لوثة” واشنطن” .. ( 3\1 )

مقالات 11 ديسمبر 2006 0

واشنطن…
الواصل الى العاصمة الأميركية من نقطة ساخنة مثل لبنان لا يصاب بالانبهار كما يحدث لأي زائر آخر. إذ أن القادم من مسرح سياسي مثل بيروت يرى بالعين المجردة السياسة الأميركية تتقدم خطوة لتتراجع عشر خطوات. والعين المجردة هنا لا ترى المسرح اللبناني فقط، بل تذهب بمتابعتها الى النقطتين الساخنتين الأخريين، أي العراق وفلسطين، لتتأكد من أن ما تراه على المسرح اللبناني هو عيّنة من الحاصل في بغداد وغزة.
الانبهار بواشنطن سببه أن القاطنين في العاصمة الأميركية يأتونها من مختلف الولايات طمعاً في المشاهدة أو المشاركة في أكبر استعراض سياسي يعرفه العالم، وأن العاملين في المناصب العليا من الإدارات العامة هناك يرون العالم تحتهم صغيرا، صغيرا الى حد أن دائرة يترأسها موظف متوسط يجلس الى طاولة محددة يستطيع أن يستوعب شؤون أكثر من بلد عربي، وأن بقدرته حل مشاكل منطقة بكاملها يضع خريطتها على مكتبه. لذلك يستغرب الجالس هناك، سواء في البيت الأبيض أو وزارة الخارجية أو وزارة الدفاع، أنك تعرف بلدك ومنطقتك وأنك قادر على ابتكار التصورات، وأن لديك من التهذيب ما يمنعك من القول إنك تعرف الحلول.
واشنطن التي خطط لها مهندس فرنسي مات قبل أن يرى مخططاته تنفَّذ بسبب اعتراض التقليديين على حداثة عمله، والتي امتدحها الأديب الإنكليزي تشارلز ديكنز بالقول إنها مدينة النوايا الرائعة …
هذه المدينة التي لا يتجاوز عدد سكانها النصف مليون، مصابة بلوثة تسمى Washington Syndrome .. الترجمة الأدق هي عارض واشنطن . لكنك حين تزورها مرات عدة تفضل اللوثة كوصف على العارضين الاجتماعي والسياسي. إذ ليس في قدرة قادتها الكبار مراقبة العالم الصغير من بعيد وتقرير مصيره فقط، بل ان في اجتماعياتها نوادر أقلها أن ساكن واشنطن ينظر من خلف محدثه في حفلة عامة حتى يرى واحدا أكثر أهمية ليذهب إليه تاركا محدِّثه في حيرة.
لذلك كله، ترددت وتأخرت في الكتابة عن المحاضرة اللبنانية التي ألقيتها الشهر الماضي في مؤسسة واشنطن للدراسات الاستراتيجية للشرق الأدنى، والتي تبعها حوار حول طاولة مستديرة حضره ستة من العرب هم فايز طراونة رئيس الوزراء الأردني السابق، وجمال خاشقجي ونواف العبيد عن السعودية، والدكتور عبد الله الشايجي عن الكويت، والسفير محمد شاكر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في لجنة السياسات العليا في الحزب الوطني الحاكم في مصر، والكاتب، وحوالى عشرين شخصا بين محاضر ومشارك عن الجانب الأميركي.
كانت هذه هي المرة الأولى التي أشارك فيها في مثل هذا النوع من النقاشات مع متحاورين لا تعرف تماما اتجاهاتهم ولا مشاربهم بصرف النظر عن ألقابهم الرسمية أو العلمية التي تشعرك بأنك في حضرة صانعي القرار، ما عدا دنيس روس الدبلوماسي الأميركي الأشهر بعد هنري كيسنجر.
مؤسسة واشنطن للدراسات الاستراتيجية للشرق الأدنى، لا تنفي صفة التحضير للقرار عن عملها، وإن كان الطابع العام للعاملين فيها هو العمل من أجل السلام في منطقة الشرق الأوسط، فكيف إذا كان العاملون فيها بمعظمهم من اليهود الأميركيين؟
هذا لا ينفي الصفة الموضوعية عن عملها ولا المضمون الجدي لمطبوعاتها، حتى باتت في صدارة مؤسسات الدراسات الأميركية المعنية بشؤون منطقة الشرق الأدنى.
تدخل الى العشاء الأميركي المبكّر في مساء اليوم الأول للحوار فتجد نفسك محاطا بالكثير من العاملين في السياسة الخارجية الأميركية يتبادلون الحديث بهدوء في قاعة صغيرة من قاعات المؤسسة المجهزة بطريقة تجعل قاعة الطعام هي نفسها للاجتماعات في وقت لاحق.
