“ماجد كيالي كتب في “الحياة”: “ما بين القضيتين الفلسطينية والسورية

اخترت لكم 26 سبتمبر 2016 0

تختلف القضية الفلسطينية عن القضية السورية، وهذه بداهة. فنحن في الأولى إزاء مجموعة سكانية حلّت في البلد، خلال نصف قرن، بوسائل الهجرة والاستيطان الواعي والمنظّم والمؤدلج، بفضل جهود الحركة الصهيونية، وبمساعدة سياسية ومادية وعسكرية من الدول الاستعمارية، آنذاك، بحيث تمكّن هذا التجمّع من إقامة دولة خاصة به في العام 1948، بعد أن تأمنت له أسباب النجاح الذاتية، كما العوامل الداخلية والإقليمية والدولية، وبعد أن شرَّد ثلثي الفلسطينيين. أما في الحال السورية، فنحن إزاء نظام تسلّطي قفز إلى الحكم بواسطة انقلاب عسكري في العام 1970، واستطاع بوسائل القوة والهيمنة وبطرق الإكراه والترهيب والإفساد والترغيب، مع ادّعاءات أيديولوجية وسياسية، السيطرة على الدولة والمجتمع السوريين، وتهميشهما، لمصلحة طغمة حوّلت النظام الجمهوري إلى وراثي، تتحكّم به الأسرة الحاكمة التي نجحت في إضفاء طابع طائفي معيّن على أجهزة الحكم والسيطرة والدعاية والتعليم، عبر توظيف الطائفة، أي استغلالها، من دون أن تكون في الحكم حقاً.

بيد أن الفارق في الحال الأولى أن الفلسطينيين وجدوا أنفسهم إزاء حال غزو خارجي هي جزء من الغزو الاستعماري الاستيطاني الحاصل في تلك الحقبة في العالم، ما نجم عنه اغتصاب حقوقهم في الأرض والموارد والحقوق والمستقبل والهوية، في حين أن السوريين وجدوا أنفسهم إزاء حال اغتصاب داخلي، إذ نجم عنه، أيضاً، اغتصاب دولتهم ومواردهم وحقوقهم وحرياتهم ومستقبلهم، بل إن المغتصب تعامل معهم كأنهم بمثابة «خارج» بالنسبة إليه، ولو بعبارات أخرى على شاكلة اختصار الوطن والوطنية بذاته. هكذا، مثلاً، أضحى الوطن «سورية الأسد» إلى الأبد، وغيّب كل شيء عداه، إذ أضحى هو الشعب والأمة والحاضر والمستقبل، وهو المهندس الأول والمعلم الأول والطبيب الأول والطيار الأول، كأن سورية ما كانت ولا كان سوريون من قبله مع سردية جديدة لتاريخ البلد ومعناه فكل شيء ينبع من الأسد القائد والباني.

ولعل هذا يذكّرنا بإسرائيل التي تعاملت مع الفلسطينيين، أي أصحاب الأرض الأصليين، باعتبارهم طارئين على المكان والزمان في بلدهم، واعتبار اليهود الإسرائيليين أصحاب الحق الأصلي في فلسطين – إسرائيل، بل وأصحاب وعد إلهي، باعتبارهم أن فلسطين هي «أرض الميعاد» بالنسبة إليهم. وهذا حصل، أيضاً، في اعتبار النظام أن هذه «سورية الأسد»، إذ تمّ تمثّل هذه العبارة في احتلال الفضاء العام، وبإزاحة السوريين إلى الهوامش، بتغييبهم أو بتنميطهم أو بإخفاء أصواتهم وصورهم وطمس حكاياتهم، تماماً كما حاولت إسرائيل مع الفلسطينيين. هذا حصل على نحو أكثر انكشافاً بعد الثورة بمحاولة النظام إخفاء أصوات السوريين، والتشكيك في تمردهم عليه بإحالة الأمر إلى مؤامرة خارجية، ثم بمحاولته إزاحتهم من المشهد، بالتمويت وبالحصار وبالتغيير الديموغرافي وبتصوير الأمر على أنه تعبير عن نزعة طائفية وحرب دينية، في محاولة منه لمحو الشعب السوري أو غالبيته من الخارطة السياسية والحقوقية والأخلاقية، ومن الضمير العالمي، كأن السوريين ليسوا شعباً بعد أو كأنهم مجرد مقيمين لا يستحقون أي حقوق، تماماً مثلما حصل مع الفلسطينيين ولا يزال.

