مملكة تفقد صبرها.. ( 3\2 )

مقالات 07 أبريل 2008 0

الرياض…
تعطي زيارات المسؤولين الأميركيين المتكررة على اختلاف مستوياتهم الى السعودية الانطباع بأن العلاقات الاميركية السعودية تعيش أيامها الذهبية. فالحفاوة التي استقبل فيها العاهل السعودي الرئيس جورج بوش في جدة منذ أشهر محاطا بأشقائه والمسؤولين في المملكة، استثنائية. ظهر الملك عبد الله في صورة رقصة العرضة السعودية التقليدية حاملا السيف بينما يعلّم أمير الرياض سلمان بن عبد العزيز الرئيس الاميركي على خطوات العرضة والسيوف تدور في أيديهما.
سبق تلك الزيارة ولحقها عدد من الزيارات لمسؤولين أميركيين الى السعودية لو جرى حصرها لأكدت انطباع الفرح الذي ساد احتفالات استقبال الرئيس الأميركي.
وزير الدفاع الأميركي الجديد زار السعودية ثلاث مرات في السنتين الأخيرتين. وزيرة الخارجية الأميركية تفوّقت على زميلها بعدد زياراتها الى المملكة. نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني الذي يحسب لزياراته حساب حصل على وسام سعودي رفيع في زيارته الأخيرة الشهر الماضي الى المملكة، سبقتها زيارتان تشاوريتان في مواعيد متقاربة. آخر الزوار منذ أيام وزير الأمن الأميركي الذي أقام الملك عبد الله على شرفه مأدبة عشاء في قصره في الرياض.
بالتأكيد هناك زيارات على غير هذا المستوى الرفيع من المسؤولين لا تعطى لها صدارة الاعلام ولا يعلم بها إلا من يستقبلهم من المسؤولين السعوديين.
لا تشعر وأنت في الرياض وفي محادثاتك مع مسؤولين سعوديين وحتى مع بعض المواطنين ان الزيارات الأميركية حققت ما ظهر منها في الصور من تحسّن عميق في العلاقات بين البلدين. بل تسمع همساً بالتحفظ على المبالغة في الاستعراضات الملكية حفاوة بالضيف الأميركي. يزداد التحفظ حين يصل الحوار الى توقيت منح نائب الرئيس الأميركي وساماً رفيعاً. فتصريحات المسؤول الأميركي الثاني حول قضايا المنطقة لا تشجع أبداً على ان يحمل معه وساماً ملكياً سعودياً وهو يغادر مكتبه بعد أشهر من الآن.
ما الذي نقل الملك عبد الله بن عبد العزيز من ساع الى قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة بعد ان شاهد الفلسطيني محمد درّة طفلاً يحميه والده من الرصاص الإسرائيلي وهو لا يعلم انه شهيد، حسب رواية الأمير بندر بن سلطان السفير السعودي آنذاك في واشنطن الى متفهم للسياسة الأميركية في المنطقة. ما الذي تغيّر في السياسة الأميركية لتظهر صورة السيوف والأوسمة بدلاً من صورة الطفل الفلسطيني الشهيد؟
يؤكد المسؤولون السعوديون ان ما يظهر في الشكل من العلاقات بين واشنطن والرياض لا يعبّر تماماً عن مضمون العلاقات. فالحرص على العلاقات الثنائية ولو الاحتفالية لا يعني ان العاهل السعودي قد تراجع عن أفكاره التي عمل عليها لسنوات طويلة. وان ثلاث سنوات من المُلك لا تغيّر عشرات من السنوات قبلها وفق قناعات سياسية مخالفة للإدارة الأميركية في المنطقة.
