مبّشــر فــي بــلاد المؤمنيــن!

مقالات 09 مارس 2009 0

الطرقات محفّرة.
آباؤنا وأجدادنا لم يشهدوا مثل هذا التراجع في الخدمات العامة.
الخبير حذر من الانهيار منذ سنوات، لكن أحداً في الحكومة لم يستمع إليه.
الوزير السابق قال إن هذا سيحدث ولم تستجب له المؤسسات المعينة.
سرقات الصناديق لا حدود لها…
لم تحظ خطة الحكومة بتصويت نائب واحد من المعارضة.
من الصعب عليّ أن أقول إنني صديق للرئيس. لي علاقة به كما بالرؤساء السابقين.
التقديمات الصحية للمواطنين تتراجع بحدة.
لن ندفع ضرائب جديدة لحكومة الصناديق…
لا يا سيدي الرئيس لست على حق.
حان وقت إعادة صناعة الوطن.
هذه ليست عناوين في السياسة اللبنانية. ولا نصّ شجارات في مجلس النواب اللبناني. ولا حتى عناوين صحيفة لبنانية معارضة فضلاً عن أنها ليست من مبالغات صحيفة موالية للحكومة اللبنانية حين يكون الحديث عن المنتظر من إنجازاتها. إنها عناوين نقاش الأيام الأولى لاستلام الرئيس باراك أوباما ما يفترض أنها مهام قيادة القوة الأولى في العالم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. على الرغم من صفة الذكاء التي أعطتها وزيرة الخارجية الجديدة هيلاري كلينتون للسياسة الجديدة لإدارة بلادها.
الغريب هنا ليس المعارضة “الجمهورية”. فهم ـ أي الجمهوريون ـ أعلنوا منذ اليوم الأول لخسارتهم المعركة أنهم لا زالوا يمثلون 49 في المائة من الشعب الأميركي. متجاهلين الاعتراف بالفروق التي جعلت الرئيس الجديد الديموقراطي الشاب الأسود يحوز على أكثر من ثمانين في المائة من أصوات الناخبين الأميركيين. إذ أن الحدة في لغة الجمهوريين منذ اليوم الأول لانتخاب منافسهم رئيساً، ظهرت وكأنها مبرمجة منذ وقت طويل، إلا إذا كانت الأحزاب الاميركية تضع خطة للنجاح مرافقة لبديلتها في حال الخسارة، وهذا غير منطقي. إذ أن أياً من المرشحين فائز حتى يخسر. ليس في أميركا فقط بل في كل مكان تتحكّم فيه صناديق الاقتراع بمصير المرشحين.
وصلت إلى لوس أنجلوس وهي واحدة من مدينتين ـ الثانية سان فرنسيسكو ـ يتنافسان على لقب العاصمة لأغنى ولاية أميركية ـ كاليفورنيا ـ إذ أن اقتصادها هو السادس في العالم بين اقتصادات الدول وليست الأولى بين ولايات أميركية فقط. وصلت في اليوم التالي للاحتفال التاريخي بل الأسطوري الذي أقسم فيه باراك أوباما يمينه الدستورية بصفته الرئيس الـ 44 للولايات المتحدة الأميركية. لم تتح لي رؤية الاحتفال على شاشة التلفزيون اذ ان الاحتفال جرى وأنا على الطائرة من باريس إلى لوس أنجلوس.
قرأت الكثير عن الاحتفال قبل وصولي، إلى المدينة الأميركية المشهورة بنجومها السينمائية. إلا أن المفاجأة جاءتني في اليوم التالي للاحتفال.
صحيفة “النيويورك تايمز” الأشهر أميركياً وزميلتها في الطبعة الدولية “الهيرالد تربيون” حملتا عنواناً واحداً على عرض الصفحة الأولى. “نداء لإعادة صناعة أميركا” A CALL TO REMAKE AMERICA هذه هي المفاجأة الأولى. أما الثانية فهي في استماعك لأحاديث الأميركيين في الفندق الأشهر في المدينة والمطعم الأحدث والمحلات الفارهة الأسعار في “روديو درايف” حيث يتبضع النجوم. لم يحقق الاحتفال التاريخي الأسطوري أي لفتة من المتحدثين الأميركيين في المواقع الآنفة الذكر. صحيح أن بعضهم يعرب عن فرحته بانتخاب أوباما، لأنه إعلان لنهاية أزمة عاشوها مع جورج بوش الابن لمدة 8 سنوات. لكنهم لا يتحدثون عن الاحتفال او عن أوباما بما يتجاوز الفرحة العادية.