في نكبة الفلسطينيين، قامت الجماعات الصهيونية العسكرية («الهاغاناه» و «إيتسل» و «شتيرن») التي شكّلت فيما بعد عماد الجيش الإسرائيلي، بارتكاب مجازر مروعة عدة ضد الفلسطينيين الذين كانوا متروكين وحدهم بعد رحيل الانتداب البريطاني وفي ظل ضعف وتواطؤ وتفرق النظام العربي في حينه، والذين لم يكونوا مستعدين، وما كانت لديهم أسلحة تمكّنهم من الدفاع عن أنفسهم، ولا كانت لديهم قيادة، لا سيما بعد إجهاض ثورة 1936-1939 من جانب القوات البريطانية، ما رجّح كفّة العصابات الصهيونية، وكان من نتيجته تشريد حوالى مليون فلسطيني، وهو عدد هائل بمعايير تلك الفترة، (ثلثا الفلسطينيين).

وفي حينه، أي بعد قيام إسرائيل في أواخر أربعينيات القرن الماضي، أصدرت المنظمة الدولية قرارات عدة، منها القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين، والقرار 194 القاضي بحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين، والقرار 273 القاضي بعدم الاعتراف بإسرائيل إلا بعد موافقتها على القرارين المذكورين، لكن العالم الذي كان مقسوماً وقتها إلى معسكرين، بزعامة روسيا والولايات المتحدة، غضّ النظر عن كل الكوارث التي حاقت بالفلسطينيين، إذ اعترف بإسرائيل وقدم لها الدعم، في ظل نظام عربي متهلهل.

لا أظن أن ثمة حاجة إلى مراجعة سيرة قضية الفلسطينيين مع النظامين الدولي والعربي، إذ عربياً تمّ استخدام وتوظيف قضية فلسطين كوسيلة لنيل الشرعية في العالم العربي، وكغطاء لمصادرة الحقوق والحريات ونهب الموارد بادعاء التركيز على مواجهة إسرائيل، القضية المركزية. وفي حين تمّ تقديس قضية فلسطين لأغراض سياسية، تمت مرمطة الفلسطينيين وامتهان كراماتهم.

هذا يحصل، أيضاً، في حال السوريين، إذ إن مصرع مئات الألوف وتدمير أحياء ومدن، وحصار مناطق بأكملها، وتشريد أكثر من نصف السوريين داخل البلد وخارجه، لم تحرك شيئاً تقريباً في النظام العربي السائد، ولا حتى في المجتمعات العربية، بل ثمة من يلوم السوريين على تمردهم على واقع الاستبداد، وقد تفاقم ذلك مع ظواهر معاداة السوريين الضحايا وعدم الاكتراث لمصيبتهم والحط من مكانتهم كبشر، لدرجة أن مجتمعات أوروبية كثيرة أبدت تعاطفاً أكبر بكثير مما أبدته بعض المجتمعات العربية، ناهيك بالأنظمة التي وظفت قضية اللاجئين الذين «أنعمت» عليهم بالعيش في مخيمات يرثى لها للدعاية ولاستدرار الدعم المالي من الدول الغربية.

على الصعيد الدولي أيضاً، لم يكن وضع السوريين أفضل حالاً من وضع الفلسطينيين، فالنظام الدولي، لا سيما بمعيّة الولايات المتحدة وروسيا، الذي تسامح مع المجازر الصهيونية وتشريد الفلسطينيين وتخريب عمرانهم وسكت عن كارثتهم، وأوجد لهم مجرد وكالة «غوث»، هو ذاته الذي تسامح مع مجازر النظام السوري ضد شعبه، وضمن ذلك تدمير عمرانه، وتشريد أكثر من عشرة ملايين إلى دول الجوار، وباقي المعمورة، وهو الذي ما زال يسكت وفقط يعبّر عن القلق إزاء كارثته وعذاباته غير المسبوقة في العالم، إذا استثنينا تنصيبه مبعوثين دوليين لمتابعة القلق حول هذه القضية.

