معمودية “قيصر” الأرثوذكسية..

مقالات 05 مارس 2007 0

روسيا فيها من الفوضى والغموض ما يجعلها أكثر من لغز… .
هكذا وصف ونستون تشرشل السياسي البريطاني الشهير روسيا قبل أكثر من خمسين عاما. فكيف لو أراد وصفها اليوم.
في السيرة الذاتية للرئيس فلاديمير بوتين الذي زار ثلاث دول في المنطقة العربية منذ أسبوع هي السعودية وقطر والأردن. في سيرته الذاتية أنه في الخامسة والخمسين من عمره. ولد في مدينة سان بطرسبورغ لينينغراد سابقاً ، عاش طفولة متواضعة جداً ودرس الحقوق في جامعة المدينة حيث كان عضواً في الحزب الشيوعي حتى سقوط الاتحاد السوفياتي عام .1991 عمل في المخابرات السوفياتية منذ عام 1975 وخضع لدورات تدريبية متعددة منها واحدة في المخابرات الخارجية. عام 1984 صارت خبرته ورتبته تسمح بإدارة مركز خارجي للمخابرات، فعيّن رئيساً لمحطة درسدن في ألمانيا الشرقية. سقط جدار برلين فعاد الى مدينته حيث عمل في القسم الدولي لجامعة لينينغراد، ثم انتقل للعمل مع رئيس بلدية المدينة الذي كان أستاذاً له في الجامعة، مستقيلا من المخابرات التي دعمت حركات معارضة لآخر رئيس للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشيف. اتهمه نواب المدينة بالعديد من الاتهامات وطالبوا باستقالته بسبب ترخيصه بمبادلة منتوجات من الصلب بالطعام المستورد من الخارج الذي لم يصل أبدا حسب قولهم. لم يتعرض له أستاذه بل عيّنه في مجلس استشاري لشركة لإدارة الأملاك الألمانية في سان بطرسبرغ. وبدأ في التدرج داخل إدارة المدينة.
ترأس فرع حزب روسيا الأم في مدينته. خاض انتخابات رئاسة البلدية عام 1996 وخسرها. لينتقل الى موسكو حيث عيّن نائب رئيس الجهاز الرئاسي في الكرملين ورئيسا لإدارة الأملاك الرئاسية.
هنا بدأ بالتمدد السريع. صار نائبا لرئيس جهاز المناطق في الرئاسة ثم رئيسا للجنة تحضير الاتفاقيات بين المناطق والدولة الفدرالية المتصلة برئيس الدولة مباشرة. ثم رئيسا للمخابرات الروسية وعضو دائم في مجلس الأمن القومي، ثم رئيسا للمجلس نفسه بعد أربعة أشهر. في أيار من عام 1999 ظهر مع وزير الداخلية الروسي على التلفزيون في مؤتمر صحافي مشترك ليعلقا على تسجيل يعرض على الشاشة يظهر فيه المدعي العام الروسي، وهو أعلى منصب قضائي، عارياً في السرير مع اثنتين من بائعات الهوى.
المدعي العام يوري شوارتوف لم يجد غير الاستقالة أمامه بعد أن كان يشكل عبئا على الرئيس بوريس يلتسين بسبب إصراره على التحقيق في فساد الرئيس وعائلته ولو بعد تركه منصبه.
استحق بوتين الجائزة ما قبل الأخيرة في السلطة فعيّن رئيسا لمجلس الوزراء. ما هي إلا أشهر حتى انتخب رئيسا للجمهورية بعد انتهاء ولاية يلتسين. وفي عام 2004 أعيد انتخابه لولاية ثانية تنتهي في العام المقبل.
***
في كتاب بلاط القيصر الأحمر لسيمون مونتيفيوري، ينقل الكاتب عن بوتين أن جده كان طباخا في الكرملين خلال فترة حكم ستالين ويرفض الحديث عن عمله. لكن بوتين سمع منه وهو صغير أنه قدم الطعام الى الصبي راسبوتين والى لينين أيضا.
كان والده عسكريا، ووالدته عاملة في مصنع. وحيد لأهله بعد وفاة شقيقين له وهما طفلين.
