من أين يبدأ العاهل السعودي كتابة تاريخه؟

مقالات 05 ديسمبر 2005 0

يقف الأمير عفواً الملك عبد الله بن عبد العزيز بعد يومين على منبر الرئاسة في القمة الاسلامية الاستثنائية التي ستعقد في مدينة مكة المكرمة. الاعتذار سببه أن الملك عبد الله مارس ولاية العهد سنوات طويلة تفوق العشرين بحيث التصق في الذهن لقبه السابق.
هذه هي الاطلالة الاولى على هذا المستوى لعاهل السعودية الجديد الذي مارس الحكم لسنوات طويلة خلال مرض الملك فهد رحمه الله، لكن خاتم المُلك وختمه بقيا في يد أخيه حتى اليوم الأخير من حياته.
الموقع سيلعب دوراً كبيراً في أسطر الكلمة التي سيلقيها الملك عبد الله. فالمؤتمر الذي سيحضره بطبيعة الحال عدد كبير من رؤساء الدول الاسلامية سيؤخذ بجو مكة المكرمة أي الاتجاه الأول للمسلمين من كل أنحاء العالم.
صحيح أن قيادات الدول الاسلامية ستكون حاضرة. إنما أين الاسلام. هل هو حاضر. هل هو غائب. أم ان الحركات السلفية والأصولية المنتشرة هنا وهناك تركت الدول لقياداتها مؤقتاً وأخذت منهم الاسلام منبراً لمخاطبة الناس المتعطشة لكل شيء، بحيث زادت أسماء التنظيمات وعددها على عدد الدول الاسلامية؟
هذا بالتأكيد ما سيحاول الملك عبد الله الاجابة عنه وشرحه للحاضرين وللسامعين من غير الحاضرين.
لكن يكون الجواب سهلاً على طريقة ان الآخرين إرهابيون فقط وأن لوائح القضاء عليهم تتحقق بسرعة قصوى.
لقد واجه العالم بأسره هذا السؤال منذ أربع سنوات حين نفذ انتحاريون مسلمون عملية “تاريخية” في نيويورك ما زالت صورتها ماثلة في كل الأذهان، ولن تغيب من الذاكرة الاسلامية لسنوات طويلة جدا.
لم يكن الجواب متوافراً عند أحد من السائلين، بل بالعكس أفرز هذا السؤال أسئلة كثيرة ومتفرقة ومختلفة دون أن تحدد تماماً أصل العلة وسبباً أو أسباب الشفاء منها.
لن تكون قمة مكة الاسلامية المكان الأنسب للحصول على هذه الأجوبة، لكن بالتأكيد سيكون المجال رحباً لتشاور جدي ومركّز حول مستقبل علاقات الدول الاسلامية مع “الاسلام”. هذا هو الانطباع السائد عن الملك عبد الله شخصياً. إذ انه لا يمكن أن يكون ساعياً لوجاهة بلاده الاسلامية وهي عندها الكثير من ذلك. بل لا بد أن تكون هناك أسس جديدة تبني عليها السعودية، بالتشاور مع حلفائها وهم كثر في قمة من هذا النوع خريطة لحركة لا تتوقف. تأخذ الماضي في الاعتبار وتتوجه نحو المستقبل بعين كاشفة لما هو أوسع من المتداول أو المعروف من “عقاقير” محاربة الارهاب الأصولي.
لا يغيب عن ذهن الملك عبد الله وهو ينظر الى ضيوفه أن بعض زعماء التنظيمات “الارهابية” أكثر شهرة وتأثيراً على جمهورهم من رؤساء دول حاضرين ومعنيين بأمور المسلمين، وأن الذهاب نحو علاج هذه الحالة “الطارئة” على المسلمين هو بمزيد من التعقل والالتفات نحو حاجات شعوبهم التي تبدأ بالحرية وتنتهي بالخبز.
لا شك بأن العاهل السعودي الجديد الذي تسلّم مقاليد الحكم في شهر آب الماضي هو المدخل الطبيعي والعاقل للتغيير المطلوب. سمعته، تاريخه، أطباعه، طريقة حياته الشخصية، كلها تؤكد على استقامته الى حد المبالغة في قول الحق دون تردد.
لن يكون سهلاً على أي كان القول ان الملك الجديد قال كلمة وعاد عنها، أو اتخذ موقفاً وتراجع عنه. حتى لو بدا أن هذا الموقف خارج سياق الدبلوماسية السعودية التقليدية التي تقول بالمداراة والتكتم أساساً لحركتها.
لم يكن الرئيس الليبي معمر القذافي يتوقع أن يضع ولي العهد السعودي آنذاك في القمة العربية في شرم الشيخ لقبر أمامه في رد على اتهام السعودية بأنها مستعدة للتحالف مع الشيطان لمنع العراق من احتلال السعودية. كذلك فعل مع الرئيس السوري بشار الأسد حين وجد أنه يتلكأ في قبول النصائح السعودية بالتجاوب مع لجنة التحقيق الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فلم يجد حرجاً في القول انه لم يوفد مندوبه إلا بعد تلقيه 3 رسائل من الرئيس السوري الذي واجه كل النصائح بالسلبية. ثم انفرجت الامور بكلام ودي من وزير الاعلام السوري تجاه المبادرات السعودية وبيان من الديوان الملكي السعودي يشيد بالتجاوب السوري.
