ليلة العاطفة

مقالات 18 يونيو 2007 0

 
انتهت  المهلة المعطاة من مجلس الأمن الدولي لنفاذ قرار إنشاء المحكمة الدولية المختصة بالاغتيالات السياسية وأولها جريمة اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري, وأصبح القرار ساري المفعول.
المحكمة الدولية هي الأولى من نوعها لأنها تنظر في جرائم فردية سياسية. والرابعة في العالم من حيث إنها تعمل بموجب الفصل السابع من نظام الأمم المتحدة. أهم ما فيها، “رمزيتها” التي تفتح للعدل بابا وتعطي للحق السياسي مكانا لم يعرفه جيلنا من قبل.
استحق قادة الأكثرية اللبنانية “الفرحة” بما وصلوا إليه. غادروا دواوين الحزن. تذكرّوا أنهم أقدموا سلما دون تردد أو تراجع أو حتى تمهّل. وأن أعزاء عليهم سقطوا على الطريق . 
اختار سعد الحريري سلوك طريق العاطفة ليلة “فرحته الثانية” بالأمس .فهو قبل تمثيله السياسي صاحب الدمعة التي ما كان في الحسبان أن يحجبها في تلك الليلة.
أخذت السياسة مكانا قصيا رغم الدعوات إلى الحوار السياسي التي تكررت على لسانه.
بكت السيدة نازك رفيقة نجاحات الرئيس الراحل وحاملة أوجاعه وأحزانه وأسراره ومخزن أفراحه. بكت في لندن حيث كانت حين وصلها نبأ القرار الدولي. تأكّدت عندئذ أن سهر لياليها ودعائها لم يذهبا سدى.
حصل مثل ذلك مع السيدة بهية الحريري المكسورة القلب، الشامخة الجبين.
اختار فؤاد السنيورة ، رئيس الوزراء اللبناني وعشير الرئيس الحريري، طريق الواقعية سبيلا للحديث ففاجأ عارفيه قبل خصومه بقدرته على تجاوز ما قاله غيره وقاله هو، استطاع أن يظهر لمن لم يتوقع أن يسمّيهم من خصومه السياسيين في “ليلة العاطفة” أنه قادر على التوجه إليهم مباشرة وقول ما لم ينتظروا سماعه منه.
انتحى وليد بك جانبا, تاركا لآل الحريري ومن لف حولهم، ليلة العاطفة. مضيفا بذلك إلى رصيده جديدا. أمسك جنبلاط بترفّعه الشكلي في تلك الليلة ممضيا سهرته محاطا برفيقه الدائم أي القلق. صار مثل المتطيرين الذين يرفضون الحديث عن الحدث السعيد لربما أصابهم الحسد.
هذا في الشكل السياسي لصورة الثلاثي السياسي الحريري، جنبلاط، السنيورة. إلا أنه في الحقيقة رباعي. يقف البطريرك صفير على زاويته الرابعة بعد عودته من زيارته الأخيرة إلى الفاتيكان ليحمل الشمعة السياسية مضيئا درب اللدودين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع 
هذا لا يعني التزامهما بما يراه البطريرك صالحا لخير لبنان وضمانة استقلاله، ولترسيخ الوجود المسيحي حيث هو بدلا من فقدانه. لكن من الواضح أن البطريرك صفير يحوز إجماعا داخليا وخارجيا على اعتداله وتأييدا لواقعيته. ومن يريد مخالفته من القيادات المسيحية لن يجد أذنا صاغية لآرائه.
يمسك الرباعي اللبناني بقرار مجلس الأمن الخاص بالمحكمة الدولية وهو يناور في سياسته الداخلية حكوميا بعد أن صارت المحكمة من ماضي القرارات مبدئيا. ويلوّح بالقرار 1559 المنفذ منه خروج الجيش السوري من لبنان بموجب أحد بنوده، ويستقر على القرار 1701 الراعي لانتشار قوات الطوارئ الدولية على الحدود اللبنانية الإسرائيلية والمطالب بحصرية السلاح في يد الدولة اللبنانية.
تتابعهم حكمة العاهل السعودي من الجانب العربي وجهد فرنسي “منفتح” مع الرئيس الفرنسي ساركوزي.

