مفاجـأة سعـد الحريـري!…

مقالات 05 مايو 2008 0

للمرة الاولى منذ ثلاث سنوات تتعرّض صورة المفاوض الوطني في شخص الرئيس نبيه بري إلى ضربة قاسية بعد زيارته الاخيرة الى دمشق واعلانه بعد لقائه الرئيس بشّار الأسد أنه يحمل مفاجأة الى اللبنانيين تتطلّب أولا اعلان نوايا من الأكثرية.وللمرة الاولى ايضا منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تظهر على وليد جنبلاط عوارض صادقة وجدّية بالرغبة في تسوية داخلية هادئة وهادفة تجاه القيادة السورية. ثم تنقلب بين ليلة وضحاها الى مواجهة عنوانها دولة “حزب الله” والسفير الايراني في بيروت الذي طالب جنبلاط بطرده من لبنان. وللمرة الاولى ايضاً تتصرّف قيادة”حزب الله” بتوتّر شديد وارتباك أمام وقائع تفصيلية في حركتها العسكرية، تبدأ بكاميرا تصوير موجّهة نحو مدرج في مطار بيروت ولا تنتهي بشبكة اتصالات خاصة سبق لمجلس الوزراء ان تحدّث عنها في أكثر من جلسة له. وللمرة الاولى ايضا وايضا، يعود سعد الحريري زعيم كتلة تيار المستقبل النيابية بهدوء الى لبنان بعد غياب استمر لمدة شهرين لينفّذ خطة تشاور مع قيادات سياسية ودينية ثم يطلب تفويضاً للحوار المحدّدة عناوينه مع الرئيس برّي فيحصل عليه ويبقيه في جيبه حتى موعد لقاء لم يتم حتى الآن مع رئيس المجلس النيابي.ما الذي جعل كل هذه المرات الاولى تتكرّر في الوقت نفسه وتحت عنوان واحد هو الحوار؟
***
بدأت القصة بالزيارة التي قام بها الرئيس نبيه برّي منذ اسبوعين الى دمشق للتباحث مع الرئيس الأسد في تطوّرات الوضع اللبناني بعد القمة العربية التي عقدت في العاصمة السورية. كان واضحاً أن القيادة السورية تريد من القمة العربية محطة لاستعادة الانفتاح على الدول العربية التي خفّضت مستوى تمثيلها الى الحد الأدنى، وخاصة السعودية ومصر. استنادا الى ان البيان الختامي للقمة أخذ بعين الاعتبار العناصر المشتركة لعودة الحوار بين دمشق والرياض والقاهرة في العناوين الاستراتيجية للمنطقة في هلال الأزمات في فلسطين والعراق ولبنان ايضاً.هناك روايتان حول اللقاء الدمشقي بين الرئيس الأسد والرئيس برّي. الأولى تقول إن رئيس المجلس النيابي اللبناني اعتبر زيارته هي الأنجح منذ 27 سنة. منها عشرون سنة حفلت باللقاءات مع الرئيس الراحل حافظ الاسد. وسبع سنوات من “معاناة” التعرّف الى الرئيس الجديد للدولة السورية. عاد الرئيس برّي ليلقي في البحر السياسي اللبناني عنواناً جديداً وهو ان المطلوب من الأكثرية النيابية ان تعلن نواياها بشأن الدائرة الانتخابية المزمع اعتمادها في القانون الانتخابي وتحديد النسب في التشكيلة الحكومية الجديدة بين الأكثرية والأقلية والرئيس العتيد للجمهورية. ظهر من تعبير “إعلان النوايا” ان هناك تطوّراً في الموقف السوري والمعارضة لا بد من أخذه بعين الاعتبار. اذ ان اعلان النوايا ملزم معنوياً، لكنه مختلف عن الشرط السابق للمعارضة الذي يقول باتفاق على “السلة” يسبق انتخاب رئيس الجمهورية. شعر وليد جنبلاط وسعد الحريري انهما امام وقائع جديدة ليس من السهل تجاهلها، خاصة ان الجمهور الذي لبّى نداءهما وحلفائهما في الرابع عشر من شباط الماضي في الذكرى الثالثة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري، هو جمهور راغب بتسوية تحقق الاستقرار وتعيد للمؤسسات الدستورية دورها في مختلف المجالات.