يقول صاحب الحق بالكلام في السعودية:
لا زال العاهل السعودي على قناعاته والخلافات في وجهات النظر بينه وبين الإدارة الأميركية اعمق بكثير مما تظهر. أولها في العراق حيث وصف الملك عبد الله القوات الأميركية الموجودة فيها بالقوات المحتلة في قمة الرياض منذ سنة. ولم تستطع الضغوط الأميركية ان تغير موقف السعودية من الحكومة العراقية التي اتهمها العاهل السعودي أمام المسؤولين الأميركيين بأنها تعمل للفتنة المذهبية. ولم تستقبل المملكة رئيسها نوري المالكي رغم التمنيات الأميركية. كذلك في الشأن الباكستاني، نحن نعتقد ان السياسة الأميركية في باكستان توصل الى مزيد من الفوضى تحت شعارات الديموقراطية التي كادت تطيح بحليف أساسي. أما في الموضوع الفلسطيني فهناك شواهد لا تنتهي على اننا لم نقبل باستمرار السياسة الأميركية التي تتحسّس من اعتبار الموضوع الفلسطيني أولوية للاستقرار في المنطقة. استعملنا كل وسائل الضغط والاقناع والمبادرات في محاولة للوصول الى قواسم مشتركة مع الأميركيين حول هذا الموضوع. صحيح اننا لا نستعمل الشعارات الرنّانة لأن ثقافتنا لا تقوم على هذا المفهوم السياسي، لكننا نعمل بثبات واصرار على التقدم في عنوان السلام في المنطقة. نحن في المملكة نعمل على خطين متوازيين الأول تأمين الدعم الدولي للمبادرة العربية للسلام وعلى تأمين أكبر قدر ممكن من المواقف العربية الداعمة لعناوين مشتركة بيننا وأهمها في فلسطين.
ويضيف صاحب حق القول السعودي:
الخط الثاني هو اقناع الإيرانيين بأن انتشارهم العربي عبر قوى سياسية غير رسمية ليس في صالح العلاقات العربية الإيرانية ولا في صالح السياسة الإيرانية نفسها. لا يمكن اعتبار حوارنا المستمر مع الإيرانيين ودعوة الرئيس الإيراني الى السعودية ودعوته الأهم الى قمة مجلس التعاون الخليجي في قطر، نقطة تفاهم مع السياسة الأميركية بل بالعكس. لكننا لا نعطي لقراراتنا شكل المواجهة مع السياسة الأميركية بل نتصرف وفق مصلحتنا وقناعاتنا العربية دون شعارات. لكن الإيرانيين وحلفاءهم في المنطقة لا يرون من هذه السياسة إلا بأنها واجب علينا وليس قناعة منا. لذلك يستمرون في اطلاق الشعارات في السماء العربية ونستمر نحن في جهدنا لتحقيق ما نراه مناسباً لسياستنا وأمتنا العربية .
***
يقارن روبرت جوردن السفير الأميركي السابق في السعودية في عهد الإدارة الحالية، بين العاهل السعودي وتوني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق ليقول ان الملك عبد الله لن يقبل أبداً لنفسه ولا لبلاده ان يذكر في التاريخ ان العلاقات بين البلدين أميركا والسعودية وصلت الى حد الالتحاق السعودي بالسياسة الأميركية. لذلك فهو حريص دائماً على مسافة لقراراته السياسية بعيداً عن الأميركيين.
لا يستسيغ المسؤولون السعوديون هذه المقارنة. لكنهم يجيبون بالتأكيد ان هناك مشروعاً أميركياً للمنطقة. لكن لا أحد من أصحاب الطرح المعادي لهذا المشروع يحدد بوضوح ما هو هذا المشروع غير اتهامه بالرغبة في الهيمنة على المنطقة. ليس في هذا جديد بل هي سياسة تاريخية. كلما انقسم العرب تتقدم الى الأمام.
ويضيف القول السعودي:
نحن في السعودية لا ندّعي الخصومة مع الإدارة الأميركية. بل نعتبر التعاون قاعدة للعلاقة بين البلدين ونأخذ مسافة عن السياسة الأميركية تتراوح مساحتها حسب الموضوع المختلف عليه. لقد وصلنا الى هنا في العلاقات مع واشنطن من مكان بعيد جداً. فبعد أحداث الحادي عشر من أيلول في نيويورك اتهم المسلمون قاطبة بالإرهاب وشملت الاجراءات الأميركية الأمنية السعوديين كلهم دون استثناء. ولم ينجُ أحد من العرب من هذه الاجراءات. استطاع الملك عبد الله بسياسته ان يحصر الإرهاب بالإرهابيين وان يؤكد على رغبة العرب بالسلام دون ان نتخلى عن حقوقنا الاستراتيجية او مواقفنا القومية العربية والاسلامية. لا نحتاج الى مشروع أميركي ليقنعنا ان الانتشار الإيراني في العالم العربي خطر على أمننا القومي والملك عبد الله قال ذلك للإيرانيين مواجهة بمنطق الحرص على العلاقة العربية الإيرانية. ولا نحتاج الى مشروع سياسي إيراني لنعرف ان السياسة الأميركية لا تحقق ما نريده في العراق وفي فلسطين وفي غيرهما من الدول العربية.
