مملكة تفقد صبرها … ( 3\1 )

مقالات 01 أبريل 2008 0

الرياض…..
كتبت منذ اسابيع متوقعا قيام تجمّع من الدول العربية المعنية تقليديا بالشرعية العربية على رأسه السعودية ومصر، الأولى قوة اقتصادية ودينية والثانية الأكثر عراقةً وعدداً. الهدف من هذا التجمّع مواجهة صريحة سياسياً مع القيادة السورية حول دورها كمدخل للانتشار الايراني في مناطق الازمات العربية الثلاث، أي لبنان وفلسطين والعراق.
جاءني من المتابعين، حينها من يقول لي أنني استعجلت في الاستنتاج وان السياسة السعودية لم تتخلّ بعد عن نهجها التقليدي القائل بالصبر دون حركة بانتظار تغيّر الأحوال. اما بفعل الزمن او بعناصر خارجية لا تكون السعودية شريكة فيها.
حين ذهبت الى الرياض في الاسبوع الماضي في مهمة مهنية وضع ولي العهد الامير سلطان بن عبد العزيز جزأها الاول والاهم في ثلاّجة الانتظار الملكي، شعرت بمجرّد وصولي الى العاصمة السعودية أنني تأخرّت كثيرا في الكتابة عن التجمّع السياسي العربي الذي يعتبر رمزا لمدى التغيير الحاصل في السياسة السعودية.
للمرة الاولى شعرت بأن العاصمة السعودية مواطنين وحكّاما لا همّ لهم الا الحديث الدائم في سياسة المنطقة وتطوّراتها، على عكس الشائع عن أحوالهم بأن كل البضائع تدخل الى السعودية دون جمارك ما عدا الكلام في السياسة فجماركه مرتفعة بحسب طبيعة النظام.
الكلام السياسي في السعودية محدّد الهدف والاتجاه ومنطلق دون توقف ولا حتى محطات انتظار. اذ ان الاحتلال الاميركي للعراق بما سبّبه من تغييرات سياسية واضطرابات مذهبية، جعل من الادارة السياسية السعودية تستنفر مرة لرصد ما يجري في دولة جارة بينها وبين السعودية تسعمائة كيلومتر من الحدود. ومرات للتصدي لانتشار الأزمات سواءً في فلسطين او في لبنان.
صحيح ان العنوان المنتشر هذه الايام في حلقات النقاش السياسي هو أزمة الانتخابات الرئاسية في لبنان. لكن الازمة اللبنانية عنوان لأزمة كبرى ورئيسية في المنطقة العربية، تعبّر فيها السعودية عن دول الخليج العربي المنتجة للنفط وتتحدث مصر عن باقي الدول المعنية بالأزمة الرئيسية.
العنوان الرئيسي لهذه الازمة هو اعتبار الانتشار الايراني السياسي والمذهبي خطراً يهدّد الأمن القومي للكثير من الدول العربية. بينما لا تفعل ايران شيئا بالمعنى الاستراتيجي السياسي للتخفيف من هذا الانطباع.
لا يعود تاريخ هذا التطور الى السنوات الأخيرة من الاحتلال الاميركي للعراق وافغانستان تحت شعار تحريرهما من الحكم الظالم فتصبح ايران مرتاحة الى نظامين جارين لها واحد متحالف معها مثل العراق بأجهزته السياسية والامنية والثاني أي أفغانستان محايدة ان لم تكن مقبلة على التعاون في أسوأ الاحوال. فتصبح الحركة الايرانية متحررة في كل الاتجاهات التي ترى فيها هدفاً استراتيجياً لسياستها سواء في بلاد الشام او في دول الخليج العربي.
بل يعود التاريخ الى قرار الرئيس الراحل صدّام حسين بغزو الكويت يشجّعه على ذلك سوء حساباته السياسية وقدرة الآخرين على دفع رعونته الى الحد الأقصى من قدرتها. فانفتح الباب واسعا امام الانتشار الايراني سياسيا والى الحضور الاميركي عسكريا، فجعل من دول الخليج تختار بين خطرين، الحماية العسكرية الاميركية من جهة والمشروع السياسي الايراني من جهة أخرى.
