ما بال المسلمين؟

مقالات 18 يوليو 2005 0

ولا أسرع من بيروت في التّغير والتقلب. كدت أسميها “المسحورة” لولا الجهد الذي بذله المؤرّخان الاستاذ عبد اللطيف فاخوري والاستاذ حسان حلاق كتابةً لردعي عن ذلك. “المسحورة” هنا لا تأتي من السحر الذي يصيب سكّانها وزوّارها. بل من السرعة التي تجعل الأمور تتغيّر بقدرة ساحر كما يقال. كيف تنقلب المدينة من موقع للهو والسهر الطويل إلى مكان للتديّن المعتدل والتعليم الجدّي. لغاتها متعددة وطقوسها أيضاً. تتفنن في العمارة! من مسجد عثماني، الى آخر مملوكي، إلى دمشقي، وربما أيضاً الى مسجد بيروتي وديع وأليف
كنائسها لا تقل جمالا ولا وجاهة. ومن لا يصدّق فليذهب الى “كنيسة غسان تويني”، عفواً مار جاورجيوس للروم الأرثوذكس في الوسط التجاري. لكنّ التعليم الديني العلمي المعتدل، على تراجع. ليس بسبب قلّة الطلاّب، بل بسبب قلّة المعنيين باستمراره من أصحاب الثروات. ربّما هم لا يرون في التعليم مكاناً لزكاتهم.
كأنّهم يفضّلون حشر المصلين في المساجد. واستدراج صغارهم الى الفريضة نفسها، وترك العلم يراوح مكانه.
مسجد بجانب مسجد في الشارع الأول، يليه آخر في الشارع الثاني، وثالث على أقل من مدى صوت المؤذن لا أكثر ولا أقل.
ماذا حدث لأهل هذه المدينة؟ لوُجهائها بحسب التعبير القديم؟ لعلمائها وسادتها وأغنيائها؟
ماذا حدث لمغتربيها ومهاجريها؟ هل نسوا فضيلة العلم؟
ماذا يشغل عقولهم وقلوبهم وإيمانهم العاقل المعتدل؟
ماذا حدث لمحبّي هذه المدينة وأهلها من العرب الزائرين، وأصحاب الدور التاريخي في دعم مؤسسات التعليم؟ وهم والحمد لله يزدادون غنىً وثروة…
هل اقنعهم أحد بان المساجد المتوالية على المدينة، هي أقرب لأجر عند الله من مدرسة تُعّلم أولاد المسلمين وتُخرجهم من شوارع الجهل؟
أين آل القصّار الذين بنوا من بيع زاويتهم في أسواق بيروت مسجداً قبل ثلائمئة عام؟ اين معالي “الريّس” عدنان صاحب العلم المالي العميق والذوق الرفيع أيضاً في مجموعات لوحاته المتنوعة؟ أين عادل القصّار العامل من خلف الكواليس في تثبيت دعائم امبراطوريّة مالية؟ أين نديم نجله المندفع شباباً على طريق والده وعمّه؟
كلهم في الخير سواء، ولكن أين هم من المستقبل؟
أين “العياتنة” المقيمين على الخير والعبادة ومحبّة الناس ووجاهة تصدّر العائلات البيروتيّة عدداً؟ أين عبد حفيظهم الحريص على مال أصدقائه وتطوره كما على ماله أيضا؟
أين آل الميقاتي؟ طه ونجيب وعزمي؟ وبخاصة عزمي الذي تعرف عنه وعن حرصه وعن تقواه، ما يزيدك تقديراً له.
تعرف عنه؟
نعم لأنك لا تستطيع ان تعرف منه. يُقبّل يد والده تبركاً. ورأس عمّه تحبباً. ويعطي من مالهم للمؤسسات الخيريّة ما لا يعرفه أحد، حتى والده وعمّه. يغيب ليومين ويعود لتكتشف أنه كان في الحج سنوياً. ويعود ولا يخبرك عمّا فعل.
يوحي لك دائماً ان واجباته الدينية مماثلة لذهابه الى المكتب والعمل كل يوم صباحاً بعد الجولة على الوالد والعمّ والجدّة وما بينهم.
يناقش عمّه تساؤلاً: هل ما نفعله في طرابلس زكاة وصدقة ام سياسة؟
يضحك الرئيس ميقاتي، كما طه رئيس العائلة، ويتركانه يفعل ما يريد.