احتلت المعارضة الجمهورية منذ اليوم الأول شاشات التلفزة والإذاعات والصحف المحلية لتجعل من الأزمة أكبر بكثير من خطة الإنقاذ ولترسم صورة جميلة لفريق الإنقاذ إنما غير فعّالة. ما ورد على لسان الجمهوريين صحيح بالطبع. إنما دون الإتيان على ذكر السنوات الثماني الأخيرة من الإدارة الأميركية التي تسببت بشكل او بآخر بانهيار اقتصادي كشف عورات النظام دفعة واحدة.
عيّن الرئيس أوباما لاري سامرز، الأستاذ الأصغر سناً في تاريخ “هارفرد” والمتخرج من “يال” في الثامنة والعشرين من عمره، مستشاره الاقتصادي الأول. تقول “النيوزويك” الاسبوعية عنه ان شكله يوحي بأنه أستاذ جامعي أمضى ليله يحلل المعادلات الحسابية. هو المدافع الأول عن الاقتصاد الحر الذي بدأ التفكير ملياً وربما غيّر اتجاه تفكيره في اتجاه مزيد من السيطرة الحكومية على المصارف واعتبار الدولة هي المحرك الأول لكل المشاريع.
يدافع سامرز عن موقفه بالقول إن آلية الحكومة العادية للاستقرار الاقتصادي باعتماد سياسة خفض ورفع الفوائد وطباعة النقود لم تفلح في منع الانهيار. تصفه المجلة الأميركية أيضاً بأنه الألمع بين من عيّنهم أوباما، وتضيف أن الرئيس الجديد أحاط نفسه بأكبر مجموعة من متخرجي جامعتي هارفرد ويال العريقتين، لم تعمل في الإدارة منذ عهد الرئيس جون كينيدي. غير أن صديقاً لبعضهم علّق على تجمعهم في البيت الأبيض بالقول “ليت واحداً منهم امتحن لرتبة رئيس مخفر بوليس منطقة حتى نحكم على أدائه غير الجامعي”
وزيرة الخارجية أيضاً عينت ثلاثة من ألمع الأسماء في مناصب المساعدين لها. جورج ميتشل لأزمة الشرق الأوسط. ريتشارد هولسبورك للشأن الأفغاني ـ الباكستاني ودنيس روس للأزمة ـ المعضلة أي إيران.
غير أن أياً من خبراء الاقتصاد الجامعيين أو موفدي السياسة الخارجية لا يملك بين يديه غير الأزمة التي بدأ الحديث عن انحسارها خلال سنتين وانتهى ـ عفواً حتى الآن ـ بعشر سنوات.
ذكّرتني ـ ولو عن غير دقة ـ هذه العناوين والمساعدون المعينون ونسبة المنتخبين الأعلى للرئيس الأميركي الجديد بالرئيس الايراني محمد علي خاتمي في ولايتيه الرئاسيتين التي حاز فيهما على نسبة من الناخبين تجاوزت الثمانين في المائة. لم يحقق السيد خاتمي المرشح اليوم للرئاسة الإيرانية أيضاً أياً من أهدافه، لأن عصب الدولة لم يكن من مؤيديه. دارت الأيام ليشهد بابتسامته المشهورة اعتقال أبرز مساعديه من المدنيين بالطبع. لم يكن بيده أن يستعمل سلاح الاستفتاء غير مرة واحدة كل أربع سنوات. وهذا غير كاف للحكم.
