ملك الأردن يستعجل الماضي بعد فشل التكنوقراط

مقالات 21 نوفمبر 2005 0

نزل الملك عبد الله الثاني من طائرته في القاعدة العسكرية في عمان يوم التاسع من الشهر الحالي بأسرع مما يفعله ضابط سابق في القوات الخاصة مثله.
يتطاير الشرر من عينيه. يزداد وجهه احمرارا. لم يجب أياً من مستقبليه على أي ترحيب لطيف صدر عنهم. كان يسأل وهو يمشي نحو سيارته وسط إجراءات أمنية مشددة، ماذا حدث؟ من الذين قاموا بالعملية؟ كم عدد القتلى؟ من أين أتى الانتحاريون؟ من الداخل أم من الخارج؟
لم يجد مستقبلوه من الأمنيين الوقت أو الصبر الكافي منه ليجعلوه يسمع أجوبتهم. سلموه ملخصاً عن تفجير الفنادق الثلاثة في عمان وعن عدد القتلى والمصابين والاحتمالات المبكرة لجهات التنفيذ.
بالطبع كان الاسم الاول الذي أثار جنونه هو فاضل نزّال الخلايلة الملقب بأبو مصعب الزرقاوي الذي كان مسجوناً في عمان بتهمة الشروع في القتل وأفرج عنه الملك عبد الله الثاني بمرسوم عفو عام.
الزرقاوي أعلن مسؤوليته عن العملية مهدداً بقتل الملك شخصياً عقوبة له على تحالفه مع الولايات المتحدة الاميركية وتنفيذ السياسة الاميركية في المنطقة. أراد عبد الله الثاني الذهاب فوراً الى الفنادق المتفجرة ومن ثم تفقد المصابين في الاعتداء المنتشرين في مستشفيات العاصمة الأردنية. أجرى اتصالات مع الجهات الأمنية المعنية لاتخاذ الاجراءات اللازمة للزيارة. فوجئ بممانعة شديدة ترجو “جلالته” بعدم القيام بهذه الزيارات، لأن الوضع الأمني لا يسمح بإتمامها مهما كانت الضرورات المعنوية لإظهار تضامن الملك مع شعبه المصاب. كونه ضابطاً سابقاً في الجيش عرف معنى هذا الإصرار من الجهات الأمنية وتوجه الى القصر الملكي ليستقبل لاحقاً أهالي المصابين والشهداء حيث ألقى فيهم كلمة حماسية أثّرت في الحضور وشدت من عضدهم.
بعد ذلك جلس الملك الأردني الشاب الذي مضى على تقلده العرش أقل من ست سنوات يفكر في ما يجب فعله لمواجهة التطورات السياسية التي تعصف بالمنطقة المحيطة به، والتي جاءت عملية تفجير الفنادق في عمان إحدى نتائجها. لم يفصل بين التفجير الذي أصاب وأودى بحياة المئات من الأبرياء الذين يحتفلون بأعراس أولادهم وبين التطورات التي “تغلي” في العراق. لم يبتعد كثيراً عن الخطاب التهديدي الذي ألقاه الرئيس السوري بشار الأسد قبل أيام نتيجة الحصار الذي يفرضه عليه مجلس الأمن الدولي. نظر الى الوضع الفلسطيني على حدوده الداخلية والخارجية فوجده متماسكاً شكلاً غير ممسوك فعلياً. وصل الى “الاسطورة” الاسرائيلية فوجد أنها تتحول الى حكاية عادية من حكايات أنظمة الشرق الاوسط: نزاعات سياسية لا سقف لها. تغيير استراتيجي في قيادة حزب العمل. فساد يطال النجل السياسي وموفد والده في كثير من المهمات عمير أرييل شارون. هذا يعني ان العلاقات الإسرائيلية الأردنية لم تعد تخدم فكرة حماية النظام الأردني.
تذكر العاصفة التي أحدثها وصفه للمشروع الايراني بالهلال الشيعي في حديثه الى “الواشنطن بوست” الاميركية. يقول إنه استعمل تعبير “الهلال الفارسي” لكن الصحيفة غيّرت الكلمة. المهم الآن أن المشروع يحاصره من الجهتين العراقية والسورية على حد تعبيره. التحقت به السعودية متأخرة جدا. وانتبهت مصر فجأة الى حجم من المخاطر كانت تعتقد أنها بعيدة عنها.