من المبكر إصدار الأحكام على القراءة السياسية للرباعي بعد قرار المحكمة. إلا أن مراجعة هادئة لحركة الرئيس نبيه برّي السياسية منذ الاعتداء الإسرائيلي في يوليو الماضي حتى الآن تؤكد بما لا يقبل الشك – إلا لمن يريد اتهاما – أن رئيس المجلس حرص بكل ما لديه من قدرات على تمرير الحوار ما بين قوى 14 مارس وقوى الثامن من الشهر نفسه.
في الوقت الذي يقف فيه لبنان على خط زلازل المنطقة الحبلى بانفجار لا بد أن يحصل على جبهة ما. سجل تاريخ النظام اللبناني للمرة الأولى منذ قيامه تجاوزين كبيرين لا سابق عهد له بمثلهما، الإنجاز-التجاوز الأول هو المواجهة السياسية الدولية في مجلس الأمن مع النظام السوري وكسر إرادته بعدم التصويت على المحكمة الدولية. وهو ما لم يحصل رغم امتناع 5 دول عن التصويت أهمها روسيا والصين.
أما الإنجاز-التجاوز الثاني فهو قرار المواجهة المسلحة مع تنظيم أمني-إرهابي على علاقة عملانية مع أجهزة الأمن السورية. فللمرة الأولى منذ عام 87 اتخذت الحكومة اللبنانية قرارا نفذه قائد الجيش العماد ميشال سليمان بحكمة ووعي واحتراف ، بالدخول في حرب “مربعات” في مخيم نهر البارد للقضاء على ما يسمى بتنظيم “فتح الإسلام”.
السيد حسن نصرالله أعرب مرات عدة عن مدى الالتزام الوطني للجيش اللبناني في كل ما طلب منه وما عمل عليه. والرئيس السنيورة عاد إلى الاعتراف بفضل سواعد المقاومة في تحرير الأرض وسعد الحريري مدّ يده “البريئة” للحوار ، ووليد جنبلاط تحدث عن صيغة لسلاح المقاومة تشبه بما حدث للجيش الأيرلندي الذي احتفظ بسلاحه ولكن وفق ترتيبات وضعت إطارا تدريجيا رسميا له.
لن تغيّر هذه الوقائع المفترضة لمرحلة ما بعد إقرار المحكمة من أن أحدا لم يقدم على الخطوة الأولى حتى الآن، ما عدا السفير السعودي في لبنان.
السفير عبد العزيز الخوجة لا يتعب من المبادرة، وكلما وقعت مبادرة من يده، همّ بالثانية شارحا فضائلها لكل من يقابله من المسؤولين. يعلم السفير الخوجة أن مفتاح الاستقرار السياسي المطلوب لانتخابات رئاسة الجمهورية هو الوضع الحكومي. وأن مهمته تقوم على تسهيل مخرج للمعارضة لكي تنسحب من الاَضطراب الأمني والسياسي، وليس تأمين رصيد جديد للأكثرية على طريقة بيانها الأخير الذي دعا إلى وفاق حكومي بعد انتخاب الرئاسة.
لذلك تحرّك السفير الخوجة في ثلاثة اتجاهات: الأول: تتولاه قيادته في الرياض بالاتصال مع الإيرانيين. الثاني: مع السفيرين الفرنسي والأمريكي في بيروت. والاتجاه الثالث مع سعد الحريري ووليد جنبلاط. الصيغة تعود إلى الماضي الطبيعي للتسويات أي توسيع الحكومة بحيث تكون السعودية هي الضامنة لعدم صدام ثلثي الأكثرية بثلث المعارضة.
صار للسفير خوجة من التجربة السياسية اللبنانية ما يشجعّه على القول إنه ليس هناك من عادل قادر في الفهم السياسي للصيغة اللبنانية، لا يعرف أن ما هو مقرّر دوليا للبنان في خريطته السياسية الجديدة، لا يقوم إلا بتفاهم في الداخل. مهما عظمت قوة القرار الدولي ومهما صغرت أحجام أطراف الداخل. فكيف إذا كانت الجهة المعنية بهذه الخريطة أي “السنية السياسية” ليست مصابة بعقدة الأقلية. ولا حزن الغربة. ولا احتمال فقد المولى والمرجع والمورد؟
يستطيع وليد بك أن يقول إنه رصف عقد الاستقلال اللبناني حجرة، حجرة. وأنه حجز لنفسه مكانا دائما في تاريخ لبنان الحديث في القرار الأخير لمجلس الأمن. ويقدر سعد الحريري أن يدّعي أن التحاقه المتأخر والاضطراري بركب السياسة اللبنانية لم يمنعه من قياس حجر العقد اللبناني نفسه. إلا أن هذا العقد لن يكتمل ما لم توضع فيه أحجار “الحزب” و “الحركة” بما هما تمثيل للشيعة اللبنانيين . ما لم تحدث هذه الإضافة الطبيعية يكونان – أي جنبلاط والحريري – كمن يحاكم نفسه، لا ما فعله الآخرون به. ألا يستحق كل هذا ليلة من “العاطفة” ولو دولية ؟