يذكر السعوديون في هذا المجال رد وزير الخارجية الايراني في ذلك الحين علي أكبر ولايتي على الامير بندر بن سلطان الذي طالبه بالاعتراض على الغزو العراقي للكويت بالقول ربما توقف عن الاجتياح لو عارضناه بينما نحن نريد من صدّام ان يتورّط أكثر .
بالفعل تورّط الرئيس العراقي الراحل أكثر. كما فعل قبل ذلك في الحرب العراقية الايرانية حين سمح لجيشه باحتلال أراض ايرانية، فالتفّ الايرانيون حول قيادتهم دفعاً لخطر المحتلّ. وصار على السعودية ودول الخليج الوقوف الى جانب العراق حين انتقل من موقع الهجوم الى موقع الدفاع عن أرض العراق بعد العام 82 .
****
كل هذه الملفات وغيرها وضعت على طاولة الملك عبدالله بن عبد العزيز حين تولّى المُلك منذ أربع سنوات. أكمل ما كان بدأه قبلاً من عمل على تحسين الصورة السعودية في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة الاميركية. فبعد أحداث أيلول في نيويورك التي قام بها تسعة عشر شابا من أهل السنّة بينهم خمسة عشر سعودياً، صارت صورة الارهاب تقترب من كلّ من يحمل جواز السفر السعودي. فكانت المبادرة العربية للسلام التي أطلقها بصفته ولياً للعهد في قمة بيروت في العام 2002 وأظهر دوراً سعودياً سلمياً في النزاع العربي الاسرائيلي التزمت به كل الدول العربية. ثم أكّد على مبادرته في قمة الرياض في العام 2007 بعد أن أصبح ملكاً.
لا شك ان هذه المبادرة حققت في مرحلتها الاولى تحسنا كبيرا على الصورة السعودية الخارجية. لكن العاهل السعودي يعرف ان هذه خطوة مؤقتة لا تلزم أحدا من العرب المختلفين مع الادارة الاميركية ما لم يتم التقدم الفعلي في المفاوضات الفلسطينية الفلسطينية من جهة وما يتبعها من مفاوضات مع الجانب الاسرائيلي.
جمع العاهل السعودي قادة السلطة الفلسطينية مع قادة حماس في حرم مكّة المكرّمة وجعلهم يقسمون بالله العلي العظيم على ما اتفقوا عليه فكان اتفاق مكّة.
ما هي الاّ أشهر حتى ذهب الاتفاق ادراج الرياح وانقسمت الاراضي الفلسطينية بين غزة لحماس والضفة الغربية للسلطة بعد انقسام القيادة.
لم يأبه العاهل السعودي للانزعاج الاميركي من الاصرار العربي على ان الاولوية المطلقة في المنطقة العربية هي لحل القضية الفلسطينية. ودافع بكل الوسائل عن وجهة نظره بأن حل هذه المشكلة يساعد في التخفيف من وهج المشاكل الاخرى مهما كانت تعقيداتها. فالصراع الفلسطيني الاسرائيلي هو العنوان السياسي الأهم لقوة الانتشار الايراني في العالمين العربي والاسلامي. والتقدم في حلحلته يساعد في دعم انتشار منطق غير الصراع المسلّح مع اسرائيل.
لا يمكن القول ان هذا الجهد قد حقّق نتيجة فعلية، لكن زيارة الرئيس الاميركي الى المنطقة وزيارة نائبه وزيارات وزيرة خارجيته في فترة أشهر ثلاث تعطي الانطباع ان هناك جهداً أميركياً حقيقيا يبذل لايجاد اتفاقية ولو شكلية تنتج عن مفاوضات مرتبكة.
على الجانب الايراني حرص العاهل السعودي على اعتماد الصراحة في مخاطبته للرئيس احمدي نجاد والمسؤولين الايرانيين الذين يستقبلهم. قال للرئيس الايراني ان على بلاده التوقف عن التدخل في الشؤون العربية. طلب الرئيس نجاد تغيير الاعضاء في اللجنة الايرانية السعودية المشتركة فيكون الامير سعود الفيصل بدلا من الامير بندر بن سلطان ومنوشهر متكي بدلا من علي لاريجاني الذي كان يرتاح اليه العاهل السعودي. فكان للرئيس نجاد ما أراد. اقترحت القيادة السعودية علي أكبر ولايتي مستشار المرجع الأعلى السيد علي خامنئي بدلا من متّكي، لصلة الاول المباشرة بصاحب القرار في طهران. لم تجب طهران حتى الآن.