أين آل الغندور؟ نجاح عربي وتطور في التجارة يستأهلونه بجهدهم وتطوير مهنتهم التي تعود الى عشرات السنوات، وربّما أكثر. أصبحوا علامةً فارقة لبنانياً وسعودياً. بسكوت. شوكولا.
وغير ذلك من أسباب النجاح.
ماذا يشكو فرعهم الطرابلسي، وكبير ثروتهم غسان، اللطيف الأنيق الدمث في معاملاته، المتنقّل في أنحاء العالم وراء رزقه؟
اين محمد الصفدي الوافد الى السياسة حداثةً وتطوّراً. أدخل الكومبيوتر الى الأحياء الفقيرة في عاصمة الشمال. تجهل يده اليسرى ما تفعله اليمنى التي تدقّ باب كل محتاج.
الكومبيوتر الى طرابلس، واستمرار العلم لطلاب المقاصد.
ما رأي معالي الوزير الوسيم؟
أين آل الأزهري الذين صنعوا من لبنان قاعدة لنجاحهم المالي
والمصرفي والذي يتصدّر الصفحات الاولى من الصحف بأن مصرفهم هو الأول في لبنان؟
أين الحاج يحيى الهبري أطال الله في عمره ووفق ولده المغترب في مزيد من الثروة؟ فهو خيّر و ابن خيّر.
أين محمد زيدان “الأمير الكوبي” الذي لا يقصّر لو دقّ أحدهم بابه لعمل خير أو لصاحب حاجة؟
أين أمراء آل دندن؟ أعزّوا امارتهم بتجارتهم فكانت باباً للثروة.
فهل يفتحون هذا الباب لخير العلم؟
بالتأكيد فهم ما أغلقوه يوماً لاجتهادهم في فعل الخير.
أين آل شقير الذين اختاروا ارض الأوقاف الإسلامية لمبناهم في وسط بيروت تبرّكاً؟
فروعهم في كل عاصمة عربية ونجاحهم يُؤكد ان الخير الساكن في كبيرهم صحيح ومبارك.
العلم مرة أخرى اين هم منه؟
أين كبار تجّار آل طبارة؟
افتتحوا مسجداً قبل أسابيع باسم عميدهم في منطقة الصنائع. هو الأكثر ذوقاً والأكثر بيروتية على صغره، بعد مركز توفيق طبارة القريب من المسجد.
أين آل دياب سيداتهم وولدهم الوحيد الذي تربّى على حب المقاصد مع تمام وفيصل سلام رحمه الله. فرّقت بينهم الأيام؟ صحيح. لكنّ السياسة غادرت المقاصد وينقصها فقط روح الخير من أهل المدينة.
أين السيد سعد الدين الحريري الذي ورث عن والده حباً جامحاً نحو التعليم، وفهماً كبيراً لأهمية هذا العمل في بناء مجتمع متوازن؟
بالتأكيد هو آخر المُطالَبين.
السيدة نازك تابعت رسالة زوجها بصدق وامانة وأعفت المقاصد من ديونها للمصارف التابعة لمجموعة الحريري.
أين تجار المدينة؟ اين اثرياؤها؟ أين أصحاب مصارفها؟ أين علماؤها؟ أين ملاّكو عقاراتها؟ أين أطباؤها ومحاموها ومهندسوها؟
ماذا أصاب كل هؤلاء الناس؟
ابتعدوا عن مساعدة مؤسسات التعليم واختاروا مؤسسات لها مهمات أخرى في المجتمع الإسلامي، لا شك في صوابية عملها.
لست فقيهاً حتى أفتي. ولكنني افترض ان لا خلاف بين الفقه
والعقل، وإلا لما ساد الفقهاء مجتمعاتهم إقناعاً وإيماناً.
لذلك فإنني أضع العلم في المرتبة الأولى من حاجات المجتمع المتوازن.
أما الصلاة فهي فريضة يمكن أن يقوم بها المسلم أينما كان. في منزله. في الشارع لو اضطره الأمر. في الصحراء. والقبلة هنا هي اتجاه جغرافي يمكن اعتماده من أي مكان. إلا اذا كان الهدف من بناء المساجد ليس الحاجة الفعليّة إليها بمقدار ما هو جدار يضع الواهب عليه اسمه أو اسم عائلته ويمضي.