اندفع جنبلاط الى الامام متقدماً على حلفائه ومتجاوزاً لمواقف بعضهم التي رفضت الحوار بالمبدأ باعتبار انه يراد منه كسب المزيد من الوقت على الطريقة السورية السياسية الدائمة في الشأن اللبناني. تمهّل سعد الحريري في حركته إنما لم يرفض الحوار، فبدا وكأنه الميزان المقرّر للنتيجة النهائية بين من رفض ومن استعجل الحوار في قوى الرابع عشر من آذار.اندفع الرئيس بري مرة أخرى ليبلغ جنبلاط انه يحمل عرضاً بتشكيل حكومة على قاعدة 13 للأكثرية، عشرة للمعارضة، وسبعة لرئيس الجمهورية. ووافق جنبلاط بعد ان حاول تعديل الصيغة الى 14 ـ 10 ـ 6.الرواية الثانية تقول ان القيادة السورية أبلغت الرئيس برّي انزعاجها من صيغة الأحرف التي اعتمدها رئيس المجلس قاعدة للحل في لبنان وهي “س.س.” اختصارا للمصالحة السعودية ـ السورية. اذ ان الاستمرار في هذه الصياغة يزيد من حدّة الخلاف بين البلدين بدلاً من ان يسهّل تقاربهما. فضلاً عن انه يؤكد الانطباع السائد عربيا ودوليا بأن سوريا هي المعرقلة للحل في لبنان بسبب رفضها لما تتبناه السعودية علناً في سياستها من أولوية انتخاب رئيس للجمهورية على أي شأن آخر. لذلك اقترحت القيادة السورية على الرئيس برّي العودة إلى الحوار لكي تعود الصورة الى الخلاف اللبناني ـ اللبناني فيصبح حرفَي “لام ـ لام” بديلاً من “سين ـ سين”. ليس مؤكداً حتى الآن أي الروايتين هي الأصح، لكن الاكيد ان عناصر كثيرة طرأت على المنطقة، جعلت نتائج زيارة الرئيس بري الى دمشق من الماضي بدلاً من ان تكون مؤسسة للمستقبل.لم يتورّع العماد ميشال عون عن تناول حركة الرئيس بري ووصفها بأقسى الاوصاف باعتبار انه لم يتجاوز التفويض المعطى لعون من المعارضة فقط، بل تساهل في الأهداف التي تسعى إليها المعارضة ايضا. آخذاً في طريقه، وعلى طريقته، الحاجة الدائمة الى مفاوض محترف مثل الرئيس بري في اية مفاوضات مقبلة عاجلة كانت أم آجلة. في المقابل أنهى الحريري جولته على القيادات اللبنانية بزيارة الى الرئيس فؤاد السنيورة حيث بادر الى الاعلان من السرايا الكبيرة عن موافقته وحلفائه على القضاء دائرة انتخابية وعلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، والقبول بمبدأ الحوار مع العماد عون بعد تمهيد سياسي وتقني يجريه مع الرئيس بري، ليكون الحوار معبراً ملزماً لإجراء انتخابات رئاسية في جلسة الثالث عشر من هذا الشهر .دخل أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى على الرئيس بري ليأخذ منه ورقة تنصّ على قيام حكومة “تطمئن الجميع”. أما تفسير الاطمئنان هذا فمؤجّل حتى الجلوس الى طاولة الحوار. لم يستطع موسى بالطبع الاجتهاد في هذا المجال طالما ان الرئيس بري على تردّده حتى لا يقال رفضه استقبال رئيس أكبر كتلة نيابية في المجلس.
