الشكيب… النسيب

قالـوا عنه 25 أبريل 2009 0

لطالما كنت معجباً بالتعبير الذي يستعمله الإخوة السودانيون في تبجيل من يستحق، فيصفونه بالحسيب.. النسيب؛ والحسب هو الكرم والشرف الثابت، والفعال الصالح كما حكاه ثعلب، والنسيب هو القريب والمناسب وذو الحسب والنسب كما هو في لسان العرب؛ ولقد عقدت النية على أن أخط مقالاً بهذا العنوان بعد صدمتي بانسحاب الوزير نسيب لحود من المعركة الانتخابية، ولكن تسارع الأحداث جعل الخيبات تتوالى وآخرها أن “شكيباً” قد أخلى مكانه “لسواه” من غير مسوّغات قانونية أو شخصية أو شعبية، فإذ به يعود إلينا “نقيباً” مثقلاً مثلنا باسبقيته، محجوباً عن “ألحقيته” وأحقيته، فألح عليّ عنوان “الشكيب النسيب” لأنني وجدته مستطرفاً ولأن “الشكب” لغة هو الجزاء وقيل العطاء، أي أن شكيباً يمكن أن يكون حسيباً ويمكن أن يكون نسيباً، وبالتالي فإنهما معرضان كما تعرض سواهما من قبلهما للاستبعاد أو الاستنكاف، بسبب ما فيهما من صفات ولوفرة في ماء الوجهين وعفة في الأعين واللسانين.
ما أثار حفيظتي بعد هذا، أن جريدة “الأنوار” نشرت يوم أمس مقالاً لمدير التحرير الصديق فؤاد دعبول ترك في نفسي حسداً ونكسة بعنوانه “من نسيب الى شكيب” ومضمونه الذي كان يعتمل في نفسي حيث يجري التخلي عن النخب من النواب الذين يتمتعون بموهبة كتابة خطاباتهم بأيديهم وأقلامهم، لا بالأقلام التي تتصدق عليهم بعصارة الحبر والفكر، وتساءلت كيف خفق ذلك الفؤاد في سريرتي فقرأ خواطري، ومن أين جاء ذلك “الجاسوس على القاموس” فكشف خبيئة أفكاري وعبر عما كنت أحب أن أعبر عنه؟؟! ولكنني سرعان ما أفرخ روعي لأنني وفؤاداً، قد اشتركنا في وصف الموصوفين وفي مشاعرنا حيالهما، وفي هذا يقول شوقي:
“وعندي الهوى موصوفه لا صفاته
إذا سألوني ما الهوى.. قلت ما بيا”.
أما النسيب الأبي، فحسبه ما خلّف في نفوس أبنائنا من مرارة عندما أعلن ترفعه عن اللعب على غير طريقته، وهو الذي تميز بالرصانة والهدوء والفكر السديد والذهاب الى الهدف دون مكر، بحيث يمكن وصفه أنه يكاد يكون من أصحاب الأرقام العُلى بين كل المرشحين فيما لو كان لبنان دائرة واحدة، فقد دخل البيوت والقلوب والعقول من غير واسطة، فحفز بذلك بقية الطوائف على مقايضة الطائفة المارونية به مقابل أي عدد تطالب به.
وأما شكيب فقد أحبطني استبعاده المتتالي عن الرئاسة ثم الوزارة، وعن النيابة أخيراً، فذكرني هذا بما قاله الإمام الأكبر أبو حنيفة النعمان لأبي جعفر..
“من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك”.
كثير من أفكاره السياسية لا أشاركه فيها، من غير أن تنتابني ذرة من شعور أن سواه يمثلني أكثر منه، لأنني أجده يطلق أفكاره من غير أن يمررها على منقيات الكلام ومصافي الألفاظ، فحق عليه ما حق على سواه من أن ينتبذ مكاناً قصياً على أريكة أعدها الأخ توفيق سلطان لتتسع لثلاثة أشخاص على الأكثر، فإذ بها مآل طابور من “الشهداء” وضحايا الوعود.
الأميون نوعان: واحد يجهل القراءة والكتابة، وآخر يكرههما.. ومن أسف أن الحياة السياسية تجري سريعاً باتجاه الانقياد للصنف الثاني، حيث تسود لغة الفرز المذهبي والتنابذ داخل الحي والمدينة والوطن الصغير، والاستقواء الداخلي والخارجي من أجل أن تلوي طائفة إرادة سواها، فيما المساحة المعنوية المتبقية من الوطن بأمس الحاجة لأصحاب العقول الذين لا يخدمون أصحاب الحظوظ، بل يخدمون حظ الوطن بالقيامة المجيدة.
أما بعد فإنني لا أنهي سطور الأسى هذه من غير إشارة الفرح الى الضوء “المشنوق” الذي يفك انشوطته ويحل عقدته، ليهل علينا في البرلمان نموذجاً صادقاً وسياسياً نجيباً وحسيباً ونسيباً.