هل في ما ذكر حتى الآن ما يوحي بوجود مرشح للرئاسة يستطيع الوصول الى المنصب الأعلى في الدولة الروسية خلال أربع سنوات من انتقاله للعمل والعيش في موسكو 1996 2000؟
هل في ما فعله في ولايته الأولى يجزم بإعادة انتخابه بنسبة 71 في المئة من الأصوات، ومن ثم تسهيل وصول زميله في المخابرات سيرجي إيفانوف الى الخلافة عبر وزارة الدفاع ثم النائب الأول للرئيس منذ أسبوعين؟
كلاهما جنرال متقاعد. إيفانوف يصغر زميله وابن مدينته بثلاثة أشهر. على أمل أن يترك الرئاسة بعد الدورة الأولى فيصبح من حق بوتين ابن الستين عاماً العودة الى الرئاسة. من الممكن أن يقال الكثير عن فساد عهد يلتسين، وكذلك عن الولاية الأولى لبوتين. ولكن هل يمكن اعتبار هذا الفساد معبراً إلزاميا للرئاسة لدورتين متتاليتين؟
هذا تفسير مبسط جداً لما حدث في موسكو إلا إذا كان هناك جهاز غير مألوف وغير محدد قادر على إدارة البلاد بطريقة تضمن للرئيس، أياً كان اسمه، محبة الشعب وموافقته على التصويت له. وهو ما حدث فعلاً في المرتين مع الرئيس بوتين، وهو ما يستعد له خليفته إيفانوف.
في ولايته الأولى اعتمد بوتين على الحس القومي الراغب بالقوة فكان لقراره تغيير النشيد الوطني الروسي والعودة الى موسيقى النشيد الموضوعة أيام الاتحاد السوفياتي. كان لقراره هذا ضجة تفوق بكثير ما هو متوقع. إذ أن العامة الروس اعتبروا هذا القرار بمثابة وعد لهم أنهم سيعودون الى دور الدولة الكبرى.
***
العنوان الثاني هو حدّته في التعامل مع الشيشان الانقساميين. هذا مع العلم أن كون الشيشان من المسلمين أيقظ الرغبة العارمة للشعب الروسي بأرثوذكسيته، باعتبار الكنيسة الروسية المرجع الأول للأرثوذكس في العالم. لم يرضَ بوتين بهذا التفسير للحركة في وجه الشيشان بل طلب من صديقه الجديد رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري مساعدته على انضمام روسيا الى منظمة العالم الإسلامي.
وبالفعل اعتمد الرئيس الشهيد الحريري مثلثاً لحركته. فذهب الى السعودية أولا للاستئذان، ومن ثم الى مصر لأخذ البركة، والى باكستان التي كانت تترأس دورة المنظمة عام 2003 وحصلت روسيا على صفة مراقب في المؤتمر العام للمنظمة الإسلامية الكبرى والرسمية في العالم.
بهذه الصفة أصبحت حركته أسهل وأكثر تأثيراً في الجزء الإسلامي من بلاده.
لذلك حين استقبل النائب سعد الحريري منذ أشهر في الكرملين وهو كعادة القياصرة لا يستقبل نوابا حتى لو كانوا رؤساء كتل، بادر بوتين الحريري بالقول أرحب بك بصفتك رئيسا لكتلة المستقبل، ونجل الرئيس الصديق رفيق الحريري.
لم يتردد سعد نجل صديقه في الحديث عن الدور الروسي في المحكمة ذات الطابع الدولي المختصة باغتيال والده وكان له ما أراد.
***
في ولايته الثانية ركز بوتين على الشؤون الداخلية والاقليمية. اعلن عن خطة وطنية رباعية الاهداف وهي التعليم والاسكان والصحة والزراعة.
حققت الخطة جزءا كبيرا من اهدافها. إذ ان ازدياد اسعار النفط جعل روسيا تسد جزءا كبيرا من ديونها الخارجية و ما يفيض من المال يستعمل في الداخل.
أما في المجال الاقليمي فقد وجد بوتين ان بدايات انهيار السياسة الخارجية الاميركية هو الوقت المناسب للهجوم لاستعادة ما لدولته من نفوذ في الجمهوريات التابعة سابقا للاتحاد السوفياتي. وقد حققت هذه السياسة نجاحا سريعا في عدد من الجمهوريات أهمها اوكرانيا مصيف القيصر الروسي تاريخيا. من هنا ايضا جاء الاعلان الاول عن سياسة روسيا الجديدة في ميونيخ منذ عشرة أيام. حين اعلن اعتراضه الحاد على السياسة الأحادية التي تتبعها الولايات المتحدة الأميركية والتي تؤدي فقط الى مزيد من النزاعات والحروب والمآسي الانسانية.
واعتبر هذه السياسة حافزا على التسلح، لأنه لم يعد باستطاعة أحد الالتجاء الى القانون الدولي. استعمل بوتين في كلمته أمام مؤتمر سياسة الأمن في ميونيخ، تعابير من نوع الشفافية، الانفتاح، العقلانية. فبدا وكأنه يتحدث باسم دولة إنسانية، تريد تحصيل حقوق المواطنين في العالم.
نجح بوتين في اختيار التوقيت والكلمات لاطلاق سياسته الجديدة. التوقيت لأنه يرى أمامه ما تحصده السياسة الأميركية في العالم وخاصة الشرق الأوسط وآسيا. والكلمات لأن فيها مخاطبة أرثوذكسية للعالم الكاثوليكي. على حد تعبير أحمد الغز عضو المجلس الشرعي الاسلامي.