***

لا يعبّر هذا التردّد من الرئيس بري عن اسلوبه او سياسته او حتى رغبته، لكنه يعبّر عن مدى الحدة في تطوّرات محاولة الانفتاح السوري على الدولتين العربيتين الكبريين اي مصر والسعودية، والإصرار الدولي دون مهادنة على فك التحالف بين سوريا وايران. أول هذه التطورات المحاولة التي قام بها العاهل الاردني في زيارته الاخيرة الى السعودية لفتح باب الحوار بين دمشق والرياض. فكان جواب العاهل السعودي انه لا يريد ان يسمع اي حديث عن هذا الموضوع.ثاني هذه التطورات نفي الأمير سعود الفيصل علمه بموعد محدد لزيارة الرئيس الأسد الى الرياض او القاهرة بعد إعراب الرئيس السوري عن رغبته بزيارة العاصمتين السعودية والمصرية، في حديث الى صحيفة قطرية. أتى جواب الوزير السعودي في سياق حديث اعتبر فيه تدويل القضية اللبنانية لا يختلف عن الجهود العربية. وهو ـ أي التدويل ـ دليل علاقات لبنان الواسعة والتاريخية في العالم. جاء حديث الفيصل، بعد نشر وكالة انباء فارس اتهامات للسعودية بالمشاركة في اغتيال الشهيد عماد مغنية رئيس المجلس الجهادي في “حزب الله”. ولم يشفع نفي الرئيس الأسد لاحتمال مشاركة عربية في عملية الاغتيال في التخفيف من ردة الفعل السعودية. التطوّر الثالث، من حيث الأهمية وليس من حيث التوقيت، هو اجتماع “اصدقاء لبنان” على هامش مؤتمر دول جوار العراق في الكويت، وهو اجتماع تبنت فيه الدول تفسير المبادرة العربية القائل بانتخاب رئيس للجمهورية أولاً وقبل أي حوار حول الحكومة او قانون الانتخاب. جرى الاجتماع دون دعوة سوريا الى المشاركة باعتبار ان حضورها سيتسبب بغياب دول أخرى على حد التفسير الاميركي.التطوّر الرابع خوض الادارة الاميركية موجة تعبئة في وجه سوريا اميركياً ودولياً، استنادا الى صور تظهر ان المبنى السوري الذي دمّره الطيران الاسرائيلي في ايلول الماضي، كان يحضّر بالتعاون مع كوريا الشمالية لامتلاك سوريا قوة نووية. انتظرت الادارة الاميركية اشهرا جوابا من كوريا الشمالية حول هذا البناء ولم تتلقَ جواباً. مما حدا بالادارة الى التعاون مع المخابرات العسكرية الاسرائيلية للحصول على صور جوية للمفاعل الافتراضي قبل تدميره، “على حد قول مصادر عربية دبلوماسية في واشنطن”. التتمة الطبيعية لموجة التعبئة هذه ان يبدأ الدكتور محمد برادعي رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتحضير حقائبه لزيارات متكررة الى سوريا للتفتيش عن “الأسرار النووية السورية!”. ثم يحال الملف الى مجلس الأمن ليتولى مناقشة عقوبات على سوريا على الطريقة العراقية.
