“لبنان الرسالة والارشاد الرسولي”- الربوة، حكاية السحر واللعنة في لبنان

محاضرات 23 نوفمبر 2012 0

يقول الدكتور فواز طرابلسي في كتابه عن تاريخ لبنان الحديث من الامارة الى اتفاق الطائف ” أن لبنان وضع تحت الانتداب الفرنسي بعد حروب طائفية ، فخرجت فرنسا مهزومة وانتصر النظام الطائفي في لبنان. وأوكلت اميركا واوروبا لبنان الى اسرائيل فخرجت مهزومة وما زالت تعاني مأزق هزيمتها في لبنان. ثم أوكلت المهمة الى سوريا بعد اتفاق الطائف في العام 1989 وبدعم عربي ودولي انتقل دور الرعاية الى دمشق، فلم تتوقف النزاعات الداخلية بل خرجت سورية مهزومة من لبنان في عام 2005 وانتصر النظام الطائفي الطبقي فيه “.
لذلك أرى ان هناك سحراً في لبنان بجعلنا لا نملّ من الشكوى منه، وفي آن معاً لا نكفّ عن التعبير عن شغفنا بهذا الـ ” لبنان “.
يمكن القول إن هناك سحراً ولعنةً في هذا الكيان وفي تجربة العيش فيه. والمدهش أن ما هو مصدر السحر هو ذاته مصدر اللعنة. انه في الجغرافيا وتضاريسها مثلاً كما في المناخ. وفي التاريخ ، وفي الثقافة كما في العادات… لكنّ الاهم والابرز هو في “التركيبة الغنية للحياة السياسية والاجتماعية… فهذه الاخيرة هي المصدر الاهم للسحر واللعنة.
يصعب رسم كل عناصر هذه التركيبة ويستعصي تعداد وجوهها، ولأنها غنية على نحوٍ مدهش، وترسم في نهاية المطاف شخصية لبنانية تكثر مثالاتها وصورها.

ونحن في نزاعاتنا، كلّ فريق يسعى، في سبيل سحق الاخر، الى الاستحواذ على مثال لبنان الذي سرعان ما نكتشف انه لا يستقيم ولا يصح من دون وجود الآخر. هذا ما أدركناه دوماً، لبنان بلاد توازنات، تحتمل التغيير او التصحيح.
لكن اي غلبة تدمره. واذا كان مؤكداً ان السمات والخصائص التي تنفرد بها كل جماعة او طائفة او منطقة تحدد صفات لبنان، الا ان السحر يتجلى من معايشة هذه المكونات المختلفة لبعضها البعض.
بمعنى آخر، ان هذه السمات والخصائص قد نجدها في بلادٍ كثيرة ومجاورة.. لكنها هناك اما طاغية واما مسحوقة، او ان بعضها لا يعترف ببعضها الاخر، فلا تظهر ولا تتفاعل كما هي الحال اللبنانية.
إن السبب في خاصية لبنان لا يكمن في ما نسميه التعايش الاسلامي المسيحي. فهذا التعايش قد نجد نماذج له في العالم. انما السبب في التوازن القائم في لبنان بين الديانتين. انه توازن يمنع جموح الشمولية الدينية، وهو في اثناء هذا المنع، ينحو الى استبعاد اي نزعة الى احتكار السلطة، واستبعاد حالات القهر الاجتماعي والثقافي والسياسي. ومن شأن كسر التوازن ان يجعل الحريات الشخصية والجماعية امراً عسيراً، ويعطب تلك الديموقراطية اللبنانية “.

يمكن القول إن لبنان الكبير، عندما نشأ، كان كياناً من مجتمع مسيحي – اسلامي يتجه عنصراه الى التوازن السكاني، والكثيرون لا ينتبهون ان هذا يعدّّ سابقة في تاريخ المنطقة، السابق لفكرة الدولة الحديثة، حين كانت امبراطوريات او امارات وممالك وقبائل…

لاول مرة في تاريخ المنطقة السياسي، سينبثق مفهوم ” الشراكة ” بالتزامن مع بدء تأسيس الدولة بمعناها الحديث. شراكة تضم ست طوائف اساسية و 11 طائفة اخرى.
وكانت تلك هي بذرة الديموقراطية واساس الاقرار بالتعددية والمساواة والتنوع. والاهم ان التوازن نفسه بين الديانتين اتاح مبدأ تكوين دولة مستقلة نسبياً عن المجتمعات الاهلية والعصبيات. تنصّب نفسها مرجعاً او حكماً بقدر ما تبتكر هوية جامعة وسلطة ادارة ومساحة للصراع السياسي الطبيعي، بما هي مساحة علنية للشأن العام.