الارتباك السياسي..
أيضا لا تنبهر. فالارتباك السياسي الذي يعم الكلام حول طاولات العشاء يذكرك بالأسئلة التي تحملها من بيروت لتحصل على أجوبتها في واشنطن. فإذا بك لا تسمع إلا الأسئلة نفسها أكثر أو أقل. وحين يبدأ الحديث وينتهي بالوضع العراقي باعتباره الأكثر حضورا بين الأميركيين سياسيا وعسكريا تشعر بأنك أتيت من واشنطن الى واشنطن فتقصُرُ المسافات.
الحدث الأول على طاولة الحوار وفي كل المحادثات الجانبية هو تقرير بيكر هاملتون الذي لم يكن نُشر بعد. لكن التوقعات حوله والتعليقات عليه قبل صدوره لم تتوقف طوال اليومين المخصصين لحوار الدائرة المستديرة. كان واضحا بين الحضور ان الهجوم اليهودي الأميركي عليه لا يتوقف. مرة بالقول إن المشرفين عليه لم يعودوا قادرين على وضع أنفسهم بالصورة الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط. ومرة أخرى بالرهان على أن الرئيس بوش لن يقبل بما تسرّب عن التقرير. ومرة ثالثة بتحجيم عمل اللجنة الى حد وصفها بأنها محاولة إنقاذ الرئيس بوش من مجموعة والده الرئيس بوش الأب.
لكن أهمية التقرير الذي بات منشورا الآن، تأتي من خلال تقييم مساعد وزير الخارجية السابق دنيس روس باعترافه أولا بمنهجية عمل اللجنة التي استمعت الى عدد كبير من المعنيين بشؤون المنطقة. وبالتالي فإن استنتاجاتها جاءت مستندة الى هذه الشهادات الحية والحديثة والمتابعة للأحداث.
ثانياً، ان موضوعية المسؤولين عن التقرير وخبرتهم العميقة السابقة تجعل من الاقتراحات التي يتضمنها التقرير سبيلاً عملياً لحل المشاكل في منطقة الشرق الأوسط يأخذ في عين الاعتبار المصالح العقلانية للسياسة الاميركية.
ثالثاً، مع معرفة بأن روس من الحزب الديموقراطي فإن شهادته بأن اللجنة تعمل لصالح السياسة الاميركية وتخليص الحزب الجمهوري من أعباء السياسة المتبعة حتى الآن.
رابعاً، لا يمكن تجاهل الوزن المعنوي لاعضاء اللجنة العشرة والتي لا بد أن يكون اصحابها حرصاء على صورتهم امام الرأي العام.
لكن هذا كله لن يشفع امام الرغبة الاسرائيلية في استمرار الفوضى في المنطقة. لذلك فليس من المتوقع ان تشهد توصيات التقرير طريقها الى التنفيذ قريباً او حتى في الاشهر المقبلة التي ستشهد نهاية عهد الرئيس الاميركي الحالي.
التقرير ببساطة رغم صفحاته المئة والاربعين يدعو الى العودة الى السياسة التقليدية الفعالة في العمل الدبلوماسي الاميركي. ليس استراتيجيا قول التقرير بانسحاب القوات الاميركية من العراق او بقائها فيه. المبدأ الاهم هو ان العراق يحتاج الى تسوية سياسية تأخذ في الاعتبار هواجس وطموحات الدول المجاورة له والتي تلعب دوراً في حروبه الداخلية. ولان لهذه الدول اشتباكات مع المجتمع الدولي واحدة بسبب دورها الاقليمي المفقود وأرضها المحتلة من الجيش الاسرائيلي اي سوريا وأخرى تريد تخصيباً نووياً ودوراً اقليمياً اي ايران.
لهذه الاسباب كان لدعوة التقرير الى فتح الحوار مع هاتين الدولتين، وقعُ الهزيمة على المعنيين في الادارة الاميركية. لكن هذا لم يمنع الرئيس بوش من استقبال عبد العزيز الحكيم في البيت الأبيض وقبله رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في عمان وهو يعرف انهما الاكثر تنفيذا للسياسة الايرانية في العراق. ليعلن بعدها الحكيم بعمّة رجل الدين التي يلبسها موافقته على بقاء القوات الاميركية في العراق.
حوار بالواسطة..