ذهب الامير مقرن بن عبد العزيز رئيس المخابرات السعودية الى مقر الرئيس الايراني اثناء قيامه بفريضة الحج، مكلّفا من الملك بالبحث مع الرئيس نجاد في التشاور الدائم لتخفيف التوتر في مناطق الازمات ومنها لبنان وفلسطين طبعاً. وعد الرئيس الايراني بالرد ايجابيا بعد عودته الى طهران ولم يحدث ذلك، أو هكذا يقول السعوديون.
تباحث الوزيران الفيصل ومتكي في آخر لقاء بينهما بضرورة التشاور وحلحلة الازمات. وعد الوزير متكي خيراً. لكن شيئا من ذلك لم يحدث، على ما يقول السعوديون.
لم يفاجئ غياب الايرانيين عن السمع العاهل السعودي. فهو سبق ان أبلغ الرئيس نجاد انه لن يسمح للاميركيين ان يستعملوا الاراضي السعودية في اي هجوم محتمل على ايران وانه يسعى في كل لقاء مع مسؤول اميركي ومنهم الرئيس بوش ونائبه تشيني على اعتماد الحوار ووسائل الحل السلمي للعلاقات الاميركية الايرانية.
فجاء الجواب تهديدا من قائد في الحرس الثوري بضرب منابع النفط العربية اذا أقدم الجيش الاميركي على ضرب ايران.
أثمرت الاتصالات نفيا لوكالة الانباء الايرانية لهذا التصريح، لكن آثاره كانت قد تحققت.
هل هذا يعني نهاية الحوار؟
يقطع المسؤولون السعوديون بالنفي. ويقولون انهم لن يتركوا جهداً الا ويبذلونه في حوار مع المسؤولين الايرانيين لطمأنتهم الى بيئة صديقة لهم في دول الخليج شرط أن يتوقّف الانتشار الايراني عن دعم العداء للسعودية ودول عربية اخرى تحت شعار استغلال المدّ العاطفي العربي المؤيد للقضية الفلسطينية.
****
لبنان هو الموقع الابرز لهذا الصراع. فعلى الرغم من قول السعودية تكراراً ومراراً بأن المملكة تقف على مسافة واحدة من القوى السياسية اللبنانية المتصارعة. فان القيادة السعودية لا تخفي دعمها لحكومة الرئيس السنيورة ولقوى الرابع عشر من آذار وخاصة لسعد الحريري ووليد جنبلاط. باعتبار ان هذه القوى تعمل بشعارات لبنانية على اهدافها وتبحث عن التحالفات اينما اتيح لها.
هذا لا يعني تشجيع النزاع، بل بالعكس يرى السعوديون أنهم في سعيهم الى تسوية بين الأطراف المتنازعة، واجهوا في مبادرتهم الاولى الادارة الاميركية والرئيس الفرنسي، ثم انضمّوا الى كل المساعي الدولية التي لم تحقّق نتيجة حتى الآن. وجدت في آخر الامر ان أحزاباً في المعارضة تتناول المملكة وقيادتها بما لا يليق في العمل السياسي رداً على اعتقاد بانها تغلّب منطقاً سياسياً للأكثرية على الأقلية. وهذا غير دقيق. فالعمل السعودي في اتجاه تسوية لم ينقطع وهو لا يتساوق مع الاتهامات التي توجهّها لها المعارضة، بحسب رأي السعوديين.
الحوار حول لبنان ينقل الحديث الى دمشق. فتشتعل الذكريات. يمكن لأي زائر الى الرياض ان يلاحظ حرقة القلب السعودية في الحديث عن العلاقات مع سوريا. فقد مضى على حسن العلاقات بين البلدين 35 سنة، ثلاثون منها في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد وخمس مع الرئيس بشّار الأسد. لذلك لا يمكن الاستماع في سياق منظّم الى رواية الخلاف. فالعاطفة تتدخّل بين حين وآخر وتجعلك ترى الرغبة في الماضي أكثر من روايات الحاضر.