ويختمون بالقول:
سياستنا هي العمل على إنعاش وتثبيت قواسم عربية مشتركة على العناوين الاستراتيجية، وتحقيق أكبر قدر ممكن من التفهم الدولي لمواقفنا. من هنا اصرارنا على المبادرة العربية للسلام، لا أعرف ما إذا كان باستطاعتنا اقناع سوريا بالتعاون معنا في العراق ولبنان فالتوجه السوري مهما قيل عن عروبته في قمة دمشق، يعمل على مشروع مخالف للتوجه العربي العام .
***
يتحدث المسؤول السعودي عن سياسة بلاده بهدوء لا يوحي بالأزمات التي حولها. لا في فلسطين حيث الانقسام السياسي أعمق من الانقسام الجغرافي. ولا في الموقف الإسرائيلي الذي يتجاهل المبادرة العربية للسلام. ثم كيف يمكن انعاش القواسم المشتركة ونصف دول مجلس التعاون الخليجي تشارك في قمة دمشق بقادتها والباقي بالصف الثاني. ومصر الحليفة الرئيسية تشهد اضراباً عاماً للمرة الأولى منذ عشرات السنوات احتجاجاً على قرارات اقتصادية رفعت الدعم عن العيش المصري أي الرغيف وتسببت هذه القرارات باشتباكات بين المواطنين للحصول على الرغيف المدعوم، وبوقوع قتلى بالسكاكين. سمعت من دبلوماسي مصري يعمل في احدى دول الخليج انه كان يتوقع ان يقرأ في الصحف صبيحة انتهاء أعمال قمة دمشق ان السعودية قدمت الى مصر مساعدة بعشرة مليارات دولار من احتياطها المتزايد من ارتفاع اسعار النفط فإذا به لا يجد شيئاً من هذا. وكذلك الأردن الذي يتخبط وضعه الاقتصادي بسبب رفع الدعم عن المحروقات وتراكم الدين الخارجي. والذي خفّض تمثيله في القمة من مستوى وزير خارجية الى سفير، بصرف النظر ما إذا كان هذا القرار جاء نتيجة ضغوط أميركية أم ملاقاة للسعودية في موقفها.
لا جواب من المسؤول السعودي على مسألة المساعدات بل استمرار في الحديث السياسي:
لكل دولة في مجلس التعاون خصوصيتها التي فرضت عليها حضور قمة دمشق. واحدة مدينة لسوريا بالمشاركة رمزياً بتحريرها من الاحتلال. وثانية تريد لنفسها ان تبقى نقطة لقاء كل السياسات على اختلافها. وثالثة تعداد الوافدين فيها يفوق مواطنيها عشر مرات، بينهم تعداد الإيرانيين وهو يقارب عدد المواطنين. والتبادل الاقتصادي بينها وبين إيران يبلغ أرقاماً فلكية.
نحن مهمتنا الاستيعاب والتفهم. انتهت القمة الآن. ماذا كانت النتيجة حتى بالنسبة لهذه الدول. شدد المجتمعون على أهمية العلاقات بين العرب وإيران وضرورة الحوار بين إيران والدول العربية. طالب بعض العرب بوضع أسس للحوار. حرص الجميع على تجنب عبارة الاحتلال الإيراني للجزر الاماراتية وجاء في البيان الختامي الدعوة الى دعم الاتصالات الجارية والاجراءات القانونية والوسائل السلمية لاستعادة الجزر. فإذ بوزير الخارجية الإيراني الحاضر في القمة يؤكد بعد اختتامها إيرانية الجزر ويدعو العرب الى الاهتمام بتحرير فلسطين. وقف رئيس عربي وعده الإيرانيون بتجنب اثارة قضية لبنانية حساسة متهم بها. وقف يتحدث عن الانساب الإيرانية لحكّام الخليج. هل حقق حضورهم ما أرادوه من نتائج؟ رغم ذلك هذه خصوصية نفهمها فواجبنا استيعابها. في القمة الخليجية الأخيرة طرح موضوع صندوق خليجي لتمويل المحكمة الدولية المختصة باغتيال الرئيس الحريري. تحفظت بعض الدول فبادرنا نحن والكويت والامارات الى دفع حصتنا من التمويل دون ان يشكل هذا الأمر حساسية لدينا.
