“لوثة” واشنطن ( 3\3 )

مقالات 03 يناير 2007 0

واشنطن…
سمعت الكثير عن تأثير مراكز التفكير الأميركية اليهودية بمفاصل القرار في السياسة الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط. لكن المشاركة في ندوة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط التي نظمتها مؤسسة واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، اكدت لي ان ما سمعته هو جزء من الحقيقة وليس كلها.
لذلك طلبت من مدير المؤسسة روبرت ساتلوف ان أكون آخر المتحدثين في جلسات ثلاث عقدت خلال يومين في مقر المؤسسة.
لم يبدُ على ساتلوف انه فوجئ بتوقيتي إذ انني لبيت طلبه بإلقاء محاضرة عن لبنان جرى بعدها النقاش مباشرة مع حضور متنوع. تحدثت فيها وديفيد شانكر القادم من زيارة الى بيروت قابل فيها عدداً كبيراً من المسؤولين والسياسيين. نص الكلمتين في مكان آخر .
شانكر كان مستشاراً لوزير الدفاع الاميركي حتى أواخر عام 2005 .عمل على ملفات سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ونجح الى حد منحه ميدالية الدفاع للخدمات المدنية التي أداها قبل ان يترك الوزارة ليعمل في المؤسسة.
يضع على حائط مكتبه الصغير صورته مع رامسفيلد الوزير المستقيل منذ اسابيع وإلى جانبها شعار احدى الفرق المقاتلة في الجيش الاردني. اقترب من الصورة ليثبتها بعد ان تحركت قليلاً. همس بصوت مسموع: إنني آسف عليه، مشيراً الى رامسفيلد. لم يبدُ في كلامه حنين الى سنوات من العمل مع الرجل. بل بدا انه فرح لأنه تركه في الوقت المناسب.
***
دخل ساتلوف علينا دون سابق إنذار. حمل كرسياً لنفسه من مكتب مجاور وجلس يحدثني عن لبنان. كان متأكداً أن رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة سيقع تحت ضغط هجمات المعارضة واعتصام جمهورها. حين أكدت له العكس باعتبار أن السنيورة يشعر بحماية حقيقية من جمهور آخر لا يقل اهمية ولا تأثيراً من حزب الله فضلاً عن اعتبار الدول العربية الكبرى والغنية أن وجوده في السرايا الكبيرة هو امر لا يجوز السماح بتجاوزه تحت أي ظرف من الظروف.
حين أكدتُ له ذلك. بدت عليه الدهشة وتمنى دون حماس أن أكون على حق.
ساتلوف هو راهب المؤسسة، يديرها بحرص المدير الراغب في نجاح تلامذته. وإن كان بعضهم يفوقه معرفة وصلة بالأوضاع في المنطقة التي يعمل عليها. رجل قصير القامة. لحيته خفيفة. ملتزم فعلياً بطقوس دينه اليهودي. يستقبل ضيوفه بلطافة. يوحي لهم ببساطة دوره القائم على تنظيم الندوات وإدارة الحوار حولها. لكنك في اليوم التالي لمعرفته تكتشف أنك تتعامل مع رجل عميق منظم الى درجة الدقة. متكتم يختار ما يناقشك فيه، ولا يدعك تجرّه الى نقاش لا يريده.
في سيرته الذاتية انه خبير في شؤون العرب والمسلمين. ألّف تسعة كتب اهمها حرب الأفكار بين الإرهاب والسياسة الخارجية الاميركية في الشرق الأوسط . آخر كتبه عن دور العرب في دول شمال افريقيا في إنقاذ اليهود من الهولوكوست النازية على حد تعبيره. وكان لجهده الأثر الكبير في إلزام ألمانيا بدفع تعويضات للناجين اليهود من معتقلات شمال افريقيا.
درس ساتلوف في جامعة هارفرد حتى نيله شهادة الماجستير. ثم حاز شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة سان أنطونيز.
لا تسمع له صوتاً. لكنه صاحب القرار الهادئ وسط اكبر عدد ممكن من النافذين والمفكرين في كل الادارات السيادية الاميركية.
***
يواجه ساتلوف في مقاله الأخير نسيان نظريات الدومينو تقرير بيكر هاملتون بحدة تصل الى حد اتهام معدّي التقرير بنسيان تاريخهم. ويذكر بيكر بالجهود التي قام بها منذ 15 سنة بعد النجاح الاميركي في حرب الخليج والتي لم تتوصل الى إحلال السلام في الشرق الأوسط.
جاءت الجلسة الأخيرة للحوار لتجعلني متأكداً من أمرين. الاول ان البحث تجاوز المنطقي والمعقول في الجانب الأمني، باعتبار ان الإرهاب مسألة أمنية فقط ولا تحتاج معالجتها إلا الى تعاون بين الدول المعنية حتى ينتهي الامر. وهي نظرية ساتلوف التي تقول بعدم وجود روابط بين ازمات دول المنطقة وبين الصراع العربي الإسرائيلي. وتحمل هذه النظرية على تقاعس الدول العربية عن أداء دورها الأمني المطلوب. الأمر الثاني ان الحوار كله لم يتطرق الى الدور الإسرائيلي إلا في الموضوع النووي، وبالتالي فإن اسرائيل تقوم بواجبها الدبلوماسي في هذا المجال. ولا ضرورة لربط هذا الموضوع اي النووي الإيراني بأي موضوع آخر.