كانت الدولة عند المسلمين في لبنان، هي قبل كل شيء رافعة للترقي الاجتماعي وزيادة حظوظ التنمية. فيما كانت عند المسيحيين، اساساً، ضمانة للحرية. وسنلحظ تاريخياً ان المسيحيين المتشددين في لبنانيتهم كانت لديهم قابلية اكثر من المتوقع لنفض يدهم من هذه اللبنانية ازاء الهوية الضيقة ما دون لبنان واصغر. كما سنلحظ ان المسلمين الذين جعلوا لبنانيتهم مشروطة بكثير من الشروط كانوا أقل قابلية لترك اللبنانية هذه وبأكثر مما يظنون. وعلى الارجح كانوا دوماً يتطلعون الى تحسين لبنانيتهم ورفع منسوبها في وجدانهم.

أميل من وراء هذا السرد للقول أن لبنان هو وليد حياة مشتركة، والاصح هو وليد ارادة مشتركة. ونحن منذ العام 1920 ابتكرنا طريقة حياة شديدي التعلق بها وقد امضينا ما يقرب القرن ونحن شعب ودولة، وسلكنا طريقاً كثيرة الازمات. لكن ما كان هذا التاريخ سوى تاريخ اندماج مكونات طائفية وجهوية في شعب واحد ودولة واحدة. وسنلحظ ان كل الازمات ما كانت تنتهي الا ونجد جماعة أو طائفة كانت تسعى للتفوق أو للانكماش لتعود بعد حين الى ترسيخ التحاقها بالكيان، ويكتسب التحاقها صفة الانتماء الى المركز، وقد تتبوأ محلاً لها في هذا المركز. اي ان الازمات كانت معبراً لتخرج منه الصيغة اللبنانية معدلة، لكنها تزداد صموداً في مبدئها.

خرجنا من الحرب على قاعدة التوازن وفق صيغة واضحة من عبارتين : لبنان الوطن النهائي، ولبنان عربي الهوية والانتماء. ويمكن ان نستخلص من تجربة الحرب، اذا اردنا دوام نجاح التجربة اللبنانية وتثبيت السلم والاستقلال والصيغة، عبرةً اساسية هي ما اسماه الباحث والمؤرخ اللبناني احمد بيضون “الحشمة “.

الحشمة، بمعنى ان تظهركل جماعة المزيد من الاحترام والاعتبار لحقوق الآخرين ولحقوق الدولة، وان تمسك كل جماعة نفسها عن الجموح نحو قضم حقوق الآخرين او الاستقواء بذارع خارجية. يجب ان يسود التوافق اولاً على صون الحريات وعلى تضييق التفاوت الاجتماعي والتنموي ، وعلى اعلاء مبدأ استقلال البلاد، بلا لبس كما هو شعارنا ” لبنان أولاً “.
الا ان التوافق الذي نتحدث عنه، يجب ان لا يبقى رهناً بارادات طائفية، من الصعب التكهن بأهوائها، انما بجعله متجسداً في المؤسسات، في الدولة، التي وان قامت على قاعدة طائفية، فهي تتجاوز بحكم شموليتها التقاسم الطائفي. وهي باضطلاعها بوظيفتها لا بد أن ينشأ عن وجودها وحضورها مثال المواطنة في المؤسسات، وتتوسع المساحة للمواطنة بما يتعدى الهويات الطائفية.