هذه الاستقامة الحادة هي النموذج الجديد الذي وضعه الملك عبد الله على طاولة الدبلوماسية السعودية. ويبدو أن الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية وجد في ذلك فرصة ينتظرها منذ زمن.
وليد بك جنبلاط الوارث لصداقة الملك الجديد عن والده يقول انه يثق تماماً بحكمة الملك عبد الله وأنه يعوّل عليه كثيراً في كل المصاعب السياسية التي تواجهه، ليس لأنه صادق ومستقيم فقط بل لأن اهتمامه برعاية لبنان ووليد بك ايضا يفوق اهتمام أي زعيم عربي آخر. وهو في ذلك يأخذ دور الوالد الحريص على أبنائه وعلى عروبة بلدهم. “فخامة” جان عبيد يؤكد ما قاله وليد بك ويضيف أنه يثق ثقة مطلقة بكلمة الملك عبد الله وبغيرته على أصدقائه ووفائه لهم.
“فخامته” الذي تعرف الى الملك منذ السبعينيات في فندق مونتانا في عاليه الذي كان يملكه الشيخ عارف يحيى رحمه الله والذي كان يحرص على التقريب بين أصدقائه. يقول “فخامته” إن السعودية اكتسبت مع تولي الملك عبد الله نظرة جديدة، ليس في الداخل فقط بل في العالم العربي، وللبنان حصة كبيرة في عاطفة العاهل السعودي.
هل تندرج هذه الأطباع على الوضع الداخلي؟
يواجه الملك عبد الله بحسب عارفيه ملفات رئيسية في السياسة السعودية الداخلية. الملف الأول يتعلق بالفساد في الإدارة. فقد شهدت السعودية طفرة نفطية لمدة تزيد عن العشرين سنة، نُفذ خلالها عدد لا يحصى من المشاريع العمرانية والانمائية دون حساب جدي للتكلفة الطبيعية لمثل هذه المشاريع. تدفّق المال النفطي جعل الادارة الرسمية وحتى العلاقات السياسية الداخلية قائمة على قاعدة العطاء المالي دون حساب. من السهل وضع حد للجانب السياسي والعائلي من هذا الموضوع بالتدريج وبهدوء وبتروٍ. لكن الادارة تحتاج الى عملية إعادة تأهيل كاملة للحد من الفساد داخلها، وهو أمر يحتاج الى وقت طويل والى قوانين وإجراءات. لكن هذا جانب لا يمكن إنكار حق “الاصلاحيين” بالمطالبة به، خاصة بما هو معروف عن الملك الجديد من تقشف في المال العام و”الخاص” أيضا.
الخطوة الاولى التي اتخذها الملك هي زيادة رواتب الموظفين بنسبة 15 بالمئة.
الخطوة الثانية المرتقبة هي خصخصة القطاعات الانتاجية في الدولة بشفافية مطلقة حتى الآن على الأقل. هذه الخطوة تحتاج الى وقت ايضا ولكن أقل بكثير من إعادة تأهيل الادارة.
الملف الثاني يتعلق بدور المرأة في المجتمع العملي.
من حيث المبدأ ينقل أحد أصدقاء الملك عنه أنه لا يرى في المرأة زوجة وأم أولاد بل هي الوالدة التي تقبل يدها والشقيقة التي ترعاها. ولا يمكن للمجتمع السعودي أن ينهض ويستمر دون دور للمرأة.
حققت غرفة التجارة السعودية سبقاً بانتخاب سيدتين في مجلسها الجديد. طبعاً ما كان هذا الأمر ليتم دون تشجيع الملك. الخطوة الثانية قام بها مجلس الشورى المعيّن بتشكيل لجنة خاصة مهمتها إيجاد مادة نظامية تجيز قيادة المرأة للسيارة. وهي قضية أخذت حيزاً دولياً من كثرة الحديث عنها، إذ كان مسموحاً للسيدة السعودية قيادة تجارتها وصناعتها في بلادها، فكيف لا يسمح لها بقيادة سيارة؟
طبعا هذا الموضوع رمزي يراد منه القول ان للمرأة حقوقاً مساوية للرجل ما دامت لا تخالف القانون ولا الشرع الديني.
الذين يعرفون الملك الجديد ومنهم “فخامة” جان عبيد يقولون ان في صدر الملك متسعاً من المكان لتديّن سمح ومعتدل وأصيل. لذلك قد يكون أسهل عليه التعامل بمرونة فعّالة مع طبقة رجال الدين المتشددين المخالفين لطبيعة العصر وتطوره.
الملف الثالث والأهم هو الادارة السياسية للديموقراطية التدريجية التي تفتح أمام الناس أفق التغيير السلمي. البلديات كانت المسرح الأول لهذه الديموقراطية البطيئة والجزئية.