شاورت رئيس الوزراء الاردني السابق فايز طراونة، الذي كان اكثر المتحدثين انتقاداً للسياسة الاميركية في الشرق الاوسط حين خرجنا من مبنى المؤسسة للتدخين على الطريق العام، فوافقني الرأي على تجنب جميع الحاضرين الحديث عن الدور الاسرائيلي المعطل لعملية السلام. وقال لي لقد اعطاك ساتلوف في الجانب اللبناني ما يكفيك من الحديث عن إسرائيل، فلا تطلب منه ما لا يتحمله.
***
في الجلسة الختامية تحدث الدكتور عبد الله الشايجي، استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت والدبلوماسي السابق. عبّر الشايجي عن المخاطر الأمنية التي يشعر بها أهل دول الخليج العربي من المشروع النووي الايراني. محركاً يديه وعينيه لتأكيد مدى الخوف من وجود مفاعل بوشهر الايراني النووي على بعد 150 ميلاً من الشاطئ الكويتي. بينما يبعد المفاعل خمسمئة ميل عن العاصمة الايرانية.
تحمّسً الخبير الكويتي في السياسة الاميركية الى حد اعتبار دول مجلس التعاون الخليجي كلها تعيش حالاً من القلق لا يجوز تجاهله من الادارة الاميركية. مذكراً الحاضرين بمقال كتبه رجل الاعمال الكويتي ناصر الخرافي في النيويورك تايمز عن السياسة الاميركية في الشرق الأوسط وتداعياتها على دول المنطقة. مع العلم ان كاتب المقال شقيق رئيس مجلس الأمة الكويتي جاسم الخرافي.
***
أخيراً جاء دوري في الكلام. سبب لي حديث الدكتور شايجي عن دول مجلس التعاون توتراً لم استطع اخفاؤه. اعطاني مدير الجلسة دنيس روس الكلمة فقلت: سمعت الكثير من الأسئلة الأمنية وافتراضات عسكرية وكأن في منطقة الشرق الأوسط ليس هناك من ازمة إلا الإرهاب. راقبت الC.N.N قبل ان آتيكم اليوم. رأيت اعتصاماً في فيتنام احتجاجاً على زيارة الرئيس بوش إليها. كان هناك آلاف من المعتصمين جالسين على الأرض بهدوء آسيوي. فجأة رأيت واحداً منهم يلوح بعلم. إنه علم فلسطين. انهى المذيع دهشتي بالقول أن هناك 18 ألف معتصم من الفيتناميين المسلمين يطالبون بالعدل للشعب الفلسطيني. لقد اظهرت الحرب الأخيرة الإسرائيلية على لبنان ان اندونيسيا تستقبل الرئيس الإيراني باعتباره عاملاً لتحقيق أهدافها وترفع له علم فلسطين ايضاً. وفي مصر ودول عربية اخرى ذات اغلبية إسلامية سنية ساحقة قامت مظاهرات تحمل صور السيد حسن نصر الله وإلى جانبها العلم الفلسطيني وليس العلم اللبناني بسبب دور حزب الله في التصدي للاعتداء الاسرائيلي على لبنان في شهر تموز الماضي.
هذا يوضح أن هناك علماً مقدّساً مشتركاً للمسلمين والعرب هو العلم الفلسطيني.
لن يكون هناك سلام ولا استقرار ولا تطوّر للعلاقات العربية الاميركية ولا نجاح للاعتدال العربي في مواجهة التطرف ما لم تقم دولة فلسطينية يرضى عنها الشعب الفلسطيني.
لنعد قليلاً الى الأسس الحقيقية للسياسة في المنطقة.
لماذا انتخب الشعب الفلسطيني حركة حماس لتمثيله بغالبيته في المجلس التشريعي.
ليس لأنه فقير فهو كان وما زال وسيبقى فقيراً.
انتخب الفلسطينيون حماس لأنهم تفرجوا على زعيمهم التاريخي الحامل لجائزة نوبل مناصفة مع إسحق رابين من كثرة إعلان رغبته بالسلام، رأوه منقولاً على حمّالة الى مستشفى عسكري فرنسي بعد سنتين من الحصار الاسرائيلي له، ليموت لأسباب مجهولة حتى اليوم. وبعد 6 سنوات من اتفاق اوسلو الذي ينص على حصول الفلسطينيين على 78 في المئة من أرضهم التاريخية وقبول مبدئي بتقسيم القدس، النتيجة مزيد من المستوطنات. حرية أقل. استقرار ضائع. تدهور الأوضاع الاقتصادية.
تركت الدول العربية موظفي الادارة العامة بالكامل دون مرتبات، عقوبة على انتخابهم حماس . حتى السعودية لم تحتمل بناء لرغبات اميركية باستضافة خالد مشعل او دعمه مادياً، أقام في دمشق وأخذ لحركته مالاً من ايران. ودول مجلس التعاون التي عبّر الدكتور شايجي عن همومها لم تقدم إلا الخوف.