ما العمل؟
الرجال الجدد
لا بد من عنوان جديد للمرحلة المقبلة من حياة الأردن، ولا بد من رجال جدد يحققون هذا العنوان. صحيح أن الاردنيين يأخذون على الملك الشاب تعجله في تغيير الحكومات، بحيث لا يستوي رئيس الوزراء الاردني على مقعده إلا ويكون صدر القرار بتشكيل حكومة جديدة يترأسها رئيس جديد. غيّر الملك عبد الله الثاني خمس حكومات خلال أقل من ست سنوات. أعطى الانطباع بأن مزاجه الحاد والمتقلب هو الذي يتحكم بقرار تغيير الحكومات، وليس أن الضرورة العملية هي التي تفرض هذا التغيير.
يقول سياسي كبير سابق أردني إن الملك عبد الله الثاني جمع وزراءه ومستشاريه في الديوان الملكي وكبار الشخصيات منذ شهرين ونصف وألقى فيهم خطاباً حاداً حول أدائهم السياسي والاداري. استعمل كلمات نابية لم يسبق لأي منهم أن سمعها حتى من عاصر الملك حسين منهم.
كان واضحاً أن الملك الشاب اتخذ قراره بتغيير الجميع بحثاً عن نجاح في الوضع الداخلي، ذلك بعد أن شكل لجنة من 26 عضواً برئاسة مروان معشر نائب رئيس الوزراء لوضع تصور سياسي، اقتصادي، اجتماعي للسنوات العشر المقبلة. ليس من بين أعضائها أي عضو من مجلس النواب. فالقرار الملكي ينص على تشكيل لجنة مصغرة تتابع تنفيذ ما يرد في 2400 صفحة يوافق عليها الملك شخصياً. المجموعة الاستشارية الملكية حددت أهدافها. ستمئة ألف فرصة عمل جديدة خلال عشر سنوات. تأمين صحي معقول للشعب الاردني بحلول العام 2012. تخفيف نسبة الموظفين غير العاملين في الادارة من 14 بالمئة الى 8,6. رفع الدخل السنوي للفرد من 2100 دولار الى 3500 دولار. رفع زيادة الدخل القومي الى 2,7 سنوياً.
لا أحد يعرف بالضبط كيف سيتم تحقيق ذلك.
لذلك يجمع المراقبون على أن مزيجاً من الاقتصاد وتطوير الادارة والاهتمام بالجيش والمخابرات هو عنوان المرحلة المقبلة. فللأردن ثلاثة منافذ لتصدير بضاعة للضفة الغربية واسرائيل. كفاءات بشرية لدول الخليج. بشر وبضائع الى العراق. لكل منها حدود سياسية للتنفيذ. لم يستطع المجهود القليل المبذول من تحقيق نتيجة للاستفادة من حق التبادل التجاري المفضل مع أوروبا حيث لا جمارك متبادلة ولا الى الولايات المتحدة عبر اسرائيل بموجب اتفاقية “QIZ” .

الامن سيد الاحكام
بدأ الملك الشاب التغيير في الديوان الملكي حيث أعفى جميع مستشاريه من مناصبهم واكتفى بتعيين رئيس المخابرات الفريق سعد الخير الرئيس السابق للمخابرات رئيساً للديوان الملكي، وهو منصب كان دائماً من حصة رؤساء الوزراء السابقين أو اللاحقين. أجرى الملك هذا التغيير من ضمن دائرته الضيقة لاقتناعه متأخراً بأن من عينهم من الشباب يملكون الحماسة والعلم ولكنهم لا يملكون الخبرة الكافية لمواجهة دور تقديم نظام ملكي بأحسن صورة.
التقليد الاردني غلاب في أطباع الناس. هم يريدون أشخاصاً يثقون بهم وبمقدرتهم وربما بتاريخهم حول الملك.
بذلك يشعرون بالاطمئنان الى أن مقدرات أمورهم بين أهل الخبرة. كذلك الامر بالنسبة الى الحكومة التي ينتظر الجميع أن تصدر مراسيمها خلال هذا الاسبوع.
اليوم تنتهي المهلة لإصدار أمر بفتح دورة استثنائية للبرلمان في الأول من الشهر المقبل. إذا لم تصدر الارادة الملكية والارجح أنها لن تصدر فهذا يعني حل مجلس النواب ايضاً والتحضير لانتخابات مقبلة بموجب قانون جديد يصدر عن وزارة الداخلية.
اللجنة التي يترأسها نائب رئيس الوزراء والمكلفة باقتراح التعديلات السياسية للنظام اعتمدت بعد نقاش مكثف على نظام النسبية في الانتخابات الجديدة.
تبقى الحكومة الضائعة الآن بانتظار مصيرها.
للمرة الاولى منذ تسلم الملك عبد الله الثاني زمام الحكم لا تتسرب أي معلومات جدية حتى لكبار السياسيين الأردنيين عن أسماء أو شكل الحكومة المقبلة. هذا ما يفسره البعض على أنه اعتماد لسياسة التمهل عند الملك بدلاً من التعجل الذي اشتهر به طوال السنوات الست الماضية.