أما مجلس الشورى المعين وتحوّله الى مجلس منتخب فلهذا قصة تعود الى 20 سنة مضت حين أعلن الملك فهد عزمه على تأسيس مجلس شورى. لم يحدث ذلك إلا في العام 1992 حين أعلن رحمه الله عن أنظمة ثلاثة: الأول النظام الاساسي للحكم، الثاني مجلس الشورى، الثالث نظام المقاطعات والمناطق. ولم يترك النظام الاساسي للحكم سلطة خارج سلطة الملك المطلقة. يقال والعهدة على الراوي ان الملك عبد الله ينوي السماح بانتخاب نصف أعضاء مجلس الشورى البالغ 60 عضواً، في خطوة مرحلية نحو انتخاب كامل أعضاء المجلس.
الملف الثالث هو الملف الاجتماعي. الذين يزورون الديوان الملكي يجدون أصحاب الحاجات يقفون بالصف حاملين أوراق طلباتهم الاجتماعية لتقديمها الى الملك.
صحيح أن هذه عادة سعودية قديمة لكن حاجة الناس لم تنقص. وهذا دليل على وجود ثغرة جدية في مجتمع نفطي مثل السعودية.
من المعروف عن الملك عبد الله حسّه الاجتماعي وهو المسؤول الوحيد الكبير الذي زار أحياء الفقراء في المدن السعودية واطلع على أحوالهم شخصياً مقبّلاً الصغار منهم. لذلك ينتظر أن توضع خطط دائمة لا ظرفية لمعالجة حالات الفقر المنتشرة في ضواحي المدن. هذا إذا لم تكن قد وضعت بالفعل منذ زيارته كولي للعهد لمناطق الفقراء.
هذا في الداخل. ماذا عن السياسة الخارجية؟ التدرج الذي اعتمده الملك عبد الله في الداخل غير معتمد في السياسة الخارجية. فقد طرح موضوع التأثير الايراني في المناطق الشيعية في العراق بطريقة أوحى فيها بأنه مستعد للذهاب بعيداً للحؤول دون استمرار هذا الوضع. فللسعودية 900 كيلومتر من الحدود مع العراق، مع ما يعني ذلك من إمدادات بشرية وعسكرية الى شيعة المنطقة الشرقية من السعودية، وهو ما قد حصل فعلاً.
حين رأى التقارير الأمنية ترده عن عمليات التهريب المستمرة من الحدود مع العراق طلب من وزير خارجيته الامير سعود الفيصل الذي كان موجوداً في نيويورك شن حملة في الاوساط الاميركية عنوانها ان القوات الاميركية في العراق تنفذ المشروع الايراني، وأنه لا بد من إعادة النظر في السياسة الاميركية العراقية. تحرك الرئيس المصري ليدعم وجهة نظر السعودية. قام الأمين العام لجامعة الدول العربية بزيارة بغداد وعقد مؤتمراً للأطراف العراقية في القاهرة.
جاء مسؤول السياسة الخارجية في مكتب المرشد الايراني آية الله خامنئي الى جدة واجتمع بالملك عبد الله.
لحق به رئيس الوزراء العراقي… الجعفري حيث اجتمع الى الملك وولي العهد.
مسؤول سعودي ذكر أنهم مستمرون في جهدهم لأنهم لم يطمئنوا الى تطورات الوضع العراقي رغم الشكليات التي حدثت، ومنها زيارات كبار المسؤولين العراقيين والايرانيين الى السعودية. وهم ما زالوا على رأيهم بأن نظاماً معادياً يقوم على حدودهم، وأن على واشنطن أن تنتبه الى أن هذا يهدد 25بالمئة من احتياطي النفط في العالم.
الادارة الاميركية بدأت تظهر تفهماً جدياً للمخاوف السعودية. إذ ان الملك عبد الله استطاع خلال فترة وجيزة إزالة الغيمة التي غطت العلاقات السعودية الاميركية بعد عملية نيويورك وظهور حملة شعواء على السياسة السعودية وعلى المتبرعين السعوديين “للارهابيين” على حد التعبير الاميركي. إلا أن العمليات الأخيرة للأمن السعودي على هؤلاء “الارهابيين” طمأنت الاميركيين الى جدية الادارة السعودية في محاربة الارهاب.
يقول هيوم هوران وهو سفير أميركي سابق في السعودية إن السعوديين لم يكونوا كلهم مخطئين في تهنئة أنفسهم. فقد ثبت أن نظامهم السياسي بقي على استقراره في وجه كل التحديات. في الوقت الذي تهاوت فيه كل الاحزاب في الدول العربية الاخرى بقي حزب الامراء الذين يبلغ عددهم عشرة آلاف متماسكاً وموالياً لايديولوجيته.
من أين يبدأ الملك عبد الله بكتابة تاريخه الملكي؟ من الاعتدال، التدرج الديموقراطي، محاربة الفساد، الاهتمام المنظم بالفقراء، من الاستقامة “الحادة” في السياسة الخارجية.
الاصلاح عنوان رئيسي في جدول أعمال التاريخ الملكي الملك الجديد. أين رجال الاصلاح؟ الجواب عند الخادم الجديد للحرمين الشريفين.