات اللبنانية التي تمثل منذ 15 سنة عنفوان وعنف المسيحية السياسية.
أخبار آخر الليل في الدائرة الأضيق حول سرير الرئيس الحريري. لم يحقق الاجتماع الغاية التي أرادها رئيس الوزراء بشكل تام، إنما يمكن القول ان ما تحقق هو أكثر من خطوة أولى. النادرة التي غيّرت وجه الحريري وهو يتحدث عنها عدد المؤامرات المتبادلة للاغتيال بين حبيقة وجعجع والتي يتحدثان عنها ببساطة الكشف عن أي موضوع عادي.
لم تكن الادارة الأمنية السياسية السورية قد أغلقت باب الحوار مع الدكتور جعجع. هو يرى في ما يفعلونه من تنظيم سياسي وأمني مخالفة صريحة وواضحة لاتفاق الطائف الذي دفع ثمنه والقوات اللبنانية غالياً في حرب الإلغاء مع العماد عون.
وصل في تصعيده الى حد الدعوة صراحة وعلانية الى صيغة فيدرالية للبنان تعطي المجتمع المسيحي ما يعوّضه التغيير الديموغرافي.
هو قال في ما بعد، ان الفيدرالية لم تكن مشروعه في الاساس إلا انه حين رأى اتفاق الطائف يتهاوى لصالح الاتفاق الثلاثي الذي رعته سوريا بتمثيل مسيحي اسمه ايلي حبيقة، لم يجد أمامه غير الخروج من الصف. إذ انه انضم الى داعمي اتفاق الطائف بالدم المسيحي على أساس انه اتفاق أميركي سعودي سوري. ولن يتراجع الآن الى حجم اتفاق سوري أميركي يعطي الترجمة الفعلية للتركيبة اللبنانية الى دمشق بسبب مشاركتها العسكرية في الحرب الاميركية لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي.
تمترس في غدراس يستقبل الموفدين الواحد تلو الآخر دون ان يتزحزح عن موقفه. اجتمع إليه العقيد جميل السيد نائب مدير المخابرات آنذاك 13 اجتماعاً دون نتيجة. ذهب إليه الوزراء محسن دلول وألبير منصور وميشال سماحة في ذلك الحين مرات ومرات لإقناعه بالمشاركة في الحياة السياسية والوزارية بحصة قررتها الادارة الأمنية السياسية السورية فلم يمتثل. ذكّروه بأنه خاض حرب مقاطعة المسيحيين للانتخابات النيابية في العام 92، وأن من قاطع لا تحق له حصة المشارك. اعتبر هذا الكلام خارج نطاق التفاوض وان القاعدة هي من انتصر للطائف وقاتل من أجله.
ركب العميد غازي كنعان سيارته وقادها وحيداً من عنجر الى غدراس. عاد خالي الوفاض. كان المرحوم اللواء كنعان لاحقاً يتفاخر دائماً أمام زواره بهذه الرحلة التي اعتقد أنها ستفتح الباب للحوار السياسي بين دمشق وغدراس. بقي عاجزاً عن فهم عناد هذا “الحكيم” حتى مغادرته لبنان. ذهب الحكيم الى “القرداحة” معزياً الرئيس حافظ الأسد بنجله المرحوم باسل. قام بالواجب الاجتماعي لكنه بقي على موقفه.
لم يكن باستطاعة “الحكيم” أن يفعل غير ذلك ليحفظ تمثيله السياسي حتى لو كُتب على صفحات التاريخ بدل أن يكون واقعاً حقيقياً. فهو ليس ابن المؤسسة الحاكمة المسيحية منذ الاستقلال، ولا هو ابن الجبل الذي يتفاخر المسيحيون بانتمائهم إليه. ولن يقبل أن يكون مساوياً لإيلي حبيقة المرفوض مسيحياً.
