“مجذوب” على سفوح الأطلس … ( 1 )

مقالات 05 مايو 2008 0

…لكل مدينة صورة ترتسم في ذهن من يعرفها فيتعلق بما فيها من خصوصية. في باريس تجد رحابة المدينة المفتوحة الذراعين لاستقبال زائرها. شوارع عريضة وساحات جميلة، للصغيرة منها والكبيرة رواية وتاريخ ومَعْلَم فن أيضاً. مخازن في واجهاتها أجمل ما يمكن ان يشتريه القادر المتذوّق. لم تستطع المدن التي حاولت والتي لم تحاول ان تأخذ منها قدرتها على إسعاد زائر لا يعرف المدينة ولا حتى لغة أهلها. ليلها موصول بنهارها. خدماتها لا تتوقّف عن ابتكار ما يجلب مزيداً من السائحين الى شوارعها قبل فنادقها.
في لندن تنتشر العراقة في كل واجهة مبنى. محافظة في حركتها. جنونها محدود. لا يستطيع زائرها ان لم يكن خبيراً في نظام ابوابها المغلقة ان يشعر بترحاب المدينة به. تزورها مرّات حتى تمسك الخيط الأول من نظامها الليلي. أما في النهار فلا تبهرك شوارعها ولا واجهات مخازنها ما عدا “هارودز” الأشهر بمتاعب صاحبه محمد الفايد والذي تحتاج الى ان تكون خبيراً في الخرائط حتى تصل الى مبتغاك فيه مهما كان بسيطاً. وفوق ذلك ضباب يسرق ما اختزنته من ضوء أتيت به من مدينتك.
تذهب الى نيويورك لتواجه المدينة الأحدث في العالم. تجد فيها أجمل وأرقى ما في الدنيا من فنون، وأعقد التقنيّات، والشوارع التي عليك أن تحفظ اتجاهاتها الهندسية المستقيمة للتدرّج بسهولة مشياً على الأقدام من شارع كبير إلى شارع أكبر. تندم إذا كنت في منتصف العمر، انك لم تعرفها جيداً وأنت شاب كي تمشي فيها رافعا عينيك الى أعلى ما يطاله النظر من بناء.
ذهبت منذ اشهر قليلة الى مراكش الحاضرة المغربية التي ما زالوا يطلقون اسم “المدينة” على جزئها القديم داخل السور الأقدم. فاكتشفت ان فيها سحراً يجذب اليها رموز الفن والتأليف والموسيقى في العالم.يبنون بيوتاً مغربية الطراز تشعّ بالدفء في أبرد ايام الشتاء. ينتشر حولها النخيل الذي يوحي انتصاب جذعه الطويل أنه يقف هناك منذ مئات السنين. مراكش، ربما، المدينة الوحيدة التي يرتبط اسمها باسم رسام فرنسي عاش فيها لسنوات طويلة ورسمها ولوّن صور أهلها فجعل للمدينة وأهلها انتشاراً سحرياً وسرياً في منتديات العالم كافة.
حفظت المدينة الجميل للرسام “ماجوريل”، وحفظ له مواطنه “ايف سان لوران” حديقته ومنزله وجعلهما مزاراً للسياح يدفعون بدلاً مادياً للدخول الى حديقة متوحّشة بنباتاتها الصحراوية. الى جانبها منارة مسجد قديمة، جميلة، متواضعة الارتفاع. يضفي منظرها من الحديقة سحراً على الشجر الممنوع لمسه حفظاً لنموّه الدائم منذ عشرات السنوات. جعل اسم ماجوريل من مراكش مدرسة للرسامين المحليين وملتقى للفنانين القادمين من جميع انحاء اوروبا لينعموا بدفء وجمال المدينة.
دخل الابداع الفرنسي الى المدينة القديمة، فجعل من “رياضها” اي منازلها القديمة فنادق صغيرة رائعة الذوق تستطيع ان تمضي فيها اياماً، لا تخرج منها الا ليلاً نحو “ساحة الفنا” الشهيرة بمأذنتها وجمهورها الذي يجعل من ليلها عرساً دائماً. اينما مشيت في شوارع مراكش ترى جبال “الأطلس” بقممها البعيدة البيضاء. سفوحها الملوّنة التراب تجذبك بألوانها عن بعد. فتندرج من الابيض على القمة الى الباذنجاني ثم الليلكي إلى الصحراء الرابضة على سفوح الاطلس.