يمكن فهم هذه الخطوة على انها حوار بالواسطة مع ايران من قبل الرئيس الاميركي، كما يمكن تفسير كلام الحكيم ايضا ان ايران لا تمانع في استمرار الوجود العسكري الاميركي في العراق. حسم بيكر هذه التفسيرات بالحديث خلال مؤتمره الصحافي المشترك مع شريكه السناتور هاملتون عن التعاون الايراني الاميركي في افغانستان والذي سهّل الدخول العسكري الاميركي الى افغانستان وهزيمة طالبان. لكنه لم يذكر ان الادارة الاميركية وضعت ايران في عهد الرئيس محمد خاتمي على لائحة الإرهاب بعد نجاح عملية افغانستان الاميركية. فلماذا يراد من الايرانيين اليوم ان يثقوا بالادارة الاميركية؟
أهم ما في التقرير انه يدعو الى انهاء سياسة الأحادية الاميركية والعودة الى الاعتراف بالعواصم الدولية ومشاركتها الحلول في مناطق النزاع. مما يعطي الدول المصابة بالازمات العسكرية والسياسية إمكانية الحركة وشرح مخاوفها لاكثر من طرف مشارك في ادارة الحلول.
من هنا جاءت توصية التقرير بعقد مؤتمر دولي لحل مشكلة النزاع العربي الاسرائيلي استناداً الى تجربة مؤتمر مدريد الذي شاركت فيه 30 دولة بينها الدول الاوروبية السبع وروسيا والدول المعنية بالنزاع طبعاً. اسرائيل تقرأ في هذا الكلام تراجعا للدور الاميركي المباشر وتنامي قوى الممانعة العربية مما يزيد من قلقها. وخاصة ان التقرير يوصي بالمسيرة السلمية الفلسطينية الاسرائيلية ودراسة الاتصالات مع سوريا وإيران.
عبّر عن ذلك وزير الدفاع الاسرائيلي بالدعوة الى اجراء تقويم استراتيجي سواء للمدى القريب او البعيد تعليقا على ما قاله وزير الدفاع الاميركي الجديد روبرت غيتس من معارضته لشن هجوم على ايران لوقف مشروعها النووي وتأييده الحوار معها ومع سوريا.
الأمنيون الثلاثة الجدد اي وزير الدفاع ومستشار الأمن القومي ستيفان هادلي ورئيس الاستخبارات الاميركية C.I.A سينضمون الى وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس في نظرية الحوار ولو عن طريق مجلس الأمن الدولي. إذ يفترض دنيس روس ان الادارة الاميركية لا تستطيع الذهاب الى المفاوضات خاوية اليدين وأنه لا بد من عقوبات في مجلس الأمن الدولي على ايران تكون أساساً للتفاوض.
إمبراطورية قطر..
هل يمكن تحقيق ذلك؟
المحاضر الاول في الطاولة المستديرة في واشنطن هو بيتر رودمان مساعد وزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي. رجل رصين متخرج من مدرسة هارفرد للحقوق. الأهم انه عاصر خمسة رؤساء اميركيين خلال عمله في الادارة. له من العمر 63 عاماً. في سيرته الذاتية يبرز السطر الاول انه عمل كمساعد خاص لهنري كيسنجر وزير الخارجية الاشهر في العالم لمدة 8 سنوات. تشعر وأنت تستمع لرودمان انه يعبّر عما يمكن تسميته القومية الاميركية التي تريد مصالح اميركا قبل اي مصالح اخرى.
يتجنب رودمان الحديث المباشر عما تسرّب في حينه عن تقرير بيكر هاملتون. يحدثنا عن جولة قام بها على دول مجلس التعاون الخليجي. يتباسط في الكلام عن الهواجس الأمنية التي تقضّ مضجع الحكام في هذه الدول. الهواجس إيرانية طبعا في هذه الدول. لكنه يشكو من أن حكّام هذه الدول لا يقومون بأي عمل يساعدون فيه أنفسهم قبل أن يساعدوا السياسة الأميركية في المنطقة.
يستثني دولتين من هذه الهواجس: سلطنة مسقط عُمان التي يبدي حاكمها ارتياحه الى علاقات دولته مع ايران. و الامبراطورية القطرية حسب تعبير أحد الحاضرين. فيعلّق رودمان أن السؤال الأول الذي وجهه الى آلمسؤولين القطريين: مع من أنتم؟
يحاول الدخول هادئا الى العلاقات السورية الأميركية والإيرانية الأميركية. يقول انه رافق ثلاثة وفود أميركية بين العامين 2003 و2004 الى دمشق. الوفد الأول ترأسه كولن باول وزير الخارجية الأميركي السابق والثاني مع مساعده ارميتاج والثالث مع المساعد الثاني بيرنز.
يذكر رودمان أن نتائج المحادثات في العاصمة السورية كانت دائما تراوح مكانها دون نتيجة.
فماذا تغيّر حتى نتوقع الآن نتائج أفضل؟
عن ايران يقول ان المحادثات مع القيادة الإيرانية ستسبّب قلقا جديا عند قادة دول الخليج العرب. وإذا كان لا بد من المفاوضات فعلينا أي الإدارة الأميركية إيجاد وسائل تطمين لهؤلاء القادة.