لست من الذين يحسبون على الناس ثرواتهم، ولا احسدهم عليها بالتاكيد، فبارك لهم الله في ما اعطاهم، ولكنني اخترت نماذج من أهل اليسر الذين جعلوا للمال معنىً مختلفاً عن السائد. إنه “قيمة” للمستقبل. أو هكذا أظن.
لست قاضياً حتى أحكم على الناس. ولا داعيةً يبحث عن مريدين.
أنا متأكّد من كلّ الذين ذكرت اسماءهم وأعمالهم ونجاحاتهم، لهم في الخير يد طولى، كلٌ حسب طريقته. وحيث يرى ذلك أكثر إفادة للمجتمع الإسلامي ولمدينته ولبلده.
لست متأكداً بالمعنى النظري فقط. بل أنا ادّعي معرفة ذلك وأين يحدث، مما يزيد في احترامي للذين سميتهم.
وما أحاول فعله فقط هو نقل النقاش الى موقع آخر هو “العلم”.
لا أظن ان احدهم يعترض. كل ما يحتاج اليه هو الأسباب للإقتناع.
فليتحاور مع نفسه أولاً. أو فليمر بجانب مدارس المقاصد المنتشرة في بيروت. أو فلينظر في حال الطلاب وحاجتهم. ربّما وجد حقاً في ما أقوله. أو العكس.
“من اجتهد فأصاب له أجران. ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد”.
أملاك المقاصد وديونها
سبب الحديث هو خبر نشرته صحيفة “النهار” في صفحتها العشرين من عدد يوم السبت الماضي. وكذلك فعلت كل الصحف البيروتيّة. أما جريدة “الشرق الأوسط” السعودية فنشرته في زاوية صغيرة من صفحتها الاقتصاديّة.
الخبر كناية عن خطاب لرئيس جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في بيروت في حفل تخرّج الطلاب، يبلغنا فيه أن الجمعيّة قررت بيع أملاكها في الوسط التجاري لتسدّ جزءاً صغيراً جداً من حقوق موظفيها.
سمّى الأملاك “ما تركه لنا الأسلاف”.
المفاجأة الثانية ان مفتي الجمهوريّة اللبنانية الشيخ الدكتور محمد رشيد قبّاني، كما يُحب أن يُسمى، تحدّث في الحفل بعد رئيس الجمعيّة .
طالب بالتعجيل في تشكيل الحكومة!
هل يعقل انه لم يسمع ما قاله الداعوق؟ أم أنه لم يرد ان يخرج عن الكلمة المقررة، رغم هول ما سمع؟
الخبر عادي وردود الفعل أقل من عاديّة.
الطبيعي أن يهب المفتي لمعالجة الموضوع. وأن تتحرّك المدينة، وعلى رأسها مجلس أمناء الجمعيّة الذين يأخذون من الجمعية وجاهتها ويتركون “الهم” على رئيسها.
لم يحدث شيء من ذلك.
كأن المدينة فقدت روحها. وكأن أثرياءَها فقدوا بوصلة خيرهم. وكأن اصحاب مهنها الحرّة وتجّارها أخذتهم الدنيا الى هموم أخرى.
آخر المتبرّعين ومفاجأتهم الكبرى ميشال إده رئيس جمهورية “المسؤوليّة الوطنية” التي تتقدّم على أي مسؤولية أخرى. ولو بمبلغ متواضع تكبر قيمته باسم المتبرع.
للتذكير فقط، عمر الجمعيّة 125 عاماً.
ربّما الأملاك الموقوفة لجمعيّة المقاصد في الوسط التجاري عمرها من عمر الجمعيّة.
كيف، ولماذا يحدث ذلك ؟
آل الداعوق آخر من يُحب بيع العقار. هذا في تاريخهم وتراثهم.
الخبر الثاني أن أمين الداعوق رئيس جمعية المقاصد، المهندس، المدبِّر، يعرف أحجار مدارسها ومستشفاها واحدة من الأُخرى.
عاش معها صِبا عمره. وهي الأن قناعته. أمين الداعوق كان من أوّل الداعمين لشركة “سوليدير” في وجه عائلته. وبلغت به الحماسة حد دعوة مجموعة مؤيدة لسوليدير الى عقد اجتماعاتها في منزله البعيد عشرات الأمتار عن منزل شقيقه عمر الداعوق رحمه الله، والمعارض لفكرة الشركة في ذلك الحين.
