لا حوار بلغتين – ولا دولة

قالـوا عنه 02 نوفمبر 2010 0

كانت أكثر الانتخابات تنتهي مع اعلان النتائج. يفرح من يفرح، وبحزن من يحزن، ثم يتدخل الوقت كالمعتاد ويصالح أهلَيْ القاطع. كانت للناس شؤون خاصة يعودون اليها، وهموم ذاتية وعائلية يتدبرونها، ويتركون للدولة تولّي هموم البلاد. لا اعتقد انه خطر لاحد ان ينافس فيليب تقلا، او فؤاد بطرس في رسم السياسة الخارجية. او راق احداً ان يلقّن رشيد كرامي درساً في العروبة او الاسلام. وهذا لا يعني انه لم يكن للمعارضة رأي في كل شيء، ونقاش في قضايا المصير، ومشاركة فعلية ودائمة في قضايا الوطن. كذلك كان للنقابات دورها الحقيقي واستقلاليتها الملحوظة، وكانت اعمالها وهمومها نقابية انسانية غير خاضعة لتقاطعات الدواليب السياسية.

ونشط النقابيون في اليمين وفي اليسار. ورفعوا شعارات متقاربة. وكان حزب الكتائب يمثّل قسطاً واسعاً من الطبقة الوسطى والشاغلة، بل هو وضع “العمل”، اسماً لجريدته اليومية، وتفوّق اليسار في اجتذاب العمال والكادحين، بحذاقة سببها الانفتاح على حركات العمال في العالم. ويذكّر ذلك بما رواه الكاتب جان دونيو عن بلدته. فقد كان الحزب الشيوعي فيها يقاتل من اجل رعاية عيدي شفيعيها، القديس منصور والقديس برنابا، وبذلك يربح انتخابات البلدية على رغم خسارة الطريق الى الجنة، في رفقة المسيو جاك دوكلو.

المؤسف ان الانتخابات في لبنان لم تعد تنتهي مع اقفال الصناديق. ولم تعد تبدأ بفتحها، فالسباق ليس على رغبة الناس، لانها لا تعني شيئاً الا لفريقها. واما الفريق المقابل فيعتبر الجماعة المضادة تجمعاً مغرراً به، منقاداً إما بالمال الطاغي وإما بالعصبية الطاغية، ومنحازاً في جوهره الى جهة خارجية: الشرق ممثلاً في هذه المرحلة بايران والجمهورية الاسلامية ونظرتها الى المنطقة والعالم، والغرب ممثلاً كالسابق بالولايات المتحدة، على رغم التغيير المذهل الذي جعل بناة الهرم يغيّرون رأسه.

في كل انتخابات في العالم، ثمة مخرجان: او بنت او صبي. اما الحال الثالثة، اي التعادل، فهو مأزق لكنه ليس طريقاً مسدوداً: له احكامه، وله تحكيمه، وله حلوله. هذا اذا كنا نؤمن بالتحكيم وبقوانينه وبالقواعد والاعراف الانتخابية. وهذا اذا كنا نعتبر الانتخابات، كما في بلدان الارض، مدخلاً الى مرحلة جديدة من البناء وشركة المستقبل وتحصين المصير.

لا يمكن ان يقوم بلد يتحدث لغتين. اللغتان هما الطريق المسدود. وهذا يعني اننا على سكة واحدة، ولكن على خطين متوازيين ولن نلتقي ابداً. واذا التقينا ففي اصطدام هائل. يزيد في هول التصادم وخطورته ان اللغتين ليستا متناقضتين فحسب، بل هما عنف وزبد وشرر.

لا يمكننا الاستمرار في الحالة اللفظية التي فرضت علينا كنهج حياة. هذه الحالة العصابية لها فائدة واحدة هي زيادة الانتاج في مصانع المهدئات والمسكّنات. والابحاث تقول ان اللبنانيين في طليعة المستهلكين لها بنسبة تفوق 85% وقد حان لنا ان نقوم الى العمل.

كان نهرو يقول ان كل النيات الحسنة لا تستطيع ان تحوّل الحصى ارغفة. وقد حدث ذلك مرة واحدة في عظة الجبل، ولن تتكرر.

اختصر الرئيس ميشال سليمان المسألة بجملة بسيطة وهو يقترع، اذ قال انه يأمل ان تنهي الانتخابات حال “التشنج”. بمعنى الخروج من مناخ اللهجة الهتلرية الى مناخ الوطن والبساطة والعمل والسعي. فالكلام اليومي عن الدين العام لا يسدد فلساً واحداً منه، لكن سنة واحدة من الاستقرار في بلد منتج تسدد الكثير، وتنشر في البلد الازدهار، وتعيد الى بيروت مئات الآلاف من الذين فقدناهم من اجل ان تعتصم المعارضة في قلب المدينة طوال عامين.

ليس هناك طريقان ولا حلان: الازدهار لا يأتي الا من الطمأنينة. والطمأنينة لا تبسطها نشرات الاخبار التلفزيونية التي يتعرض لها اللبناني كل مساء، ولا يعرف من سوف يزعّق فيه، ومن سوف يؤنّبه ويعنّفه، ومن سيضرب “بسرمايته” على الطاولة في وجهه وعلى مسمعه.

نأمل ان يكون الكثير من هذه الضرورات والمستلزمات قد انتفت الحاجة اليه وبدأنا العودة الى بلد لا يخجل فيه ابناؤنا بما يتلفظ به شبابنا.

نأمل ان تكون هذه بداية لقيام زعامات حقيقية، وقيادات سياسية خلاقة. رجال يفتحون ابواب المدارس والجامعات، ويساعدون في اقامة المصانع، ويسدون مخارج الهجرة، ويفتحون ابواب العودة. لقد تسبب السادة السياسيون بهجرة مئات الآلاف، سواء بمدافعهم الميدانية او اللفظية، وملأوا آفاق لبنان دخاناً اسود وزعيقاً ويأساً، وماذا بعد؟ متى يحين وقت النزول من الشرفات لمخاطبة الناس في بيوتهم. في حياتهم اليومية. في فقرهم المستور. في الحجارة التي لا يمكن ان تتحوّل ارغفة؟

* مرة اخرى تتمثل الصحافة في البرلمان، بوجه جميل من “النهار”. انها حكاية قرن من السياسة والصحافة في عائلة واحدة، عرفت عز الحكم وعز السجون واعتزاز الشهادة. نايلة تويني لن تكون نائبة الدائرة الاولى، بل دائرة الحريات ودولة القانون.

ولنا في الزميل الكبير نهاد المشنوق فرح خاص، ولو متأخراً بضع دورات. قلائل مثله رجال معرفة وخبرة وأفق متعدد ودماثة صلبة، وأدب جمّ.

ومبروك للزميل عقاب صقر في باكورته السياسية وبالتوفيق.