مفاجــآت “أبــو اليــاس”

مقالات 04 يوليو 2008 0

تعرّفت للمرة الاولى عن قرب الى الرئيس ميشال المر في العام 1990 .كان وزيراً للاتصالات بالاصالة وللدفاع بالوكالة. ذهبت إليه على موعد في مكتبه في وزارة التلفون كما يسميها هو. سألني عن “الشيخ” رفيق واطمأن الى أحواله آنذاك. ثم غاص في الحديث السياسي والصراعات التي يواجهها في القيادة العسكرية والتي تكون نتائجها لصالحه باستمرار. حتى في وجه من كان ذكر اسمه في ذلك الحين يسبب القلق لوزراء فكيف بمواجهته وإحالته الى غرفة لا يرّن فيها الهاتف.
لم تكن “خبرته” في شؤون “التلفون” تحتاج الى كلام فهي ليست المرة الاولى التي يكون فيها وزيراً اختصاصياً في هذا المجال.
فاجأني دولته بسؤالي عن اللائحة التي احملها. لم أكن قد تكلمت معه عنها قبلاً. عندما لاحظ ترددي قال لي: هل تريدني ان اعتقد انك اتيت لتشرب قهوة معي. هات اللائحة وسلّم لي على “أبو بهاء” و”الست بهية” وسيكون لهما ما يريدان.
ما هي إلا اشهر ولو طويلة حتى كلّف الرئيس الحريري بتشكيل حكومته الاولى، فكانت من نصيب أبو الياس وزارة دولة وهو الحامل للحقائب الوزارية التي لا يقدر احد على حملها. هنا كانت المفاجأة الثانية. هو قادر على الحسابات السياسية كما المالية ويعلم ان الموجة ليست لصالحه وعليه الركون قليلاً. وضع عتبه على طاولة الرئيس الياس الهراوي وأكمل يومياته كأن شيئا لم يتغير. اضاف الى جدول مواعيده زيارة أسبوعية الى قصر قريطم الصغير الجميل. يستمع الى الرئيس الحريري اكثر مما يتكلم. أرافقه في كل مرة من داخل المنزل الى سيارته في الحديقة فلا يترك الابتسامة تنزل عن وجهه. يلاطف “أبو طارق” طيّب الله ثراه ويمضي. اثنان وعشرون شهراً على هذا الحال. لا يشكو، لا يتذمر. يصبر طويلاً ويحفر عميقاً في بيروت وفي دمشق وبين العاصمتين. فجأة ودون سابق إنذار يسمى وزيراً للداخلية اضافة الى صفة نائب الرئيس الملازمة له. ظهر وكأنه استعاد ما كان له وليس وزيراً جديداً في وزارة حساسة وأمنية.
بقي عشر سنوات في الداخلية فصرت لا تعرف ما إذا كان هناك وزير قبله او حتى بعده. لم يكن هذا لكفاءته في الأمن بل لحضوره السياسي الذي يعترف به الخصم قبل الصديق. ولعمق معرفته في الادارة والنصوص دون ان يعني ذلك عدم رغبته في تحويرها عند الضرورة.
كان يداوم في رئاسة مجلس الوزراء في غياب الرئيس الحريري. يمارس اثناء دخوله وخروجه مراسم رئيس الوزراء دون ان يدخل الى المكتب الرئاسي او يمارس أياً من صلاحيات الرئيس، لكنه لا يترك ما يعتبره عرفاً حقاً له ولا يأخذ ما يعتبره الدستور سلطة لغيره. ينشغل بال هشام بك الشعار أمين عام رئاسة مجلس الوزراء المرافق للرئيس في سفره والحامل لاخلاق الدولة في شخصه فيضحك الحريري ومن معه من الحوار حول المراسم. يحسب “البك” اكثر للخواجة حنا حامل شنطة أسرار المر وأوراق تسهيلاته الفعالة. شهدت العلاقة بين الحريري والمر الكثير من المد والجزر. لكن الاول كان دائما يستسلم امام قدرة الثاني في الوقوف سداً دفاعياً في وجه من يعترض على قناعته او على حاجته التي كانت رسالة من غيره، اكثر مما هي حاجة له في معظم الاحيان.
جاءت ازمتي مع الأمن السوري في العام 1998. لم يفاجئني هذه المرة. كانت له وقفة رجل عزّ نظيرها في ذلك الحين وفي كل الاحيان. ليس في وجه الأمن السوري فقط بل كذلك في صد من تبرع بجهوده من اللبنانيين لدرء “مخاطري” على الأمن القومي. غبت لسنوات في الخارج وعدت لزيارته في “داخليته”. فإذا به يفاجأني بورقة يخرجها من درج مكتبه كنت قد طلبتها منه قبل سنوات فإذا بها موقعة ومحفوظة منذ سفري.
اعتقدت ان زمن المفاجآت معه قد انتهى لتغيّر الاحوال والازمان. فإذا به يؤكد مرة اخرى قدرته على الموقف وعلى المفاجأة. فمنذ ترشيح العماد ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية و”أبو الياس” ينتقل من مقر الى اخر مبتكرا الحلول ومقترحا الصيغ وملحاً قبل كل ذلك على انه لا يجوز تعريض المنصب المسيحي الاول في الدولة الى فراغ مهين. يفعل ذلك باندفاع وحماسة كما يفعل في كل ما يتولاه من مواقع او ملفات ولوائح شطب انتخابية صار من كثرة شغفه فيها يحفظها عن ظهر قلب. حقق أخيراً ما صبر عليه منذ انتخابات العام 2005 حين صار حليفاً للعماد عون العائد من المنفى على حصان جمهور الرابع عشر من آذار. وجد أبو الياس انه لم يعد هناك من مجال لتبرئة عرقلة انتخاب العماد سليمان من السياسة السورية في لبنان. بادر كعهده في الاجتماع الاخير لكتلة حليفه العماد عون الى القول بأن الجنرال قال في العام 2005 انه متردد في التعاون معه لانه رمز سوري. يريد الآن بعد ان انقطع اتصاله مع دمشق لسنوات ان يبلغه بصفته “رمزاً سورياً” شكر القيادة في دمشق على السياسة التي ينتهجها الجنرال لخدمة الاصرار على استمرار الفراغ الرئاسي في لبنان، ما دامت الكتلة المسيحية الاولى في لبنان تلتزم دفتر شروط المعارضة على العماد سليمان.
قد لا يكون دقيقاً ما نقل إليّ لكنه ليس غريباً على أبو الياس. على الطريق بين بيروت وجونيه يقف الى يمين الطريق مبنى رمادي اللون يعرف في المنطقة باسم “العمارة” وهو المقر السياسي والانتخابي الدائم لأبو الياس.
هذا اسمه في النهار اما في الليل حين تضاء الاحرف اللاتينية على المبنى يظهر اسم Amara اي الامارة. يضاف إليها ان قرينته السيدة سيلفي مولعة بالكنائس والقرابين والايقونات تقصدها حيث يشتهر الايمان، لكنها لا تعترف انها تحتفظ بأيقونة لبنانية منذ أكثر من 40 سنة “حفظاً لاسرار الاعمار” اسمها أبو الياس.
نهاد…