حماس جزء طبيعي من الصورة العربية وعلى الدول العربية، بتشجيع من واشنطن، ان تحاورها وتتعامل معها على أنها موجودة ولا أحد يستطيع إلغاءها الآن.
مهما شجعتم الرئيس أبو مازن على الإمساك بمفاصل السلطة الأمنية لن يستطيع تحقيق تقدم أمني وسط دم شعبه، وهو ما رفضه الزعيم عرفات في كامب ديفيد الأخير ولن يفعله خليفته رغم كل المظاهر المعاكسة لذلك.
الخسارة السياسية محققة لحركة أبو مازن الأمنية ولن تفيده الدول العربية بشيء. رئيس الوزراء الاسرائيلي أيهود باراك قال عام 2002 إن نافذة السلام ستغلق في حال من اثنين: إما مجيء حكومة إسلامية على حدود إسرائيل مع السلطة الفلسطينية. أو حصول ايران على سلاحها النووي. لم يقل باراك كيف تحققت نظريته. أتمنى ان تفعلوا أنتم…
***
نأتي الى العراق. دخل الجيش الأميركي الى العراق ومعه ثلاثمئة شخصية شيعية معارضة مقيمة في الخارج. رتب الإيرانيون اجتماع المعارضين في لندن. تولى التنفيذ نائب وزير الدفاع الاميركي حينها ورئيس البنك الدولي حالياً بول وولفوفيتز مع عميله الذي تبين أنه إيراني الهوى أحمد الجلبي. وهذه هي النتيجة. سبعمئة ألف قتيل عراقي وثلاثة آلاف قتيل من الجيش الاميركي. وباب النار مفتوح على مصراعيه.
سأل دبلوماسي عربي المندوب السامي الاميركي الأول بول برايمر، بعد أيام من تعيينه، كيف تضع يدك على صندوق تقاعد الضباط في الجيش العراقي وتحرمهم من مالهم؟ من أين لك المعطيات خلال أيام قليلة لاتخاذ هذا القرار؟ أجاب برايمر: هذا القرار هو ثمن تعييني.
لن أطيل الحديث عليكم عن الأخطاء. بل سأتقدم بثلاثة اقتراحات للتفكير وربما للتنفيذ:
أولاً: تكليف جهة دولية محايدة متخصصة بالإشراف على إحصاء سكاني للعراق يوضح حجم الأغلبية وكذلك الأقلية. هناك فرق كبير بين أن تكون نسبة الأكثرية 65 في المئة او 54 في المئة. وفرق أكبر بين ان تكون الأقلية 30 في المئة او 15 في المئة كما يشاع الآن.
هذا الإحصاء يمكن أن يعطل الأوهام بغالبية مطلقة وبأقلية مسحوقة.
لقد جربنا هذا الأمر في لبنان عام 94 حين كانت الشائعات تعطي احدى الطوائف ما يفوق عدد الشعب اللبناني. فجاء الإحصاء الذي لم يعلن ليعطي لكل حقوقه ويلزمه بواجباته.
ثانياً: الطلب الى السعودية بإلحاح التدخل لدى القوى العراقية الصديقة لها من السُنة وطمأنتها مما يخفف حدة الصراع الحالي بانتظار تسوية دائمة للوضع العراقي. وهذا الدور يكون بالتنسيق المعلن مع تركيا ومصر. ليس لمواجهة ايران بل لإشعار الجميع بأن هناك قوى معتدلة ورصينة قادرة على إقامة توازن في المنطقة. فلا أحد يستطيع الانفراد بقرار كبير بحجم العراق. وتصبح المفاوضات مع إيران أكثر جدية. إذ ما هي الورقة التي ستحملونها للتفاوض مع إيران الآن.
هنا استحسن دينس روس الاقتراحين وقال إنهما مثيران للاهتمام، فما كان من ساتلوف إلا ان أظهر تبرّما من طول الوقت الذي استخدمته. أجبته بأنني اتحدث عن ثلاث جلسات من الحوار. لكنه لم يبد إعجابه بالجواب. أكملت.
ثالثاً: العودة الى صيغة المؤتمر الدولي الذي يضم روسيا الداعم الدولي الوحيد ولو على تقطّع لإيران وسوريا. والاتحاد الاوروبي وتركيا ومصر والسعودية. وأن يشرف هذا المؤتمر على صياغة سياسية للعراق تحقق الاطمئنان للأقلية والقدرة للأكثرية بعد الإحصاء.
انتهت الجلسة الأخيرة بقرار من روبرت ساتلوف مدير المؤسسة رغم اعتراض دنيس روس مدير الجلسة. توجهت نحو باب الخروج لأجد ساتلوف في انتظاري ليودعني مقدّرا حضوري متجاهلاً ما قلت.
في طريق العودة الى الفندق قال لي خبير واشنطن ورفيقي في الرحلة: هذه هي الدعوة الأخيرة التي توجه لك. ألا تعلم أنك كنت تتحدث في إسرائيل؟