كنبة جوزف ..

مقالات 26 فبراير 2007 0

في الأخبار أمس. في أروقتها. في غرفها. في الذهول في أعين الرجال. في دموع الصبايا. في صباح التي لا أراها متقدة إلا وصورة جوزف على جبينها. في إبراهيم الأمين السيد الصديق اللصيق لكل من يحب ويرعى.
كذلك في السفير حيث الهدوء الغائب لجوزف موجود على كل الطاولات وفي كل الأذهان.
في كل هؤلاء حضر جوزف سماحة بالأمس، كما لم يفعل في حياته. كيف يحضر إنسان بهذا العنف يوم غيابه عن الدنيا؟
جوزف سماحة اليساري العارف بدقائق الصيغة اللبنانية. اللبناني المعني جملة وتفصيلا بالقضية الفلسطينية. الفلسطيني القادر على متابعة التفاصيل الغائبة عن أذهاننا جميعا في المجتمع الإسرائيلي. الحديث الى درجة أنك حين تدخل الى مكتبه تجد نفسك محادثاً للغرب. عصري الى درجة الإحاطة بكل ما في العالم من جديد.
مكتبه؟
ليس هناك في حياة جوزف غير مكتبه في السنوات القليلة التي عرفته فيها. يعيش فيه كأنه يخاف لو غادره أن يفقد خبراً أو سطراً أو كلمة.
يكون في أول المواقع فلا يعرف عنها إلا جهده في سبيل نجاحها . هاء التأنيث هنا تعني المهمة المكلّف بها. لا الراحة بعد سنوات طويلة من التعب.
كأنه شيخ طريقة. تمتزج فيها كاثوليكيته الخجولة. بلبنانيته الخاصة. بيساريته المتطورة. بعروبته الدائمة. فيصير له مريدين أكثر مما له من الزملاء وله من الأصدقاء أقل بكثير مما له من زملاء.
في حلقته الصلبة الضيقة تجده كالكتاب المفتوحة صفحاته. لكل صفحة من عقله لون. ولكل لون بريق المعرفة. وللمعرفة معه تواضع العالِم المدقق فيما يقرأ وفيما يقول. يعرض أمامك ما يعرفه على صيغة سؤال. ويترك لك الإجابة فكأنك أنت السائل وأنت المجيب.
في أسطره الكثير من الاشتباكات. وفي أحرفه الأكثر من الارتباكات. لكنه بداية ونهاية ليبرالي حتى النصر. صحيح أن جوزف هادئ الأطباع الى حد أنك لا تشعر بوجوده لساعات وأيام لو كنت مجاورا له في المكان. لكنه حاد كالسكين في الدفاع عما يعتقده صواباً في المسألة العامة.
جوزف المستلقي على الكنبة في مكتبه. القارئ لكل ما يرد ليده من أوراق تلمّها صباح له من عواصم العالم. القادر من بين قلائل على رؤية الصغائر التي ستتحول الى كبائر في المستقبل الأقرب من طرفة العين. من النوادر القادرين على أن يكونوا على الكنبة نفسها في مكتب باريسي أو في لندن أو في بيروت أو في القاهرة.
لا تتغير موهبته في استشراف الآتي من الأحداث ولا تتبدل هواجسه مما يرفضه من الوقائع أو الأشخاص. فالحديث الهادئ معه فيه من الاستقرار ما لا تراه في دعوته الدائمة الى التغيير حينما يكتب وأينما كتب.
حين قابلته في المرة الأولى قبل 14 سنة، كان يريد الانكباب على معرفة المجتمع الإسرائيلي حتى الوصول الى التأثير عليه من باريس. حين زاملته منذ سنتين في السفير غمرني بخجل معرفته وحداثة إطلاعه. لكنه اعتمد هذه المرة على إعلانه الأكيد وشبه اليومي على تغيير الصيغة اللبنانية.
حين قابلتة في الأخبار بدا الانقلاب في كلماته على ما تقدم وما تأخر.
خجله وهو ينظر في عينيّ، جعلني أرى فيه محاولة حلم. لا تستطيع رفضه حتى لو لم تكن قادراً على قبول سياسته.
أمسك بالبندقية في آخر العمر حتى ولو يكن قادرا على رفعها. ترك للسيد إبراهيم الصديق اللصيق الحلم والوهم. اختار الغياب الهادئ. حتى لا يحاول أحد مساعدته.
غرفة في لندن التي زارها دعماً لصديق ومواساة لزوج. ربما رأى فيها ما يشبه مكتبه الذي اشتاق إليه. كنبة أو أوراقا أو قلم حبر. قرر الآن هنا أن يغيب مخبّئاً هدوءه تاركاً لنا حضوره حيثما هناك قلم وورقة وكاتب اعتبر طوال حياته رأيه هو الزمان والمكان.