أكثر من ذلك، هو يحمل في ذاكرته وعلى يديه ثلاثاً من أبرز الإصابات في الجسم المسيحي. أولها مجزرة إهدن حين قتل الوزير طوني فرنجية وزوجته وابنته. ثانيهما حرب الجبل حيث منيت القوات اللبنانية بخسارة فادحة أدت الى تهجير المسيحيين وتدمير قراهم. ثالثهما حرب الإلغاء مع العماد ميشال عون حين دمرت المناطق المسيحية من بيروت الكبرى.
صحيح انه نفّذ العملية الاولى بأوامر من قيادته الكتائبية وهو في السادسة والعشرين من عمره. وفي الثانية قبل التحدي من القيادة العائلية التاريخية للحزب. وفي الثالثة وقع ضحية “مؤامرة”تمّت عن بعد بين دمشق والرئيس أمين الجميل بتسمية العماد عون رئيساً للحكومة فتكون النتيجة الحتمية هي الصراع العسكري، هذا دون الانتفاضات المتكررة.
غير أن كل هذه المبررات لا تلغي الحقائق من ذاكرته ولا تترك لحقائق اخرى أن تمسك بقراره.
كان سمير جعجع يعلم أن الرئيس سليمان فرنجية حكم البلاد والعباد لمدة ست سنوات ولم يستطع أن يمتد خارج الشمال بزعامته. وهو ابن العائلة السياسية العريقة وشقيق حميد فرنجية الزعيم المسيحي العروبي. فكيف له وهو ابن المؤهل المتقاعد في الجيش أن يخترق صفوف المسيحيين حين يتنازل سياسياً من وجهة نظره على الأقل.
لم تقتنع النخبة المسيحية بمفهومه للأمور واعتبرته “راديكالياً” على حد قول أحد قادة النخبة. حتى الطبقة المتوسطة المستنيرة والممسكة بعصب العقل المسيحي لم تسانده حين احتاجها. النخبة اعتبرته من خارجها، والطبقة المتوسطة المستنيرة وجدت في العماد عون منفياً معبّراً عن تطلعاتها. بقيت له عصبيته التي عملت زوجته السيدة ستريدا طويلاً على حفظها وصيانتها.
الى جانب عصبيته الضيقة نسبياً، كان البطريرك صفير صامداً الى جانبه لا يتغير مهما تغيّر الزمان. لم يكن البطريرك يفعل ذلك تأييداً لسياسة الدكتور جعجع المختلف عليها بين المسيحيين، بل لأنه يعتبره احتياطياً ضرورياً لسياسة الرفض المواجهة للهيمنة السورية على لبنان. أليس هو رفيقه في دعم اتفاق الطائف؟
كانت هذه المسألة تقلق الرئيس الحريري دائماً. يحرص على التواصل الدائم مع سيد بكركي الى حد تفرغ “سيدنا” الدكتور داوود الصايغ لهذه الصلة. غير انه ما استطاع مرة تقديم إجابات فعلية ومقنعة على أسئلة البطريرك صفير منذ تسلمه رئاسة الحكومة في العام 1992 وحتى اغتياله حين يتعلق الامر بالوجود العسكري السوري. لم تستطع العصبية الضيقة نسبياً ولا الحضور البطريركي السياسي من الوقوف حائلاً دون قرار سجن جعجع بعد حادث تفجير لكنيسة اتهم به في العام 1994.
تردد الرئيس الحريري لأسابيع في الموافقة على قرار السجن، مما دعا اللواء كنعان الى الاستعانة بوزير الدفاع محسن دلول مرات عدة لإقناع الحريري فلم ينجح. تقبّل على نفسه أن يستنجد بي في عنجر لمساعدته على إقناع الرئيس الشهيد، فلم أفعل. اتخذت قيادة الجيش القرار بالذهاب الى غدراس وتوقيف جعجع بينما مجلس الوزراء منعقد لاتخاذ القرار بالتصويت إذا لم يكن بالإجماع. مع العلم أن طرح موضوع من خارج جدول الاعمال هو حق لرئيس الجمهورية الياس الهراوي فقط.