رفيق زنتوت خير شاهد على ذلك.
بيع عقارات الأسلاف يفترض أن يهزّ أركان المجتمع الإسلامي، فيبادروا الى التشاور والاجتماع لمعالجة جذريّة لهذا الموضوع.
السيد الداعوق قال ان عجز الجمعيّة 6 ملايين دولار سنوياً. وهو العجز الناجم عن تعليم اثني عشر ألف تلميذ مجاناً.
اثنا عشر ألف تلميذ مسلم معتدل، أبناء أُسر مستورة، لا يجدون من يهتم لقضيّتهم؟
مدرستي في الصغر
لا أصدّق ذلك. أكتب عن مدرستي؟
نعم هي مدرستي في الصغر، وهي التي علّمتني فضائل كثيرة لا أدّعي الحفاظ عليها كلها! وهي أيضاً مدرسة كثيرين من الذين أعرفهم من جيلي وأكبر وأصغر.
كل مدرسة فيها تعيش مع مسجد صغير متواضع. يُؤدي التلاميذ واجباتهم تجاه العلم، ثم يدخلون الى بيت الله ليحموا أنفسهم من شر الدنيا.
مئة وخمس وعشرون سنة على المقاصد. انها ذاكرة تاريخيّة وثقافيّة وانسانيّة، بُنيت يوماً فيوماً.
قِيَم واساليب تفكير وعلاقات ومعارف وتجارب، نحتاج اليها اليوم لمزيد من اليقظة. ومن العبرة. ومن التحفز الدائم نحو التقدّم.
في ذاكرة المقاصد لبنانيون وعرب يشاركون في بناء المستقبل.
هم من دون أن يقصدوا لُحمةً ثقافيّةً واجتماعية في المجتمع اللبناني، يشاركون في تطويره وتحديثه.
“الذاكرة هنا ليست استعادة انما استكشاف”، التعبير هو للشاعر أدونيس في احتفال تخريج مدرسة زهرة الإحسان.
الذاكرة هنا هي المعرفة وليست ماضياً، او استحضاراً له، وانما هي في اظهار ما كان خفياً، وتقريب ما كان بعيداً، وجلاء ما كان غامضاً.
المدرسة ليست مجرّد مؤسسة، وإنما هي قبل ذلك حركة. أفراد يعلِّمون، وأفراد يتعلّمون. نهر بشري يتدفق بلا انقطاع، ودون توقف، فاتحاً ضفافه على الاتجاهات جمعاء.
المدارس الكاثوليكية لديها 36 ألف طالب مجاني، ولا تشكو ولا تعجز.
المبرات الشيعية وغيرها من المدارس الجدية الشيعية لديها 16 ألف طالب بالمجان وخير أهلها كاف لتعليمهم وتحقيق نتائج علمية ممتازة.
عذراً للمقارنة… هي عن محبّة وتقدير.
كانت المقاصد تستند الى حائط كبير هو الرئيس صائب سلام رحمه الله، جلب لها المساعدات من الدول العربيّة وعلى رأسها الكويت
والمغرب وقبل تلك وأهمها السعوديّة. ثم اتكأت على حائط أكبر هو الرئيس الشهيد رفيق الحريري قبل وجود “تمّام بيك” على رأس المقاصد وخلاله حتى استقالته بعد سقوطه في إنتخابات العام 2000. فمن لم يحصل على ثقة ناخبيه البيارتة لا يجوز له رئاسة المقاصد بحسب وجهة نظره.
لكن هذا أصبح من الماضي البعيد. خرجت السياسة من المقاصد قولاً وفعلاً . ولم يعد من تختلف معه أو تتفق، الا على الخير. انتفت الحساسيات الشخصية لمن يدّعيها في ابتعاده عن المقاصد.
العجز يكبر. آخر مرّة تبرّع فيها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، شفاه الله، للمقاصد كان قبل عشر سنين أو أكثر
وبمبلغ عشرة ملايين دولار.
الرئيس الشهيد رفيق الحريري تعهّد علناً سداد نصف الدين البالغ 70 مليون دولار في ذلك الحين.
هل تحقق ذلك؟
رئيس الجمعيّة لا يجيب عن هذا السؤال. ويترك الجواب لرئيس الوزراء المكلّف فؤاد السنيورة.