تدور العناوين في عمّان وتكثر نقاشاً وتفسيراً وتطويراً الى أن يأتي العنوان الأمني فتسود قاعدة “الأمن سيد الاحكام”. هذا في الحالات العادية فكيف بعد عملية تفجير الفنادق التي سبقتها الصواريخ على العقبة في آب الماضي؟
الرئيس الاميركي جورج بوش استقبل الملك عبد الله الثاني في آخر لقاء لهما “إن الملك يقود بلداً عظيماً في وسط منطقة متغيرة نحو الافضل. أريد أن أشكره على زعامته، تفهمه للتغيير، تحالفه القوي معنا، رؤياه لحاجة العالم الى تضامن قتالي في وجه الإرهاب”.
وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس تضيف في التاسع من الشهر الحالي »ان بلادها لا تجد حليفاً أقرب من الاردن في وجه الإرهاب”.
قد يبدو هذا الكلام مبالغاً فيه عن دور بلد مثل الاردن، الى أن تعلن “الواشنطن بوست” منذ أيام أن الولايات المتحدة ركّزت قواعد عسكرية أميركية بالقرب من الحدود الاردنية السورية لان أكبر القواعد وهي “ثميرات” في عمان بعيدة جداً لتفريغ الحمولات والعمليات والموقع القطري “العديد” ما عاد قادراً على الاستيعاب. وان هناك أكثر من 1600 شخص في أكثر من 10 مقرات لإدارة المخزون الاميركي العسكري.
نفت عمان الانباء الاميركية، وقال مروان المعشر إن العلاقة مع أميركا استراتيجية علنية ولا يوجد للاردن ما يخفيه في هذه العلاقة.
المخابرات الاردنية تتقدم على الموساد..
هذا النفي لا يطال مسألتين. الاولى اعتراف الجميع عرباً وأجانب أن المخابرات الاردنية تطورت عدة وعديداً بحيث أصبحت خلال العشر سنوات الماضية الاكثر كفاءة في الشرق الاوسط. وهناك من يبالغ الى حد القول إنها أكثر انتشاراً ومعرفة وتدقيقاً من المخابرات الاسرائيلية “الموساد”.
المسألة الثانية أن التنسيق المخابراتي الاميركي الاردني بدأ ينمو في العام 1990 حين تدفق مئات الآلاف من اللاجئين العراقيين الى الاردن، وأصبحت عمان مقراً رئيسياً للمعارضين لنظام الرئيس صدام حسين.
بعد العمليات الانتحارية في نيويورك في أيلول 2001، قررت الولايات المتحدة الاميركية المزيد من الاستثمار تقنياً ومالياً في المخابرات الاردنية. وتمركزت قاعدة مخابراتية أميركية متقدمة للمراقبة في الاردن.
هذا دون الحديث عن “الاعمال القذرة” التي تنسبها الصحف الاميركية للمخابرات الاردنية التي تقوم بها لصالح المخابرات الاميركية.
يقول وليام اركينس مؤلف كتاب “الحرب على الإرهاب” ان الاردن تحول الى “منطقة قتال” أميركية في 19 ايلول 2001. ليس لتمركز عسكري ومخابراتي فقط بل كونه مفتاح تحرك المعارضين العراقيين الموالين للغرب لإسقاط النظام العراقي. ويضيف “هذه القواعد أصبحت جزءاً من النظام السري للتسهيلات الاميركية في منطقة الخليج”.
“في العام 2003 أعطت الاردن الضوء الاخضر للطلعات الجوية الاميركية لضرب العراق من شرق المتوسط. وانتقل الحرس الوطني الاميركي من فلوريدا لدعم العمليات الخاصة على الحدود العراقية”.
كيف فشلت كل هذه التقنيات المتقدمة استخباراتياً في منع عمليات أبو مصعب الزرقاوي المتكررة؟
ينتمي “الزرقاوي” الى قبيلة بني حسن وهي من أكبر القبائل الاردنية. أمضى عدة سنوات من حياته في أفغانستان حين كان في العشرينيات من عمره. بقي لقبه “الشقي المؤذي” بين رفاقه، الى أن تعرف الى ابو محمد المقدسي، فلسطيني أصولي يتزعم تنظيمياً عسكرياً يسمى ببيت الإمام. التقيا في السجن، خرج الزرقاوي بموجب عفو ملكي وبقي المقدسي بتهمة محاولة قلب النظام لصالح دولة إسلامية، عاد الزرقاوي الى باكستان ثم أفغانستان. في 2001 عاد ليستقر في شمال العراق حيث أنشأ مخيم تدريب للاردنيين القادمين من “الزرقاء” مدينته والخارجين من السجون الاردنية. نسق مع أنصار الاسلام، التوحيد، بيت الإمام، جند الشام، التوحيد والجهاد، أخيراً القاعدة فرع العراق.
