طبعاً، ليست المسألة في التدقيق بمحتوى الكلام المنسوب الى الوزير نهاد المشنوق عبر قناة «الجديد» لفصل الصحيح منه عن المضخّم، والذي تم نفيه لاحقا، فمن يعرف الرجل وجالسه في الأونة الأخيرة، التقط منه إشارات «التأفف» من الحالة التي بلغها «تيار المستقبل» ودفع ثمنها في طرابلس تحديداً، وقبلها بأقل وطأة في بيروت!
ليس بالضرورة أن يكون المشنوق قد أدلى حرفياً بما نُسب اليه، ولكن من قرأ بين سطور اطلالته التلفزيونية الأخيرة مع مارسيل غانم، حين قرر البوح بما يفرده عادة في جلساته المغلقة ويسرده عن رواية ترشيح سليمان فرنجية، والحيثيات التي تدفع سعد الحريري مذ قرر السير بالـ «سين سين» الى تقديم سيل التنازلات… يدرك جيداً أنّ وزير الداخلية وأحد أبرز قيادات «الحريرية السياسية»، قرر وضع الإصبع على الجرح، تارة بالمباشر بمفردات عفوية وطوراً بالمواربة عبر المقاربة الشاملة.
عملياً، لم يكن الرجل مضطراً لإثارة عاصفة من ردود الفعل على مواقفه، وتحديداً من جانب الرياض، حيث بدا لافتاً ما سألته صحيفة «عكاظ» السعودية عن موقف سعد الحريري مما أدلى به وزير الداخلية، بعدما وصفته بأنه لم يكن «في يوم من الأيام حالة وفاقية في الساحة السياسية اللبنانية»، ولا هو ممن يرتكبون «دعسات ناقصة» كما قالت الصحيفة… لولا الضوضاء التي أثارتها الانتخابات البلدية وتحميل «تيار المستقبل» وحده مسؤولية تراجعه الجماهيري.
لا شك بأنّ «التيار الأزرق» لا يقوم بواجبه الإقناعي كاملاً كي يبقي على حال التماس بينه وبين أرضيته، لا بل يتعامل معها بشيء من الاستخفاف والتراخي المرتبط بالتصحّر المالي والهشاشة التنظيمية والهوة الساحقة القائمة بين الرأس وبقية أعضاء الجسم.
ولكن مع ذلك، يتردد في الفترة الأخيرة في أروقة هذا الفريق، الكثير من كلام الاعتراض والعتب والتساؤلات حول معاني وأسباب التنازلات التي راح «تيار المستقبل» بشخص رئيسه يقدمها الواحدة تلو الأخرى من دون أي استراتيجية واضحة قادرة أن تحمل طروحات الحريريين الى برّ الانتصار أو الطمأنينة السياسية… بينما هناك من يرفع سقفه عالياً ليضرب كل ثوابت بيت الوسط، متناغماً بذلك مع الهمس المكتوم الذي يضجّ به الشارع السني، والشمالي تحديداً.
وقد كبر حجم اعتراضات «المستقبليين»، وفق ناسهم، مع تعليق الهبة السعودية والذي وكأنه من باب معاقبة الفريق «الأزرق» وليس الآخرين، الى حين تصوير الحريريين على أنهم يلهثون وراء مكاسب انتخابية آنية على حساب قناعاتهم وثوابتهم. بهذا المعنى، يعتبر هؤلاء أنّ التزامهم السقف المرسوم سعودياً لا يعني ضعفاً من جانبهم ولا هي شطارة من جانب الآخرين اذا ما تخطوه.
هكذا، صار كلام المشنوق مرآة لما ينبض به الشارع «المستقبلي» واجتماعاته الداخلية التي لا تخلو من الانتقادات والدعوات المتكررة لوقف المسار التنازلي. بهذا المعنى أعيدت الكرة الى ملعب السعودية، الحاضنة الاقليمية لهذا الفريق، ليبوح وزير الداخلية علناً بما يُقال بشكل خافت وصامت.
حتى في الفترة التحضيرية للانتخابات البلدية ضجّت مكاتب تيار «المستقبل» بسيل من الاستفهامات حول أسباب التفاهمات المنوي عقدها بلدياً ومبرراتها. ثمة دوماً حال من اللا قناعة لدى قواعد هذا الفريق وقياداته الوسطية تواجه السياسات العليا التي تأتيهم من فوق.
ولهذا قدّم المشنوق مقاربته على أنها نقد ذاتي، ودعوة مفتوحة لمناقشة خيارات فريقه وأدائه لمعالجة مكامن الخلل وتصحيح الاعوجاج اذا ما ثبت حصوله.
وما افصاحه عن رواية ترشيح سليمان فرنجية انطلاقاً من لندن مروراً بواشنطن وصولاً الى الرياض، الا للتأكيد على أن سعد الحريري وفريقه السياسي لا يسبحان خارج التيار وانما بالعكس، فهو يحاول قراءة التقاطعات الاقليمية والدولية والبناء عليها لانتخاب رئيس للجمهورية مهما كلّف الأمر من تنازلات سياسية لا بدّ منها لبلوغ خطّ الوسط.
ولكن أن يتمّ التعامل مع أشرف ريفي على أنه حالة زعامة ناشئة على أنقاض الزعامة الحريرية التي يمثلها سعد الحريري، بسبب تخطيه كل السقوف التي ثبّتها «تيار المستقبل» مذ لجوئه الى النهج الانفتاحي تجاه «حزب الله» بشكل خاص، وتصويره على أنه أقدم حيث لا يجرؤ الآخرون، ففيه شيء من المبالغة وتحوير الوقائع، كما يقول «الزرق».
ولهذا حاول وزير الداخلية تصويب الأمور ووضعها على سكتها السليمة، بمعنى عدم تحميل الحريرية السياسية أكثر مما تحتمل، فليست هي وحدها المسؤولة عن أدائها، لأنّ سعد الحريري ورغبة منه في ارساء الاستقرار السياسي وحماية ما تبقى من حال التماسك الداخلي، ارتدى ما فصّله السعوديون، لا أكثر!
ولكن السرّ لا يزال في التوقيت الذي دفع المشنوق الى اخراج ما ينضح به الإناء الى العلن، بعدما كان يُطبق عليه ويحصر بالداخل فقط. ثمة من يسأل في هذا السياق:
– هل استُفزّ المشنوق لدرجة خلع القفازات وقول الأمور كما هي مع أنّ مسيرة الرجل ونجاحه في اجراء الانتخابات البلدية، كأحدث اختبار يخضع له، قادرة على تحصينه ودفعه نحو الأمام للإشراف على الانتخابات النيابية؟.
– هل تعاطي حلفاء «تيار المستقبل» الذي يمكن وصفه بـ «الإحتفائي» مع الفوز الذي حققه ريفي في طرابلس هو الذي أملى على «الحريريين» اخراج «مظلوميتهم» الى العلن لتصويب الأمور قبل اندفاعها أكثر؟
– هل ثمة يدّ اقليمية قد تحاول استثمار النتائج الطرابلسية للبناء عليها، مع أنّ الزرق يجزمون بأنّ الرياض غير معنية بما جرى في العاصمة الشمالية، تحضيراً لمعركتها واستثماراً لنتائج صناديقها.. وكان لا بدّ من التصدي لها استباقياً؟