في قضية فلسطين، كان لسان حال النظام الدولي والولايات المتحدة الأميركية وروسيا أن لا حل عسكرياً للقضية الفلسطينية، وأن حقوق الفلسطينيين يمكن أخذها عبر عملية سياسية، وبواسطة التفاوض بين الطرفين، وهذا ما يحصل في حال السوريين، وأيضاً، من دون أن يبذل المجتمع الدولي أي جهود للضغط على النظام، لا بالقوة الخشنة، ولو إلى حد شل آلته العسكرية، ووضع حد للمجازر والقصف بالبراميل المتفجرة وبالصواريخ الفراغية، ولا بالقوة الناعمة، أي بوسائل الضغط والحصار السياسية والاقتصادية.

الأخطر من ذلك أن النظام الدولي الذي تجاهل جوهر قضية فلسطين، باعتبارها تتعلق بحرمان شعب من أرضه وهويته وحقه في تقرير مصيره، اعتبرها مجرد قضية إغاثة إنسانية، ثم مجرد قضية إقامة كيان سياسي في جزء من أرض لجزء من الشعب، يتعامل الآن مع قضية السوريين باعتبارها قضية إنسانية، وليس باعتبارها قضية سياسية أو قضية شعب يريد حريته وحقوقه مثل أي شعب آخر.

واللافت أن قضيته اختزلت إلى مجرد إدخال مساعدات إلى المناطق المحاصرة بدل الضغط من أجل إنهاء الحصار، وباعتبارها قضية استيعاب للاجئين وتنظيم لتدفقاتهم إلى هذه الدولة أو تلك، أو استيعابهم هنا وهناك، بدل وضع حد للتهجير القسري، أي أنه في الحالين الفلسطينية والسورية تم التعامل مع مظاهر القضيتين بمنأى عن معالجة الأسباب التي نجمت عنها.

من ناحية أخرى، ومثلما اعتبر النظام الدولي، خصوصاً الدولتين الكبيرتين، أن أي حل للقضية الفلسطينية ينبع من طاولة المفاوضات، ووفقاً لرضا الطرفين، ما يعني أنه يجب أن يحظى برضا إسرائيل الطرف المستعمر والمهيمن والمعتدي والظالم، وهذا غير ممكن طبعاً، فإنه اعتبر المفاوضات بين النظام والمعارضة، رهناً بموافقة الطرفين، أي من دون أي ضغط على النظام، ما يطيح حتى المرجعية المفترضة التي تجرى على أساسها المفاوضات وهي بيان «جنيف 1» وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة. بل بلغ الأمر حد مطالبة السوريين بنسيان الكوارث التي حاقت بهم بسبب وجود هذا الرئيس، والقبول باستمراره في المرحلة الانتقالية، وكأن المرجعية الدولية المفترضة مجرد حبر على ورق، وهو الأمر الذي حصل بتآكل مرجعية القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية.

قصارى القول، نحن إزاء قضيتين مختلفتين، لكن أوجه التشابه بينهما جد كبيرة ومدهشة، وهذا يشمل التشابه الذي يدعو إلى المرارة والأسى، بين مشاكل وأخطاء وارتهانات حركة التحرر الفلسطينية والمعارضة السورية، وهذا موضوع آخر.

ربما يجدر أن نذكر الآن، أن وجود إسرائيل على حدود سورية هو أحد أهم العوامل التي تحكمت بالموقف الدولي، ولا سيما الأميركي، المتخاذل سياسياً وأخلاقياً تجاه كارثة السوريين وحقوقهم. ولعل إسرائيل هي القطب المخفي في التعقيدات الحاصلة في الصراع السوري (والعراقي)، لناحية أن خراب هذه المنطقة يجعل إسرائيل في بيئة آمنة لعقود، كما أنه بالنسبة إلى الولايات المتحدة بمثابة ساحة لاستنزاف القوى الأخرى. كان الله في عون السوريين.

* كاتب فلسطيني – سوري

للكاتبTags not available