العصب بالمفهوم الأميركي هو المال. إذ ان التاريخ الأميركي المالي قائم على عنصرين الأول هو الاقتصاد الحر والثاني ان المجتمع المالي الأميركي هو الأكثر تبرعاً في العالم لمؤسساته العلمية والثقافية والخيرية والأكثر تماسكاً. الرئيس الجديد وإدارته الشابة الجامعية ليسوا من هذا العالم المالي ولا تذكر اسماؤهم حتى بين المودعين الملحوظة أرصدتهم. فكيف لشخص أو لإدارة معه أن يعيد صناعة وطن؟
الاقتصاد الحر مصاب بخسائر لم يظهر نصفها بعد، فالمعلن خمسة آلاف مليون دولار. أما الخسائر الحقيقية على حد قول أسطورة نفطية أميركية من أصل لبناني فهي 12 ألف مليون دولار. وهذه الخسائر تعطل بالطبع العنصر الثاني في دعائم المجتمع الأميركي أي التبرعات السخية. الخسائر هنا ليست مادية فقط بل ان عنصر الثقة اختفى من رصيد المصارف الكبرى والشركات الأكبر فضلاً عن الأفراد. وأن ما ظهر حتى الآن من حجم النصابين في السوق المالي الأميركي أكبر من الخيال.
الأول في التاريخ من دون منازع، برنارد مادوف رئيس الشركة الأولى بين 11,274 شركة للاستثمار في أميركا. تشير لائحة وضعتها قناة بلومبرغ الاقتصادية إلى أن أكثر من ثمانية آلاف شخص وشركة مستثمرة تقدموا ببيانات تفيد ان شركة مادوف مدينة لهم بـ 41 مليار دولار. بدأ مادوف عمله بالحصول على أموال خيرية وجمعيات يهودية في نيويورك وبالم بيتش. وحتى تشرين الثاني من السنة الماضية كانت الدعوات إلى تجمّعات مالية للاستثمار مع مادوف مستمرة وبإقبال شديد.
مادوف قيد الإقامة الجبرية في منزله. أما بول غرينوود وستيفن والش فقد اعتقلا بعد عشرات سنوات من العمل في البورصة الأميركية في نيويورك. التهمة نفسها “السرقة” إنما بمبالغ لا تزيد عن مليار و667 مليون دولار.
الطرق المتبعة هي الأكثر بدائية أي الدفع للمستثمر القديم من أموال المستثمر الجديد، إنما بفوائد أعلى من المتاح في السوق. وهي طريقة معروفة في القرى اللبنانية والمصرية فإذا بها “فعالة” في المكان الأقدس للمال والأكثر أماناً أي أميركا.
الرابعة في سلسلة لم تكتشف بعد هي بندرجست هولست التي اعتبرتها المحكمة أنها واحدة من ثلاثة أشخاص على علاقة بضياع 6 مليارات دولار على المستثمرين.
الخامس هو الألطف إذ أن جايمس دايفيس المتهم بسرقة 1,6 مليار دولار من المستثمرين كان يفتتح اجتماعاته المالية بالدعاء باعتباره محافظاً ومتديناً.
الحل هو في التراجع عن تاريخ الولايات المتحدة الأميركية منذ نشأتها أي تأميم المصارف، على حد رأي “كبار” علماء الاقتصاد. وهو قرار يفتح الباب أمام المعارضة “الجمهورية” لتحقيق انقسام في الإجماع الأميركي لم يحدث إلا في الحرب الأهلية منذ مئة وخمسين عاماً. فضلا عن أن السياسة الخارجية مرهونة بانتشار و”انتصار” القوات العسكرية الأميركية خارج الحدود.
صحيح ان استطلاعاً بريطانياً للرأي أظهر أن الرئيس أوباما هو الشخصية الأكثر احتراماً في العالم. ولكن ماذا يستطيع ان يفعل لحامل جائزة نوبل في الكيمياء الذي ظهر على الصفحة الأولى من الصحف الاميركية مصرّحاً أنه لم يعد يملك ما يكفيه لما تبقى من حياته بعد خسارته لمدّخراته مع مادوف؟
اعتماداً على المتدين النصّاب جايمس دافيفس، يستطيع أوباما أن يكون مبشراً في بلاد المؤمنين. هذا رأي. فكّر فيه. على حد التعبير اليومي للزميل فيصل سلمان.
نهاد..