حققت الادارة الأميركية له ما يريد، استهجان واستنكار واعتبار كلامه أكثر من حرب باردة على حد قول سكرتير حلف الناتو الجنرال شفر.
كان بوتين في طريقه الى الشرق الأوسط وليس هناك ما يسهّل الطريق مثل الاعتراض الأميركي على سياسته. وصل الى السعودية في زيارة اعتبرت تاريخية، إذ انها المرة الأولى التي تحتفل فيها العائلة المالكة بضيف رسمي بهذه الحميمية.
استقبله اعضاء العائلة المالكة برقصة العرضة التي تؤدى تقليديا مرة في السنة بقيادة الملك وبين الأخوة فقط. فإذا ببوتين حاملا للسيف السعودي. انتهت الزيارة بالتفاهم على ثلاثة مواضيع رئيسية. الأول الاتفاق على التشاور في اسعار النفط بين البلدين. الثاني التفاوض على شراء حماية جوية روسية من نوع S-200 وS-400 وهي اكثر فعالية وقدرة على رد الطيران المعادي من نظام الباتريوت الأميركي المتوفر حاليا في السعودية والخليج. وقد كلف الملك عبد الله الأمير بندر بن سلطان بمتابعة المفاوضات حول هذا الموضوع. الموضوع الثالث هو الاتفاق على استثمارات سعودية في روسيا تفوق العشرة مليار دولار.
بقيت نقطة واحدة خاضعة للتشاور وهي مسألة منظمة انتاج الغاز وهي التي أعلن الرئيس الروسي عن رغبته باقامتها في العاصمة القطرية التي زارها لاحقا. كان واضحا ان كلا البلدين السعودية وروسيا يقفان على نفس القاعدة السياسية سواء بما يتعلق بفلسطين او العراق او لبنان.
***
كان واضحاً أن الرئيس الروسي استطاع شرعنة أحمد قديروف رئيسا للشيشان من خلال الدعوة التي وجهتها السعودية لقديروف لزيارتها. قديروف هو نجل الرئيس الشيشاني الذي اغتاله الثوار المسلمون في الشيشان مؤخراً. الهم الشيشاني ظهر مرة أخرى في زيارة بوتين الى السعودية، إذ أنه اصطحب معه رئيس تاتارستان منتيمير شايماييف. فتجاوب العاهل السعودي ومنح شايماييف جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، بعد أن أطلق على بوتين نفسه رجل الدولة المعني بالسلام والعدل في العالم.
من جهته، أعلن بوتين دعمه لاتفاق مكة الفلسطيني ودعا الى مؤتمر دولي لبحث قضية السلام في المنطقة مخالفا تماما السياسة الأميركية.
كرر ذلك في الأردن داعيا المجتمع الدولي لوقف مقاطعة السلطة الفلسطينية. ووقع اتفاقا مع الجيش الأردني لشراء ست طائرات هليكوبتر ثء .622 مقابل إقامة مصنع لتجميع السيارات الروسية لادا في المملكة الأردنية.
استثنى الرئيس الروسي العاصمة السورية من الزيارتين اللتين قام بهما الى المنطقة منذ انتخابه رئيسا في العام 2000 .
إذ ان العلاقات الروسية السورية تشهد حالا من الجفاء غير المعلن. ظهر ذلك في الزيارة التي قام بها الرئيس بشار الأسد الى موسكو منذ أسابيع. فلم يصدر عن الزيارة بيان مشترك. ولا عقد الرئيسان ولا من يمثلهما من الوزراء مؤتمرا صحفيا مشتركا للاعلان عن نتائج الزيارة. وهذا أمر له أهمية كبرى في البروتوكول الروسي.
الجفاء لا يقوم على السياسة فقط باعتبار ان روسيا الارثوذكسية تدعو الى الالتزام بمقررات المجتمع الدولي من دون تردد، بل هناك ايضا خلاف مالي، إذ ان تسوية الديون بين البلدين رست على ملياري دولار لم تدفعها سوريا حتى الآن بسبب الخلاف على سعر الصرف لليرة السورية. هذا لا يمنع أن تكون دمشق في الجولة الثالثة للرئيس الروسي.
الصورة التي ستوضع في صدر الكرملين هي صورته وهو يتعمّد في نهر الأردن. إذ ان القيصر الأرثوذكسي أراد ان تكون معموديته مثل السيد المسيح عندما أتى به يوحنا النبي الذي كان صوتا صارخا في البرية مبشرا باقتراب الخلاص فغطّسه في مياه الأردن وأعلن بشارته. حقق بوتين ما يريد وهو ما يحصل معه لسنوات طويلة قبل العمادة، فكيف بعدها؟