تعوّد المسلمون القادرون على أن رفيق الحريري يقوم عنهم بما يجب عليهم القيام به.
الرئيس الحريري استشهد.
هل أخذوا علماً بذلك؟ عليهم من الآن فصاعداً الاعتماد على أنفسهم لما فيه خير مجتمعهم بعيداً من السياسة. الخير في عائلة الحريري لا يزال على حال والدهم. لكن المسؤولية على الآخرين لا تنقص.
محمد بركات
هل انتظرت بيروت الرئيس الشهيد حتى أكرمه الله في السعودية بعد عمل وجهد وصدق وأمانة؟ هل انتظرته حتى بَنَتْ مؤسساتها الخيريّة والتعليميّة؟
أبداً. حتى عام 1980 كانت كل المؤسسات على انتظامها عملاً
وتقديمات وخدمة لمجتمعها.
عشرات من السنوات مرّت على قيام مؤسسة محمد خالد الطبيب البيروتي الذي خصّ السياسة بجزء يسير من وقته وترك الباقي كله لعمل الخير بما فيه جنى عمره.
دار العجزة. جمعية العناية بالطفل والأم. مؤسسات دار الأيتام الإسلامية التي تجد فيها الخير والورع والإدارة الذكية القادرة والحديثة.
تختار أحلى الألوان. أكثر العناوين بساطةً وقدرةً على الإقناع. كأنها مسؤولة عن فرحة بيروت في شهر رمضان.
من لا يعرف الاسم؟
محمد بركات. الذي كلّما تراه تطمئن أكثر الى حياة الأيتام. في عينيه بريق المسؤولية وحِدّة ألوانها. وفي حديثه حقّ الأيتام في كرامتهم. وفي عمله لمعة القادر على قلوب المتبرّعين وجيوبهم.
العائلات البيروتيّة ترث عن أهلها أسماء المؤسسات التي تتبرّع لها. لكن لا لائحة من دون دار الأيتام.
دار العجزة. الجامعة العربيّة (البرّ والإحسان). حتى دار الإفتاء، أي صندوق الزكاة. وغيرها الكثير من الأسماء التي لا أذكرها الآن.
كلّها عاشت لعشرات وعشرات السنوات. في بيروت. في صيدا. في طرابلس. كلّها قامت بجهد أهلها. بعرق جبينهم. بإيمانهم. بتقواهم. بورَعهم. باحتساب الآخرة قبل الدنيا.
ماذا حدث لأهل هذه المدينة. هل تغيّروا؟
هل تغيّر هواؤها؟ هل تغيّرماؤها؟
لا شيء من هذا. كلّ ما في الأمر انه ما دخلت السياسة مكاناً إلا
أفسدته، فكيف بمؤسسة تعليميّة وطبية وخيرية؟
كان الدخول تطوّعاً الى مجلس أمناء المقاصد مدخلاً الى دور في الشأن العام. الآن قريطم هي المدخل. يهتمّون بك هناك مادياً
ومعنوياً.
غادرت السياسة ملعب الفاروق. كذلك كلّية البنات.
وبيت الأطفال. وثانويّة الحرش. وكل ملاعب المقاصد.
وغرفة عملياّت مستشفاها .
ليعد الناس إلى هِمَّتهم. إلى الدفاع عن مستقبل أولادهم. عن اعتدال إسلامهم. عن فخرهم بدينهم، حيال ما يفعلون لمؤسساتهم، عِلماً وطبابة.
في شوارع بيروت القديمة. كما في صيدا، كذلك في طرابلس، هناك محمّد خالد آخر، وعبد القادر قبّاني آخر، وكبير آخر من آل الحوري وصائب سلام، وربّما أكرمنا الله برفيق حريري آخر.
لا يزال الخير مقيماً في هذه الأزقّة والشوارع. فما علينا الا أن نكتشفه. وسنفعل.
السعودية؟
هذا سؤال تصعب الإجابة عنه. لكن النقاش حوله مسموح.
ديوان الأمير عبد الله وليّ العهد وزعيم الشهامة العربية وراعي الإعتدال العربي، يشهد الكثير من المنازلات الكلامية. نريد حصّة منها!