واذ نشهد اليوم، دعوات الى رصّ صفوف هذه الطائفة او تلك، فهي لا بد تنذر دوماً بشرور الحرب الاهلية والفتنة. فالطائفة التي يتاح لها ان تعبئ رعاياها تعبئةً تامةً بمواجهة الطوائف الأخرى او الدولة، انما تسبب بفعل مثالها السيء هذا تعبئات مضادة، وينتهي الامر بضربة قاسية للدولة وللسلم الأهلي.
فكيف الحؤول دون مسار كهذا ؟

بوسعنا هنا ان نعود الى ارادة واضعي اسس نظامنا السياسي، الذين تحاشوا تثبيت التمثيل الطائفي في الدولة، واعلوا من شأن تمثيل وحدة الشعب ووحدة البلاد، بما يتجاوز التقسيم الطائفي. هذا التجاوز كان ماثلاً على الدوام في روحية الدستور ونصوصه. لذلك فالصيغة الطائفية مثلاً في نظامنا الانتخابي كانت محدودة. فعلى الرغم من ان المجلس النيابي يتألف من حصص طائفية، فان اياً من اعضائه لا ينتخبه مقترعون ينتمون بمجموعهم الى طائفة واحدة. كذلك فان الناخبين في اغلبية الدوائر مدعوون الى انتخاب لائحة مختلطة توافق الاختلاط الطائفي لدوائرهم. فلو ان آباءنا الدستوريين، المشرعين، شاؤوا لكل طائفة ان تختار وحدها ممثليها، لكان ذلك سهلاً، لكن لكان لبنان والحال هذه مقسماً مذهبياً لا جغرافياً في الدوائر الانتخابية، فيصير هذا اساساً لفدرالية طائفية، ما يطيح حتماُ بشبكة العلاقات بين الطوائف، التي ستداوم على مبدأ رص الصفوف والاستنفار طوال الوقت بوجه الطوائف الاخرى.

وما نراه اليوم من استقطاب طائفي ومذهبي حاد، لا ينتج في السياسة سوى استحضار متواتر للعنف، ولا ينتج في الاقتصاد سوى شبكات فساد، ولا ينتج في المجتمع سوى اغتراب الجماعات عن بعضها البعض.

في المحصلة، ان ” الاستقلال الثاني ” كما تجسد في انتفاضة 14 آذار ومشهدها التاريخي، لن يكتمل الا بقيام الدولة المدنية ، التي لا تخضع لنزاعات الطوائف ولا يجري اقتسامها حصصاً بين من يستحوذون على تمثيل طوائفهم. انها دولة تجمع بين البعد الفردي الذي تقوم عليه فكرة المواطنة، والبعد الجماعي الذي يعبر عنه التعدد الطائفي.

اي دولة هي غير طائفية تعريفاً، ولا تمنح الحقوق الا للمواطنين بمساواة وعدل. وهي دولة مدنية لا تناقض حقيقة التعدد الطائفي والديني، لكنها متحررة من قيود الطوائف. وبالتالي لديها القدرة على تحرير الطوائف نفسها من ” الخوف المتبادل “.

ان اتجهنا الى هذه الصيغة، حيث لا استتباع ولا الغاء، نظنّ ان الخوف والاستنفار الطائفيين لن يكونا بعدها المحرك الاساسي للتاريخ اللبناني. وسيكون لبنان مرة اخرى بلداً يحلو العيش فيه.
لماذا اقول هذا كله، وما علاقته بالارشاد الرسولي ؟

يتدخل الفاتيكان دائماً في حالتين : حالة الانفتاح والراحة عندما يرى ان هناك امكانيات مفتوحة للاندماج وللتطوير في الحياة الوطنية والحياة السياسية. كما يتدخل عندما يلاحظ تأزماً يتجه للانفجار والتشرذم. وفي الحالتين يجدد ذكر وذكرى القيم المسيحية والقيم الدينية الكبرى، بحيث يكون الوازع الاخلاقي الكبير مظلة تستظل بها الجماعات التي صعب عليها او على احداها اللجوء الى الجوامع والمشتركات.

وقد تدخل الفاتكيان هذه المرة في ظروف وسياقات أزمة سيطرت على سنواتها السوداء نوازع الغلبة والاستقواء من جهة او اكثر، ومشاعر الخوف والانكفاء من جهة او اكثر. وكانت رسالته موجهة الى سائر اللبنانيين، بل والى المسيحيين في المنطقة، من اجل المحبة العقلانية والعمليّة.