لم تكن جريمة اغتيال الرئيس رشيد كرامي مطروحة آنذاك.
لا شك بأن الدكتور جعجع عانى الكثير في سجنه. وهناك حكايات وحكايات وحكايات لا تروى عن مدى القسوة التي عومل بها. يبدو انه يريد أن ينساها الآن أو أنه نسيها فعلاً على حد وصف المطران فرنسيس البيسري في كتابه بين “المطران والحكيم” وكان الأصح تسميته “الانبهار بالحكيم”.
كان المطران بيسري وهو رجل قصير القامة، ممتلئ الصحة، دائم الابتسامة، يزور الحكيم في سجنه مرة في الشهر. اختير من قبل مجلس المطارنة لأنه مطران الشمال حيث قرية الحكيم وأهله.
يقول المطران في كتابه: ما اختلف الناس إلا حول عظيم، البعض قالوا انه رجل حرب، حمل السلاح، حمّله للآخرين. قتل وقتَلوا وقُتِلوا.
البعض الآخر قالوا: لولا هاك الزرع، لما كان هذا الحصاد الوفير. البلدان تبنى بالتضحيات حتى الموت، الموت على الصليب. ولو لم يصلب الحكيم ذاته، هو وكثيرون شأنه ليدافعوا عن لبنان، لما كان لبنان الذي نعيش فيه.
ثم يصفه بأنه أمين وليس عنيداً كي يربح ذاته ويخسر لبنان والآخرين.
الكثير من صفحات الكتاب الذي ألفه المطران البيسري تؤكد على متانة الايمان في نفس “الحكيم” وتؤكد أكثر على مدى تبني الكنيسة لقضيته سجيناً أم حراً.
ليس المطران البيسري وحده من هذا الرأي، بل ان المؤرخ تيودور هانف يصفه بأنه متصوّف ومترفّع عن الماديات.
البطريرك صفير الذي رفض زيارة دمشق طيلة وجود جيشها في لبنان لم يترك فرصة لقاء مع الرئيس الحريري إلا وكان يطالب بالإفراج عن جعجع اولا ثم عودة العماد عون من منفاه.
اعتمد سيد بكركي قول “ظلم في السوية عدل في الرعية”. ليشير الى انه إذا كان هناك من قرار سياسي بسجن جعجع لأنه قائد ميليشيا فهذا وصف ينطبق على غيره فلماذا هو وحده في السجن. عشرات الخطب للبطريرك تناولت هذا الموضوع مما زاد في إحياء ذاكرة السجين وعصبيته.
هذا لا يمنع الحقيقة التي تقول ان القوى الكبرى التي رعت اتفاق الطائف تركته يدخل وحيداً الى السجن.
تتكرر الرواية الآن. يخرج الجيش السوري من لبنان. يخرج “الحكيم” من سجنه. ينتعش حضوراً وكلاماً وإطلالة تلفزيونية يومية، يقف الى جانب قوى 14 آذار. التحالفات التي أدارتها زوجته السيدة ستريدا في السنة الأخيرة من سجنه أوصلت كتلة نيابية الى المجلس النيابي.
يستند رافعاً يدي الكبار وليد جنبلاط وسعد الحريري في ساحة الحرية. يخاطب جمهورا كبيرا لا يعرفه جيدا، بل يعرف عنه ما لا يبرر التصفيق الحاد له. يحسب بعينيه الحضور “القواتي”. لكنه حين يعود الى مقره في الأرز، يسأل نفسه أليست هي القوى نفسها التي رعت الطائف وتركتني أدخل الى آلسجن لمدة 11 سنة؟
من حيث المبدأ الصورة السياسية لا الشعبية هي نفسها في العام 1990. صحيح ان واشنطن وباريس أكثر حماسة الآن، لكن بالمقابل الأطراف العربية وعلى رأسهم السعودية متمهّلة.