عجز المقاصد لا يساوي ثمن إرهابي من لائحة تضم 37 إرهابياً، بينما لائحة المقاصد تضم اثني عشر ألف مسلم معتدل وفقير.
العين المحبّة للبنان في وجه الأمير سلمان بن عبد العزيز سهت؟ أين رعايته للاعتدال؟ اين محبته للمقاصد وتقديره لاعتدالها؟
هو ملجأ اللبنانيين وموئل شكواهم. محبتهم له وتقديرهم يعودان الى عشرات السنين وهو ما خيّب أملهم أبداً.
روى الرئيس نجيب ميقاتي عن حفل الغداء الذي أقامه الامير سلمان له في زيارته الأخيرة الى السعودية. ضيف الشرف في حفل الغداء كان النجل الأصغر للأمير سلمان وعمره دون العشر سنين.
كان الأمير الصغير مريضاً، لكنه أصرّ على مغادرة فراشه لحضور الغداء. يريد مقابلة رئيس وزراء لبنان.
ألا يقولون خذوا أسرارهم من صغارهم؟
عبد العزيز بن فهد أمير الإسلام المعتدل، تزهو به بيروت عندما يزورها، وتبتسم له قمم جبال لبنان عندما يرتاح فيها.
الكرم في ديوانه مقيم وليس زائراً. كابراً عن كابر كما يقول الشعراء. يحيط نفسه بالعقلاء والحكماء من كل دولة عربية.
هو طالب معرفة. فهل يبخل بالعلم على طلاب المقاصد؟
أين الجهد الذي تبذله مؤسسة الأمير الوليد بن طلال في لبنان من جمعيّة المقاصد؟
أعرف رأي الأمير الوليد في أن المقاصد جزء من اشتباك سياسي لا يريده. لكن الأمور اختلفت الآن. وهو هادن وسالم.
الحاجة أصبحت أكثر من مُلحّة.
فكيف بمسألة بحجم المقاصد الإسلامية؟
أين السفير الدكتور عبد العزيز الخوجة الموثوق والمحبوب من اللبنانيين والسعوديين، وقد مضى على وجوده في لبنان أشهر، فإذا به كأنه هنا منذ سنوات. دماثة خلق وصدق ومتابعة دقيقة
وجدّية لكل المسائل التي تهم البلدين وتحترم العلاقة بينهما.
وقبل ذلك كله، الإعتدال في كل المواضيع، وبُعد عن الخلافات
والإشتباكات.
يُقال إن للسفير السعودي مهمةً في لبنان هي تحقيق احسن العلاقات لبلاده، ورسالة هي الحرص على استمرار المؤسسات الإسلامية ورعاية نجاحها.
روى لي الرئيس الشهيد رفيق الحريري ان مقاصد صيدا تأسست ونمت وكبرت بسبب “بيك” من آل الجوهري كان يقف عند باب المسجد كل يوم جمعة، وإلى جانبه تنكة حديد.
وبنظرة منه كان المصلّون يخرجون من جيوبهم القروش وربع الليرة، عملة ذلك الزمان، ويضعونها في التنكة.
هكذا تعلّم أولاد صيدا ومنهم الرئيس الشهيد بسبب جهد “البيك” وقرش الفقير. الى أن أكرم الله الرئيس الشهيد في السعودية فكان أوّل ما فعله أن أعاد بناء المدرسة التي تعلّم فيها.
وهذا بالتاكيد حال مقاصد بيروت في نشأتها على يد الشيخ عبد القادر قباني.
لم أشعر أبداً انني أسمع رواية، بل حكاية فخر لا يعادلها أي فخر آخر إلا الـ 36 ألف طالب الذين علّمتهم مؤسسة الحريري.
طيّب الله ثرى الرئيس الشهيد.
هل كان النبي محمد “ص” يصعّب الأمر على المسلمين حين قال لهم “اطلبوا العلم ولو في الصين”؟ بالتأكيد لا، ولكنه جزم بالحاجة الى العلم في آخر الدنيا على ايامه.
بالمناسبة نحن هنا نتحدّث عن بيروت وليس عن الصين.
ربع الفقير هو الأساس.
أكثر إيماناً.
أشدّ وقعاً…
ما رأي مجلس أمناء المقاصد، لو وقف كلّ منهم مع تنكة حديثة عند باب مسجد فننتفع بوجاهته لإقناع المصلّين بالتبرّع؟