تفهم عندها من أين يأتي فنانو مراكش بألوان لوحاتهم وفرح حياتهم سواء أكانوا من اهلها او من المقيمين الدائمين فيها.تذهب الى المطاعم التقليدية في “المدينة” بضم الميم كما يلفظها اهلها. لتجد الحضارة الاندلسية بأرقى ما فيها من عمران واغنى ما فيها من طعام وادفأ ما فيها من سحر يتسلّل اليك فلا يترك لك مجالا من الغرق في الوانها وأشكالها، فتتذكّر فيلم المصري العريق في قدرته على التمثيل، يحيى الفخراني، “ذهب ولم يعد”. وتتمنى لو تفعل مثله في مراكش فتذهب ولا تعود.
تسمع الموسيقى في الطابق الأول من “دار ياقوت” فتتمايل مخيّلتك معها. تنزل الى الاسفل لتجلس حول البركة وأمامك المائدة بما تحمل من الأطباق المرصوفة أمامك. خرير الماء يخالط الوان “الزليج” أي البلاط المغربي بألوانه الزاهية مهما عانق من المياه لعشرات السنوات. تقرّر الاقتراب من جبال الأطلس لتغني عينيك بألوانها عن قرب. تذهب في السيارة الرباعية الدفع في اتجاه الصحراء النائمة على سفوح الجبال. تستغرق الرحلة 5 ساعات على طرقات لا تشعر بأن هناك حجراً متروكاً ولو بالخطأ على مسارها ولا حفرة منسيّة من الجهة الرسمية المعنية.
تصل الى “ورززات” المدينة المقيمة على فم الصحراء المغربية. تنظر من الساحة الى المدينة ظهراً لتشعر بالدفء الصادق في أحجارها. تمتد الصحراء أمامك وبين نظرة وأخرى تقع على “قصبة” ( قلعة) مرمّمة او متروكة على حالها من القدم فتتعرّف الى نظام عمران وحضارة لم تعرفها من قبل إلا في الصور. أنت الآن في مقام الحضارة البربرية التي تختلط فيها العمارة العربية الصحراوية مع ألوان الاسلام الافريقي. اذ ان الصحراء تمتد من هناك الى “تومبكتو” العاصمة التاريخية للطوارق سادة الصحراء. تراهم- أي الطوارق- في “ورززات” كما في الافلام تماماً بثيابهم الملّونة مثل امواج البحر واللفّة السوداء التي تغطي رؤوسهم ووجوههم ولا تظهر منها الا عينان يسكنهما تاريخ من الفروسية وحاضر من الركود.
تجد في حوانيت المدينة ابسط الاشياء واجمل الاذواق. ابواب خشبية قديمة قادمة من افريقيا الاسلامية والفن القادم من فاس المدينة الإسلامية الأعرق في المغرب بألوانه الاندلسية، وبعض المصنوعات الملوّنة بالأزرق والأبيض المصنوعة في “الصويرات” المدينة البعيدة عن مراكش ساعتان بالسيارة والقابعة على المحيط الأطلسي. لوّنها الاستعمار البرتغالي بألوان البحر وأمواجه. كذلك خصائص الفن البربري خشباً ببساطة من الجمال والغريب من النسيج بألوانه المختلفة تماماً عن النسيج الإسلامي.
تسمع في المدينة عن واحة تدعى “زكوره”، جاءها مصمّم فرنسي وجعل من قلعة كبيرة فيها فندقاً خاصاً. اعتمد المصمم في ترميمه للقلعة مزيجا من التبن الاصفر والطين البني كما كانت تبنى تاريخياً. حين تقترب من القلعة ـ الفندق يلمع التبن الأصفر على حوائط الطين المبنية امامك. بعد وساطات باللغة الفرنسية التي يتقن أصولها العريقة “الباشا المصري” رفيق الرحلة، تسمح لك السيدة الفرنسية العاملة في الفندق ـ القلعة التي خرجت على صوت “البحص” الكبير المرصوف على ساحة الباب الخارجي للقلعة، بالدخول الى أجمل ما يمكن ان تراه عيناك. للحديث صلة ….نهاد ..