يتضح من استمراره في الحديث أنه يستخف بقادة هذه الدول، لكنه يبدي حماسة عن طريق الأسئلة لضرورة الحوار مع ايران أولا ثم سوريا.
تسود القاعة إشارات توحي برفض كثير من الحاضرين لمبدأ الحوار. يغرقونه بالأسئلة التي تجعله يقول انه يستنتج مبكرا ما سيأتي في تقرير بيكر هاملتون. فإذا بالاستنكار يتزايد.
ينتبه رئيس المركز ومدير الحوار روبرت ساتلوف الى انه لا نتيجة من هذا الحوار. يعطي الكلام لنوّاف العبيد السعودي تعليقا.
نوّاف العبيد شاب في الثانية والثلاثين من عمره. حديث الشكل. والده سعودي. والدته لبنانية. متفوق في دراسته في جامعات جورجتاون وهارفرد وماساتشوستس حيث تابع في الأخيرة برنامج تقنيات أمنية. يترأس شركة أمنية سعودية وكان لأسبوع مضى مستشارا أمنيا بالتعاقد مع الحكومة السعودية. ساهم في مراكز دراسات متعددة في واشنطن. مؤلف كتاب صناعة السياسة النفطية السعودية . يرعاه الأمير تركي الفيصل رئيس المخابرات السعودية السابق والسفير السعودي في واشنطن حاليا بحيث عيّنه مستشارا للأمن والطاقة لديه.
راوية لبناني..
من أين لشاب في مثل هذا العمر كل هذه الألقاب والمهمات؟
حين قابلته للمرة الأولى شعرت بأن لديه القدرة على مزيد مما يحمل. إذ ان سرعة حركته وخفّة ظلّه تجعلانه يوظّف الألقاب في خدمته، بصرف النظر عما إذا كان مضمون هذه الألقاب والمهمات جدياً. لم تختمر خبرته بعد وهو مستعجل للوصول الى مزيد من المهمات. لذلك لا يتورع في حديثه عن كشف المستور في السياسة السعودية.
هو باختصار راوية لبناني لحكاية سعودية يعتقد ان باستطاعته تسويقها في عاصمة القرار.
لذلك فإن الدراسات الأمنية والسياسية التي وزعت على المشاركين في الطاولة المستديرة تفتقر الى الدقة وإن كانت لا تفتقد الى الشجاعة.
يتصرف نواف على أن مهمته تسويق السياسة السعودية ولو اضطره ذلك الى استخدام أرقام وإحصاءات غير دقيقة. فضلا عما تسببه هذه الاحصاءات من استنتاجات.
حين تنبّه نواف الى خطأ ما في إحصاءاته يجيبك بأنه يعلم ما تقصده لكنه فعل ذلك لإقناع الأميركيين بما يريد إقناعهم به.
شفع له معي شبابه المندفع. المتحمس. المغامر. غير ان هذه المزايا لم تشفع لدى الإدارة السعودية.
كتب نواف مقالا في الواشنطن بوست قال فيه ان بلاده ستتدخل عسكريا لحماية السنّة في العراق إذا ما انسحب الجيش الأميركي، مستشهدا بكلام الشقيقين الأميرين سعود وتركي الفيصل. الأول حين قال للرئيس بوش انك بدخولك الى العراق تحلّ مشكلة وتخلق خمس مشكلات. والثاني في محاضرة ألقاها في واشنطن قال فيها: ما دام الأميركيون ذهبوا الى العراق من دون دعوة فيجب أن لا يتركوا من دون دعوة ايضا.
بدا مقال نواف مشاركة سعودية بالحملة على الرئيس الأميركي فكان لا بد من إصدار قرار بإنهاء التعاقد معه كمستشار أمني للحكومة السعودية.
لن يؤثر هذا في اندفاع نواف العبيد فهو ممتلئ حياة ولا يمكن لما قاله إلا أن يكون له أساس سعودي جدي يعيد اليه في ما بعد ما لا يحتاجه كثيرا للعمل على مراكز القرار الأميركي.
تجرأ نواف على القول تعليقا على كلام مساعد وزير الدفاع الأميركي العائد من جولة خليجية ان مناقشات واسعة في السعودية تجرى حول السياسة الأميركية في المنطقة. واستشهد بالاتفاق الذي عقده الملك عبد الله الثاني مع الرئيس بوش والذي خالفت الإدارة الأميركية مضامينه فاعتبره منتهياً. الاتفاق يتعلق بالسياسة الأميركية في العراق ونتائجها وتأثيراتها على الدول المجاورة.
هنا دخل الفرعون المصري على الخط..
يتبع