قد يقول البعض : لكنها شعارات اخلاقية، وهي كذلك بالفعل وهذا الامر لا ضير فيه. لكن صدقوني فان القيمتين المحبة والسلام ، هما قيمتان اجتماعيتان وسياسيتان ايضاً وايضاً. اذ ان المحبة بين الافراد والجماعات لا تقوم الا على الحرية والاعتراف. كما ان السلام في داخل الافراد والجماعات لا يقوم الا على الاحساس العميق بالعدالة. وهذه هي بركنيها رسالة لبنان التي طورته الى شعب واحد في دولة واحدة ، قامت على التشارك في السراء والضراء ، رغم الطريق الطويل الكثير التعرجات.

لا يمكن الزعم ان الاوضاع ذات الجوانب الدينية والسياسية بعد الثورات العربية باعثة على الاطمئنان. لكن لنتذكر ان الحرية والكرامة والتداول على السلطة والديموقراطية ، كانت هي الشعارات التي اطلقتها ثورات الشباب العربي. وما تحقق منها حتى اليوم الكثير. لكن الثورات عمليات تغيير كبرى ، وليست انقلابات عسكرية تنتهي بين عشية وضحاها. ولذا فان الامل ان فكرة الحرية ستظل هي الحاكمة، وفي ظلها تقوم وستقوم مجتمعات سياسية جديدة.
من الناس من يقول ان الاصلاح الديني كان ينبغي ان يحدث في عالم الاسلام على الخصوص قبل الاصلاح السياسي. وقد حصل بعض ذلك بالفعل في التاريخ الاوروبي الحديث. لكنني اعتقد ان ما تشهده المجتمعات العربية في ظلّ فكرة الحرية، والحرية الفردية، والحرية الاجتماعية، والحرية السياسية، سيحقق الامرين: التجديد السياسي والتجديد الديني. والذي اراه ان الثوران الحاصل من جانب الجماعات الدينية له بعدان : بُعد التجربة، تجربة الحرية للمرة الاولى – وبُعد الخوف من الحرية ذاتها ،

فالحرية لك ولغيرك، ولن تستطيع حيازتها الا اذا حصل عليها غيرك. وحين تنتشر مفاهيم الحرية فلن يستطيع احد التحكم بما هو خارج شروط الحرية، كما يحاول بعض الاسلاميين، بسبب حداثة التجربة من جهة، والاغترار والخوف في الوقت نفسه من هذه الظاهرة الجديدة. انه مجتمع جديد بكل ما للكلمة من معنى. وقد كان موجوداً لكنه اعلن عن نفسه للمرة الاولى من خلال وسائل الاتصال ، ومن خلال المظاهرات الحاشدة.

لقد ذهب اللبنانيون مذاهب شتى في فهم واعتبار او تقدير الثورات العربية. وكانت التقديرات كلها منطلقة من الظروف الجيوستراتيجية للبنان. غير أن احداً منا لم يتذكر البعد الذي هو ميزة لبنان الاولى : الحريات الفردية.
اليوم يولد الفرد العربي، الذي ولد في لبنان منذ عقود وعقود. وبهذا البعد او العمق ينبغي ان نقرأ الثورات العربية التي تحاول ان تنشىء مجتمعات انسانية وسياسية جديدة. فلا نخاف من الثورة السورية، ولا نعتبر الارشاد الرسولي مثالاً لا يمكن تحقيقه. نعم ان الشراكة التي اقمناها في لبنان لا تقوم الا على الحرية، لان الحرّ الحرّ هو الذي يقدر على المشاركة، ولان الحرّ الحرّ هو الذي يستطيع ان يحب ويعترف باختلاف الاخر والشراكة معه. قال الكهل السوري الخارج من الاعتقال والتعذيب وسمعناه على التلفزيون : ” أنا انسان ، وكلّ الذين حولي مثلي، بشر احرار !” وهكذا يكون علينا في هذا الظرف الصعب ان نتعمق نحن اللبنانيين بما نحن فيه وما نملكه، متجاوزين ظروف غلبة الجغرافيا والعدد والاستقطابات.

أنهي بجواب للمؤرخ الراحل الدكتور كمال الصليبي عن كتابة ” بيت بمنازل كثيرة”، نشر في مجلة بوهيميا الثقافية.
سأله رئيس التحرير، هل اثبتت مرحلة ما بعد الحرب الاهلية اللبنانية فرضّية ان اللبنانيين أصبحوا أكثر لبنانية ؟
اجاب : صحيح ، لقد تحوّل اللبنانيون الى اكثر لبنانية بعدة طرق وبأكثر مما توّقعت.