لا أحد يستطيع ان ينتزع من ذاكرة العاهل السعودي أن عائلة الرئيس الراحل حافظ الأسد، هي عائلة صديقه اللدود ورفيق دربه لسنوات طوال. لذلك فهو لا يسهّل على نفسه صعوبة ما يراه من تطوّرات سلبية في العلاقات.
الصورة الأخيرة جاءته بعد الزيارة التي لم تعد سرية وقام بها الامير سعود الفيصل منذ أكثر من شهر الى دمشق ولقائه الرئيس بشار الأسد.
عرض الامير الفيصل على الرئيس السوري بعد حديث طويل تخلّلته الإشارة الى الاغتيالات السياسية في لبنان، فتح صفحة بيضاء في العلاقات بين البلدين، تكون الاسطر الاولى فيها الانتخابات الرئاسية اللبنانية. استمع الرئيس الاسد الى الوزير السعودي ووعده بالاجابة مع زميله السوري وليد المعلّم.
بعد ايام أرسل الوزير المعلّم رسالة الى الرياض يكرّر فيها عرض العشرات الثلاث لتشكيل الحكومة على ان تسمّي المعارضة ثلاثة من وزراء رئيس الجمهورية وان تكون لهم وزارة الداخلية. لم يكترث العاهل السعودي لمضمون الورقة السورية لانه اعتبر ما جاء فيها شأنا تفصيليا، لكنه اعتبرها رفضاً لعرض الصفحة البيضاء في العلاقات بين البلدين. وحدث ما حدث من استمرار للأزمة وصولاً الى تمثيل المملكة بسفيرها في الجامعة العربية في قمة دمشق.
تغيّرت المفردات السعودية تجاه سوريا. صار الحديث عن الشعب السوري هو النص. ورفض العزل الذي جاء على لسان الوزير الفيصل هو لسوريا وليس للقيادة السورية حتى اشعار آخر.
أكثر من ذلك، استند الوزير الفيصل الى تقرير لجنة التحقيق الدولية بشأن الاغتيالات في لبنان التي نفذها الفريق نفسه كما ورد في التقرير. وأوضح بشكل قاطع ان محاولات تعطيل الحلول في لبنان، وضرب بقرارات الجامعة العربية عرض الحائط، هي ذاتها المحاولات التي تسعى وبشكل واضح وملموس الى تعميق الشرخ الفلسطيني وتعطيل الحلول السياسية في العراق والعبث في القضايا العربية بشكل عام .
سعوديون في موقع المسؤولية يرون ان الوضع في سوريا اختلف كلياً بعد رحيل الرئيس حافظ الأسد وتولّي الدكتور بشّار الرئاسة. الأول استطاع ان يجمع بين تأييد ايران كبديل للغياب المصري عن معادلة الصراع العربي الاسرائيلي، وبين الوقوف في موقعه في العالم العربي والى جانب دوله. وحين جاء العالم بقياداته وزعمائه الى جنازة الرئيس الأسد، أوحوا أنهم يتبنون سياسته التي يريدون من نجله متابعتها. لكن ذلك لم يحدث، في رأيهم… فللرئيس الوريث حسابات مختلفة. حقق خسارة في الرصيد السوري التقليدي العربي والدولي خلال 3 سنوات. وعاقب العرب الذين شجعوه على الانسحاب من لبنان بالمزيد من التحالف مع ايران والالتصاق العسكري ب حزب الله . على ما يقولون.
لا شك ان خطاب الرئيس الأسد وكلام وزير خارجيته في قمة دمشق والذكر المتكرر للعروبة خفف من اللهجة السعودية. لكنه لم يغيّر في المضمون. في الرياض لا يرون التسوية قريبة.
ماذا عن الدور الاميركي ؟ مجلس التعاون ؟ الداخل السعودي ؟
كلما ازدادت الاسئلة صعبت الاجابات في مملكة تفقد صبرها.
للبحث صلة…