محطّات على شاطئ الذاكرة

مقالات 21 مايو 2005 0

لمدينة صور في ذاكرتي ثلاث محطات…
الأولى العابقة بالتاريخ القديم. المتداول منها هو التبادل التجاري لكنني رأيت فيها دائماً القدرة على التواصل مع الخارج واستحضار الثقافات والحضارات من شواطئ البحر المتوسط.
الحداثة في تلك الأزمان الموجود منها والمستورد جعلت من تاريخ صور منارات علمٍ ما زالت على قيمتها في مراكز العلم الحديث. لا ينقطع ذكرها ولا تقلّ مزاياها رغٍم مرور الآف السنين. من انتمى إليها يجد في تاريخها ما يغنيه حضارة. ومن قرأ عنها يسكنه خيالها بحيث تصبح جزءاً من حلمه. والحوار العربي الأوروبي ليس فكرة تعرض اليوم للبحث. إنّه حقيقة نشأت عندما أبحرت السفن من هنا وحوّلت البحر الذي كان يفصل بين البلاد التي تقع على شواطئه الى جسر يوصل الأمم المطلّة عليه وما خلفها ويوثق صلاتها التي لم تنقطع بعد ذلك. وصارت تهدي بعضها الى بعض من ثمار الحضارة ما انتفع به عالمنا القديم في كل أرجائه وفي كلّ أجياله.
المحطة الثانية هي صورة الصمود في وجه الاجتياح الاسرائيلي في العام 78 والمقاومة عملاً وقولاً في وجه الإجتياح الاسرائيلي الأشهر في العام 82 .
لا تزال صورة الأهالي المحتجزين على الشاطئ الرملي الأبيض المشعّ بأهله، واحدة من صوِر فخر اللبنانيين بقدرتهم على الصمود والقتال.
جاءت المقاومة من العروبة حين كانت تتراجع في كل مكان عربي. رفع الأهالي وهو التعبير الأجمل لأي مقاومة. رفعوا علم عروبتنا جميعاً على الشاطئ الأجمل. فأكّدوا أنّ المدينة المنبسطة على شاطئها لا تعرف الإنحناء.
المحطة الثالثة هي صورة الاصطفافات السياسية التي جعلت لكلّ مدينة علمٍ ما ولكلّ علم طائفة. فإذا بمدينة صور تحفظ بجهد أهلها تنوّعها السياسي والاجتماعي والطائفي، حتى حين عزّ عليها التنوع الطائفي لأسباب لا حيلة لها فيها. تمسكّتْ بالتنوّع السياسي.
عمائمها البيضاء والسوداء. صلبانها الذهبية والخشبية. علمانيوها، رموز تتنافس على العلم، تنفتح على الحضارات، تحتضن الحداثة. لم تستطع الإجتياحات ولا الحروب أن تغيّر ما في عروبتها من أصالة، ولا في تاريخها من علم.
حين تذهب إليها محاورا لأهلها، تجد فيهم يقظة الحرص على وطنيتهم. وتلاحظ عندهم متابعة المؤمن بأهمية الإحاطة بكل ما يدور حولهم فإذا أنت في منتدى صور الثقافي في قلب الأحداث. يشخّص حالتها طبيب مثل الدكتور ناصر فران. يشرف على نسيجها الاجتماعي قدير مثل عماد سعيد يحفظ للمدينة تاريخها وعروبة رجالاتها شفاهة وكتابة، وآخرين من الأساتذة الذين يقولون عن أنفسهم بأنهم من بقايا الحركة الوطنية . فإذا بوطنيتهم المتجدّدة أكثر صلابة من حركتهم السابقة.
يحاورهم مفتي العمامة البيضاء القاضي محمد دالي بلطة الذي يفاجئك بين صمت وآخر بإجابات فيها كل ما سألت وأكثر مما أردت من الجواب، شارحاً دقائق ميزان الحقيقة، الجامع، الحصيف. ويشجعهم مفتي العمامة السوداء السيد علي الأمين بفتواه وعلمه وشعره وقبل كلّ ذلك بشجاعته التي تختصر في كلّ بيت من شعره قوة الإقناع.
أطلق عليّ الدكتور فران في المنتدى الثقافي ما لا أستحقه من صفات. لجمهور المنتدى في هذه الصفات الحصة الأكبر من الريادة والفضل والمثابرة والفرحة بما يحققون. ما يناقشون من أفكار. ما يثيرون من عناوين.
تعود من المنتدى مثقلا بالفرح بعد أن حاورت عروبته…