الحدود السورية نحو الاردن والعراق
ينقل كتاب “مراقبة الإرهاب” لماثيو ليفيت وجولي صوير عن أحد مساعدي الزرقاوي أنهم يستعملون الحدود السورية لتحركهم في اتجاه العراق والاردن.
للبنان حصة ايضا في حركة الزرقاوي. فالكتاب نفسه ينقل عن مسؤول أردني أن عدداً من مساعدي الزرقاوي يزورون مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان للتنسيق مع قيادة “عصبة الانصار” الموجودة هناك.
وزير الاعلام الاردني السابق صالح قلاّب لا يستغرب هذه المعلومات عن سوريا ولبنان، بل يضيف ان الرسالة التي أذيعت على أنها بصوت أبو مصعب الزرقاوي مزورة وغير صحيحة، وأن أجهزة الأمن الاردنية تبحث عن مصادر المتفجرات قبل أن تؤكد أو تنفي صحة الرسالة الصوتية.
رسالة الزرقاوي مزورة؟
يطلق القلاّب على حركة التغيير في الاردن بأنها إعادة لتنظيم الصفوف، وأن المطلوب الآن هو حكومة مواجهة الازمات قادرة على المواجهة.
يعطي مثلا على ذلك ان هناك مليون عراقي مقيم في الاردن ستون في المئة منهم دون إقامات، وعدد كبير منهم بدون جوازات ايضا.
هذا واحد من عدة تحديات تواجه الاردن هذه الايام على حد قوله. “لقد حققنا تقدما اقتصاديا ملحوظا. هذه السنة ينتظر أن يكون معدل النمو سبعة في المئة. ديوننا الخارجية نزلت الى 6 مليارات دولار، خدمتها مؤمنة. والخصخصة ستتولى إيفاء جزء كبير من أساس الدين. المواجهة السياسية لما يحدث في محيطنا هي الاساس. لا يمكن اعتبار الاعتداء الاخير للزرقاوي خللاً أمنياً. هذا اذا اعتبرنا أن الزرقاوي وراء الاعتداء”.
رئيس مجلس الوزراء السابق وعضو مجلس الاعيان طاهر المصري يؤكد على استتباب الأمن في الاردن. ويقول ان الاجهزة الامنية الاردنية ضبطت عدداً كبيراً من المحاولات السابقة قبل حدوثها. يستدل على كلامه بالقول ان اعتماد مصدر خارجي مثل هذه العملية، أي عراقيين، دليل على عدم التعاون الداخلي من جهة وعلى ان الاجهزة الامنية قادرة على عزل الداخل من التخطيط لمثل هذه العمليات. استحسن الرئيس المصري التغيير الداخلي في الاردن مركزاً على خطورة المرحلة التي تستوجب مثل هذا التغيير.
ماذا عن رسالة الزرقاوي؟
يجيب الرئيس المصري: هذه مسألة تحتاج الى خبراء في النص الاسلامي وفي الاصوات وأنا لست منهم.
ذهبت الى كبير الخبراء في النص الاسلامي، استمعنا سوياً الى شريط رسالة الزرقاوي ثلاث مرات. نص عليّ كبير الخبراء النقاط التالية:
أولاً: اللغة الدينية ليست غالبة في البيان مثل البيانات السابقة، بل هناك لغة سياسية، أقرب الى بيانات الظواهري، وليس مثل بن لادن كالبيانات السابقة.
ثانياً: يركّز البيان على الاميركيين والحكومة الاردنية. لذلك غريب إدخال “الشيعة” و”الرافضة” فيه. مع ان السياق هدفه جمع الناس في الاردن والعراق ضد الاميركيين.
ثالثاً: لم يكن في بياناته السابقة تقسيم الى نقاط عدة، بينما البيان الاخير مقسم الى نقاط عدة.
رابعاً: للمرة الاولى يركز البيان على عداوة شبه شخصية مع النظام الاردني. مع العلم انه كان حريصاً على الخطابات الشاملة، حتى بعد العمليات الموجهة ضد الاردن سابقاً مثل تفجير السفارة الاردنية في بغداد.
هل هذا يعني أن البيان مزوّر؟
المخابرات الاردنية على عادتها في التكتم لن تعلن ذلك، بل سيتركوننا نسمع أصوات الانفجارات في الدولة التي سيتهمونها سراً بالمسؤولية عن تفجير 3 فنادق في عمان ملأى بالمدنيين الفرحين بأعراس اولادهم.