القواسم المشتركة تعني الجميع ومنهم سوريا اذا أرادت. فنحن نعرف المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها إيران بسبب العزل الدولي ونعرف قدرة الانتشار على الاستمرار في ظل هذا التدهور الاقتصادي. لذلك أيضاً فتحنا باب الحوار مع القيادة الإيرانية لايجاد قواسم مشتركة لكننا لم نلق جواباً حتى الآن.
لم يحن وقت تعاملنا مع الوضع العراقي، رغم انه واجب علينا. لا مخاطبة الشيعة الآن ستجعلهم ينتبهون الى أهمية عروبتهم لهم قبل غيرهم، ولا السنّة حاضرون لفهم ضرورة وحتمية الحوار والتعاون والمصير المشترك مع الشيعة من شعبهم. ولا لدى الأميركيين صورة سياسية واضحة لحركتهم. كل ما يعملون عليه الآن، هو الأمن وهذا ليس دورنا.
إنما في فلسطين فنحن لا نعتقد ان سياسة الصواريخ العشوائية تغيّر في الموقف الإسرائيلي او تحث الدول الكبرى على التدخل. كل ما تفعله هذه الصواريخ هو المزيد من الانقسام الفلسطيني والأكثر من التفهم الدولي للموقف الإسرائيلي، بينما يتنافس المرشحون الأميركيون على دعم إسرائيل في وجه الصواريخ.
مبادرة السلام هي واحدة من القواسم المشتركة التي نؤكد عليها. ولا نعتقد انها استنفدت امكانية تقدمها. سنستمر في هذه السياسة ونواتها الصلبة بين الدول العربية موجودة وستتسع مع الوقت. وهناك في المجتمع الدولي من يدعم هذه السياسة ويدعو الى الاستمرار فيها. أما إسرائيل فنحن لم نتوقع منها غير ما فعلت فهي في موقع العدو الذي ندعوه الى السلام بشروط المبادرة وليست في أي موقع آخر.
لن تكون تركيا بعيدة عن هذه القواسم المشتركة رغم مشاكل قيادتها الداخلية. فهي معنية أولاً بالمسألة الكردية في شمال العراق وقد حصلت مؤخراً على موافقة أميركية بالتدخل المباشر عسكرياً عند الضرورة. وهي أصبحت على تماس مباشر مع إيران بعد ان كان العراق يفصل بينهما. وهي مهتمة بطبيعة الحال بالاستقرار في المنطقة. قد يساعد الدور التركي المتصل مع إسرائيل والصديق لسوريا في تفهّم القيادة السورية في الوقت المناسب لأهمية هذا التوجه السياسي في المنطقة والذي لا يخالف سوريا في حقها في تحرير أرضها المحتلة. إنما ليس عن طريق تحقيق انقسامات في لبنان وتوظيفها في خدمة السياسة السورية. نحن لا نقبل بحرب أميركية على إيران ولا بحرب إسرائيلية على سوريا. ولا نراهن على مرض غيرنا لنحقق صحتنا. إنما نخطط ونتصرف على قاعدة المسؤولية الواقعية لا الشعارات الرنانة .
***
حتى الآن يبدو سياق الكلام السعودي حقيقياً لكنه ليس واقعياً. متماسكا إنما ليس أكيداً. شجاعا إنما ليس مقداماً. فالعلنية السعودية جديدة على التجربة، وآلياتها أي الإدارة المعنية بتنفيذ هذه السياسة لا تملك خبرة قديمة في هذا المجال. فالشرط الأول لهذه السياسة ليس وطنية او عروبة من يسعى الى تنفيذها. بل القدرة السياسية والإدارة المتابعة والتبني الداخلي لهذه القواسم المشتركة المطلوب تحقيقها في الداخل السعودي قبل الداخل العربي والخارج الدولي. هل هذا متوفر للسياسة السعودية الجديدة؟
للحديث صلة…