لن ينطفئ الضوء ..

مقالات 17 ديسمبر 2007 0

العميد الركن فرنسوا الحاج صار لواءً. نال ترقية الشهادة بعد أن كاد يستحق ترقية القيادة. ضابط محترف يجيد مهامه حتى الموت. اختصر يوم الجمعة الماضي وهو يدخل الكنيسة مسجى، التاريخ السياسي الحديث للجيش اللبناني.
هو واحد من آخر الضباط الذين تخلوا عن مهامهم القتالية حين كان العماد عون قائداً للجيش ورمزاً لوطنية غابرة. كان الأخير من ضباط الجيش الذي استمر واقفاً في اليرزة مقر وزارة الدفاع حين دخل الجيش السوري الى المقر العسكري العام وإلى رئاسة الجمهورية في بعبدا في العام 1990 لإنهاء التمرد العسكري لجنرال فضّل المنفى على الاستسلام. واجه قبل ذلك في الاشتباكات بين القوات اللبنانية والجيش اللبناني في حرب لم يعد مهماً تذكر اسمها.
كان للضابط الجنوبي فرنسوا الحاج الدور الأساسي في مواجهة الجيش مع تنظيم فتح الإسلام الأصولي الذي أراد من مخيم نهر البارد في طرابلس نشر فوضاه على الشمال اللبناني لو أتيح له الوقت وتسنت له الفرصة.
لم يستسلم رئيس غرفة العمليات العسكرية بالرغم من ندرة السلاح المطلوب وقلة الذخيرة الضرورية وطول الوقت الذي جعل كثيرين يعتقدون بلانهائية المعركة، وقبل كل ذلك المفاجأة التي تحكمت ببداية المعركة واستمرت في الظهور بين شارع وشارع في مخيم تبيّن أن السلاح والذخيرة وتدريب المقاتلين فيه يتجاوز كل ما هو معروف أو متوقع.
الضابط الجنوبي تصدى قبلاً وأيضاً باحترافه ومعنوياته السياسية لمن أنشأوا جيشاً متعاملاً مع إسرائيل في جنوب لبنان حيث قريته رميش، حين كان هذا الانضمام جزءاً من طائفته، وحين كانت قيادة هذه الطائفة في بيروت تتفهم هذا الانشقاق إن لم يكن أكثر.
قد تكون كل هذه الروايات عن اللواء الحاج غير دقيقة، لكنها وغيرها الكثير من حكايات الأسطورة رافقت جثمانه الى كنيسة البازيليك في حريصا حيث عبّر الحاضرون تصفيقاً ووقوفاً عن فقدانهم روايات البطل من دون أن تعرف ما إذا كانت تستقبل ما يقال عنه من حكايات أم تودع فيه ما لا تريد التخلي عنه من أمثولات.
منذ ثلاثين سنة وهذه الأيدي لا تتعب من التصفيق لأبطالها الذين غدرتهم السياسة. مع الاعتراف ببراءة الضابط الجنوبي من آثامها.
إنها أيدينا جميعاً كلما ودعنا واحداً من رموز قدرتنا على الصمود في وجه العواصف. من كان منا شريكاً في أنوائها ومن هو بريء حتى من مراقبة ما يعرض عنها على شاشات التلفزيون لا أكثر ولا أقل.
إنها أيدي لبنان التي تصفق وقوفاً. إذ أن الديكتاتوريات لا تعلّم أيدي مواطنيها على التصفيق إلا للزعيم الواحد القاتل القادر على إفقادهم ذاكرتهم وتعليمهم الانضباط حتى الهدوء الأخير لحياتهم.
اختصر مشهد الكنيسة جريمة القادة. يجلسون في المقاعد الأمامية يأكلهم الحقد على بعضهم البعض. والأرجح أنهم يستغربون بقاء هذا العدد الكبير من اللبنانيين المنضوين تحت لواء طائفتهم على قيد الحياة رغم الحروب التي خاضوها في وجه بعضهم البعض، والتي يبدون استعدادهم في كل لحظة على خوضها ثانية. لماذا لا؟ ما دام هناك الكثير من المواطنين يستحلون الموت تحزباً لواحد منهم أو لأكثر.
واحد على وجهه أوهام العظمة الفارغة. والآخر يلبس قناع البطريرك صلاة وإيماناً وترفعاً. وثالث لم تعطه كثرة الشهداء من حوله لا رصانة ولا مهابة ولا حتى مسحة حزن.
بدا جثمان الضابط الجنوبي أكبر منهم وأصدق قولاً من قولهم وأنبل فعلاً من فعلهم بالتأكيد، مهما حاولوا تمثيلاً لمواطنيهم فسيذكر التاريخ أنهم العتمة لا الضوء، العزلة لا الانفتاح، الخيلاء لا العزّة. النفاق لا الصدق الوطني، العجز لا القدرة على الحياة.
وحده الضابط المغادر هو الصادق بفعله. في الحقائق التي رافقت حلقة الاحتراف الوطني التي قدمها مارسيل غانم عنه يوم الخميس الماضي، بدا الحاج أبا لبنانيا طبيعيا لأولاد يفتخرون به قبل اغتياله. يريد لنفسه ولأولاده أن يتفرقوا في منازل أهلهم ليناموا في سرير المودة في قريته. وأنه ضابط أمضى نصف عمره في مهامه العسكرية، وأنه مواطن لديه مفهوم بسيط للبنان السيد الحر المستقل الطبيعي. لا افتعال في عداواته ولا انفعال في صداقاته. لا يريد لوطنه إلا الهدوء ولا لمواطنيه إلا الحياة الآمنة الكريمة.
ألسنا نحن العاديين من اللبنانيين كذلك؟
هو واحد منا. اختارته السياسة غدراً فجعلت منه شهيداً.
صورته ومن على مثاله ليست في حريصا حيث الوحشية السياسية تحتل مقاعد، بل في رميش قريته الجنوبية حيث الفرحة بما يقال عن ماضي ابنهم والفخر بجثمانه يعود الى أرض أهله. لم يحملوه على الأكف بل على رموش عيونهم لأنه منهم ومثلهم. مواطن لبناني يعتز بما يفعل لا أكثر ولا أقل.
أضاء صيدا وبنت جبيل والقرى التي سلك طريقها إلى قريته. أكد لقاتليه أن القتل الغادر المستمر منذ 30 عاماً، لم يستطع إطفاء الضوء.
لن ينطفئ الضوء. إنه لبنان.