“مجذوب” على سفوح الأطلس …. (2)

مقالات 03 يونيو 2008 0

مراكش …في “زكورة” الواحة الخضراء على فم الصحراء المغربية. عمل مصمّم فرنسي على ترميم رفيع المستوى على قصبة (قلعة) قديمة، فحافظ على شكلها الخارجي مازجا الطين بالتبن الأصفر اللامع في عين الشمس. حين تدخل الى قاعات القلعة وغرفها ترى ارقى ما يمكن اي يصله الذوق من مفروشات وتفاصيل دقيقة. كل ما في داخل القلعة صناعة مغربية قديمة او جديدة مكررة للتاريخي من الفن. خلفك المدفأة بخشبها الكبير الغامق اللون وامامك حديقة فيها مجاري ماء مزيّنة بين اشجار وورود لا يخطر ببالك وانت تدخل القلعة انها تنمو بألوانها الباهية في الصحراء. ليس في الفندق غرفة طعام، يفرشون لك الطاولة تحت الشجرة التي تختارها. وليس هناك من لائحة طعام بل أطباق محددة كل يوم تأكلها لتحافظ على وزنك وهدوئك في ظلال الشجر. يدور حولك البربر بلونهم الاسمر الصافي وضحكتهم الاصيلة على وجوههم، ليشرفوا على حاجاتك.
اسم الفندق “بيت الاحلام” وهو اسم على مسمّى لمن يريد ان يذهب الى الصحراء المغربية ولا يعود. في طريق العودة نرى مجموعات من اشجار النخيل التي تجاور بعضها الى درجة انك تعتقد ان عشر اشجار لها جذع واحد راسخ في الارض بينما تذهب فروعها الى السماء ارتفاعا. المفاجأة الاولى كانت ما ابدع فرنسي في تصميمها فيجعل من قلعة فندقا يضم تسعة اجنحــة فقط، يهرب الى ســكونه ودفئه الاوروبيون الهاربون من صقيع بلادهم، فيرون الثــلج على قمم جبال الاطلس وهم ينعمون بخيرات الواحة وأشجارها. يهبط الليل. نخرج من الفندق الذي نسكنه والذي اصبح متواضعاً جداً بعد “بيت الاحلام.”
نمشي في شوارع المدينة الساكنة حركتها لنسمع الموسيقى من بعيد. نلحق بالصوت فنصل الى الساحة القائمة عند مدخل المدينة القديمة داخل السور. يجتمع الناس هناك ليسمعوا طبولا تقرع واصواتا تذهب بصداها بعيدا الى الصحراء. الغناء بالبربرية غير مفهوم لمن لا يعرف اللغة، لكن الموسيقى تدخل بحزنها وانتظام اصوات طبولها الى العميق من مشاعرك. تنكشف الساحة امام عينيك لتجد ان فيها فرقة موسيقية محلية من اثني عشر عازفا بينهم اثنان يقرعان على طبول كبيرة ووراءهما 24 سيدة وفتاة بلباسهن التقليدي الزاهي الالوان يتمايلن مع الموسيقى ويردّدن بانتظام ايضا الغناء عندما يصمت الرجال. لو انّ رسّاما نقل ما نراه الى القماش لخرجت من بين يديه لوحة ترى فيها الالوان وتمايل الراقصات والحضور والاصوات المرافقة لدقّات الطبول ايضا.
فجأة يخرج من باب المدينة القديمة رجل عجوز قصير القامة، رقيق الجسم، بشرته بيضاء وعيناه ملونتان، بالثياب المغربية التقليدية، ويبدأ بالتمايل على رؤوس اصابعه ذات اليمين وذات اليسار، ليدور دورته الصوفية الكاملة حول الفرقة الموسيقية. ينظر الى السماء فلا يرى من حوله، ولا يسمع لهم صوتاً. يكمل دورته الاولى والثانية والثالثة فيبدو كالعصفور يتنقّل على غصون الاشجار برتابة وسلاسة وليونة وهو يميل برأسه مع الموسيقى. تغطّي وجهه الصغير ابتسامة لا تفارقه في رحلة تجلّيه الصوفي.
قرأت منذ زمن طويل تعريفا للمجذوب لابن عربي في مؤلفاته عن الصوفية يقول فيه ان المجذوب الحقيقي عقله محبوس وموقوف لله، وهو يعيش حالة استغراق تام في التأمّل الإلهي. أما التسمية فجاءت لأن عقله منجذب الى الله. أما ابن خلدون فيضيف في مقدمته “المجاذيب” إلى قائمة المتصوفة ويعترف بقدرتهم على بلوغ مختلف مقامات الولاية.
في “ورززات” المدينة الاولى في الصحراء المغربية رأيت لأول مرة في حياتي ما تحدّث عنه العالمان ابن خلدون وابن عربي في رجل بسيط الملبس، رقيق الحال والشكل. نظراته المتجهة الى أبعد قمم جبال الأطلس وابتسامته الفرحة المطمئنة تجعل منه الممسك وحده بالقدرة عـلى مناجاة خالقه دوراناً وارتفاعاً الى الأعلى. تتجه كاميرات التصوير نحوه فلا تترك حركة دون صورة. عيون الناس كلها على ابتسامته المحمولة على رؤوس اصابعه يتمايل فيها فارداً يديه الصغيرتين حول جسمه النحيل. تكبر يداه من شدة انسجامه الصوفي لتحوط بكل المتفرّجين. يطير على رؤوس اصابعه الى اعالي قمم جبال الأطلس ويمنح ابتسامته الى الخالق في أعالي السماء. ويعطي من حوله راحة الفرح المتمايل، ليصبح نجمة من نجوم السماء .
مدَدْ …..للبحث صلة …نهاد…