***
استنفرت القيادة السورية في أربعة اتجاهات : الأول في الداخل حيث عقد الرئيس الأسد اجتماعات مطوّلة مع القيادة المركزية للجبهة التقدمية أعلن بعده الأسد ان سوريا لن تجري محادثات سرية مباشرة مع اسرائيل بل ستعتمد الوسيط التركي لنقل الرسائل بين الطرفين. النقطة الأهم في الموضوع ان القيادة المركزية وافقت على قيام الرئيس الأسد بمفاوضات غير مباشرة مع اسرائيل. وهذا بحد ذاته سابقة في تاريخ الاتصالات السرية الاسرائيلية ـ السورية.الاتجاه الثاني هو استقبال رئيس الوزراء التركي وتحميله رسالة الى رئيس الوزراء الإسرائيلي حملها بالأمس وزير الخارجية التركي الى زميلته الاسرائيلية. بصرف النظر عن مضمون الرسالة ومدى استعداد اسرائيل للدخول في مفاوضات من هذا النوع في الوقت الحاضر، فان الرئيس السوري أراد من هذه الرسالة تأكيد رغبة بلده بالسلام على عكس المتداول عنه دولياً بأنه لا زال على موقفه الداعم لعمليات عسكرية ضد اسرائيل بالتحالف مع إيران. تجاهل الرئيس السوري في محادثاته مع صديقه التركي الواقعة التي تقول بأن الدفاعات الجوية التركية تجاهلت مرور الطائرات الاسرائيلية في الاجواء التركية في طريق عودتها من ضرب “مفاعل” دير الزور ورمت خزانات فارغة في الأراضي التركية. واكتفت الحكومة التركية لاحقاً بقبول اعتذار الخارجية الاسرائيلية عن خطأ ارتكبه سلاحها الجوي عن غير قصد. الاتجاه الثالث نحو ايران التي تولّت منفردة توجيه الاتهامات الامنية مرة الى الاردن وأخرى الى السعودية. بينما يعبّر الجنرال يحيى صفوي المستشار الأمني للمرجع الأعلى عن موقف بلاده من المملكة السعودية بأشد الاتهامات.قام وزير الخارجية السوري وليد المعلّم بزيارة طهران وأعلن بعد لقائه الرئيس أحمدي نجاد أن القيادة الايرانية في جو الاتصالات التي يجريها الرئيس السوري مع اسرائيل عبر الحكومة التركية، بينما نقلت وكالة الجمهورية الاسلامية للأنباء عن نجاد دعوته “للتحلي بالاستعداد واليقظة باستمرار لإحباط تحركات اميركا في المنطقة”.الاتجاه الرابع هو لبنان. ألغيت كل التحضيرات لجو سياسي لبناني يمهّد لجولة الأسد العربية وعاد الحوار الى نقطته الأولى. فتأكّدت الصيغتان الحرفيتان “السين ـ سين” و”اللام ـ لام” أيضا هذه المرة.
***
هل تكفي هذه الوقائع لتبرير الاستنفار السياسي لدى قيادة “حزب الله” فلا تذكر في بيانها لماذا ركّزت الكاميرا في محيط المطار على هذا المدرج دون غيره واستكثرت اعتذاراً علنياً من المسؤول الاشتراكي الفرنسي الذي تم التحقيق معه بتهمة التصوير في موقع يسكنه قيادي في الحزب وغيرها من التفاصيل التي عولجت بحدة مماثلة للهجوم عليها أو بسببها؟ وهل تشفع الوقائع نفسها لوليد جنبلاط انقلابه السريع جداً والحاد جداً؟ وما تفسير الحكمة المدعومة بالقدرة التي نزلت فجأة على سعد الحريري؟ تتصرّف قيادة “حزب الله” على اساس ان الهجمة الأميركية عادت نحو سوريا ولبنان بعد أن كانت لفترة طويلة نحو ايران. وانه لم يعد ينقصها الا الطيران الإسرائيلي محلّقا وضارباً في العمق اللبناني. لذلك وضعت مقاييس حادة للرد على اي هجوم تتعرّض له من الداخل، بصرف النظر عما إذا كانت هذه المقاييس تزيد من احتمال البيئة الصديقة او تخفض منسوبها. أما وليد بك فقد اعتبر ان اتهام تلفزيون “المنار” نقلا عن موقع اسرائيلي للحزبي الاشتراكي هشام ناصر الدين بالمشاركة في اغتيال عماد مغنية، مؤشر على عمليات أمنية تستهدفه وغيره من حلفائه. ثم جاءت كاميرا محيط المطار لتضيف إلى هواجسه الدائمة هاجساً جديداً.من أين يأتي سعد الحريري بهدوئه وابتسامته التي استقبل بها زوّاره قبل مغادرته الى الكويت؟ تزداد ابتسامته اتساعاً بسبب السؤال. ويدعو مستمعيه الى انتظار مفاجأة في الثالث عشر من أيار، ليست هي إجراء انتخابات رئاسية بل حدث يجعل الانتخابات قاب قوسين أو أدنى من موعدها المحدد. ما هي؟ يقسم بأنه وحده يعرفها ولن يبوح بها قبل حدوثها في موعدها المقرّر …