حتى الخصومة هي نفسها. العماد عون يقف على رأس كتلة نيابية كبيرة لم يكن يتوقعها على حد قول أحد أصدقائه. إذ كان يتوقع نجاحاً أكبر في عكار حيث في كل بيت عسكري، وفوزا بعدد أقل في مناطق كسروان وجبيل والمتن. يمسك العماد عون بالتمثيل المسيحي. لا أحد يستطيع مجاراته في ذلك حتى لو أراد. يريد رئاسة الجمهورية له علناً وصراحة. وإلا فلماذا للسنّة أن يختاروا سعد الحريري وللدروز أن يقرر عنهم وليد جنبلاط وللشيعة سيدهم حسن نصر الله ورئيس مجلس نوابهم الدائم نبيه بري، ولا يحق للمسيحيين أن يكون جنرالهم رئيساً للجمهورية؟
أكثر من ذلك، وقّع العماد عون مذكرة تفاهم مع حزب الله متجاوزاً فيها اتفاق الطائف ومعلناً عن مساوئ الطائف بالنسبة للرئاسة الأولى المسيحية.
بالطبع يبتسم الدكتور جعجع من كل هذه الوقائع عند الجنرال والتي تسير عكس مجرى المياه في النهر كما فعل في العام 1990.
الجديد انه واثق من حلفائه أكثر من أي وقت مضى. فجنبلاط والحريري يتقدمانه في معاداة النظام السوري ويمشيان أمام التحالف الأميركي الفرنسي ليأخذاه الى حيث يريدان أكثر من الذهاب الى حيث يريد التحالف. العرب بدورهم يمسكون بالصاعق اللبناني منعاً لانفجاره. مصر تتقدم والسعودية تتمهل لكن الدور العربي على الباب ينتظر اللحظة المناسبة للدخول. فماذا يريد “الحكيم” أكثر من ذلك؟
اختار رئاسة الجمهورية ليقدم فيها صورته الجديدة. مترفع عن الترشيح. “من السجن الى البيت مشوار بعيد. فكيف الى الرئاسة؟” على حد قوله. ولكن اذا كانت النخبة لا تقبل به لأنه راديكالي فلماذا تقبل براديكالي آخر اسمه العماد ميشال عون.
البند الثاني عند “الحكيم” يتمثّل بالخصوصية المسيحية منعاً للتعابير المنفّرة وغير العملية مثل الفدرالية.
غيّر الحكيم مفاهيمه بشأن هذه الخصوصية. وذهب الى الطريق الطبيعية أي قانون الانتخابات الذي يحدد الحاضر ويؤطر المستقبل. فإذا به يقول رداً على سؤال عن رأيه في قانون النسبية الذي عرض على حليفيه سعد الحريري ووليد جنبلاط ان هذا الأمر خط أحمر نريد مناقشته بالتفصيل.
بدا “الحكيم” من خلال هذه الأولويات وكأنه يمثل الانفتاح المسيحي على العرب وعلى المجتمع الدولي. وهو في هذا لا يحتاج الى جهد. حليفاه الكبيران معه. رفاق 14 آذار المسيحيون يريدون دعمه للرئاسة. العرب يحبون سماع صوته المؤيد لدورهم، فرنسيته وإنكليزيته تصل تدريجياً ولو ببطء الى واشنطن وباريس.
بكركي في الذهن وفي القلب. ألم يكن الاعتدال هو عنوان تزكية الدكتور بيار دكاش في المقعد النيابي في بعبدا عاليه.
ما الذي يمنع أن يكون “الاعتدال” نفسه هو الاسم الذي سيقع عليه الاختيار لرئاسة الجمهورية الشاغرة الآن بانتظار الاتفاق العربي الدولي على الاسم الجديد. فلا هو من 14 آذار ولا من 13 تشرين تاريخ الاقتحام السوري للجنرال عون في قصر بعبدا.
عندها لا يكون الحكيم مسؤولا عن تفجير الصاعق المسيحي.