كليــة بيــروت “للعشــق” الســياســي..

مقالات 16 فبراير 2009 0

يتندّر أصدقاء السفير السعودي “السابق” في لبنان الدكتور عبد العزيز خوجة “وزير الإعلام والثقافة منذ أول أمس”. يتندرون في حكاياتهم عنه ـ مع قليل من الحسد ـ أنه خدم دبلوماسيته في أربع من أعرق العواصم. العراقة هنا ليست من التاريخ فقط بل من الجمال الذي حبا الله به هذه المدن و”أهلها” أيضا.
بدأ حياته الدبلوماسية سفيرا في تركيا بعدما كان أكاديميا كيميائيا، ثم حمل معه عناصر تركيبته الى الإعلام. في أنقرة عاصر اثنين من كبار البنائين الحديثين. الأول تورغوت أوزال رئيس الحكومة الذي شهد عهده تطوراً عمرانياً كبيراً في البنية التحتية لاسطمبول وغيرها من المدن. ونشأت صداقة بين الاثنين جعلتهما يتواطآن على تعطيل مجلس النواب في غياب النصاب الذي كان محققاً في دعوة السفير السعودي لعدد كبير من النواب إلى منزله “للاستئناس” برأيهم قبل تناول العشاء وبعده. الجلسة كانت الأخيرة في العقد العادي للمجلس.
الهدف كان اتخاذ الحكومة التركية قرار المشاركة في حرب الخليج الأولى لتحرير الكويت دون العودة الى مجلس النواب. وقد حصل. هذا كان النجاح الدبلوماسي الأول للسفير خوجة في بلد تعلم الكثير من مفردات لغته وأضاف إلى طباعه ما عرفه من تاريخ السلطنة العثمانية.
البنّاء الثاني كان نجم الدين أربكان الزعيم الإسلامي الكبير الممتد في حركته إلى العالمين العربي والإسلامي. حمل معه السفير خوجة الى أربكان عبق مسقط رأسه أي مدينة مكة المكرمة. فصار الزعيم التركي يسعى إلى مزيد من قداسة المدينة بزيارات إلى واحد من أبنائها يرافقه فيها شباب، صاروا بعد ذلك في المراكز القيادية الأولى في تركيا.
شهدت على ذلك حين كنا سوياً ـ السفير وأنا ـ إلى طاولة في العشاء الذي أقامه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على شرف رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان في السرايا الكبيرة في بيروت.
دخل أردوغان بجلالة “سلطنته” وبطوله الفارع المماثل لقامة الرئيس ميقاتي، فإذا به يلتفت يمينا ليتحدث بالتركية الى السفير خوجة ملاطفاً إياه كما بدا من الابتسامات والكلمات المتبادلة بين الاثنين.
المحطة الدبلوماسية الثانية كانت في موسكو حيث جمال المدينة القيصري. وذلك في فترة السنوات الأخيرة من حكم الرئيس يلتسين حين كانت العائلة هي الحكم.
اكتشف السفير خوجة مفتاح الدخول الى الكرملين. إذ كانت السفارة السعودية مقصد الأقليات الإسلامية المنتشرة في أرجاء الجمهورية الروسية، وكان السفير يحرص على نصح زعمائهم بالتزام البقاء في سياق الدولة المركزية بدلا من الانسياق وراء الدعوات الانقسامية التي تجعلهم أكثر فقراً وتزيدهم حصاراً من حولهم.
تصل النصيحة الدبلوماسية السعودية إلى الكرملين فتفتح للسفير خوجة أبواب الصلة والاتصال «بالقيصر» الحديث ومحيطه.
المحطة الثالثة هي المغرب حيث تحكم السلالة الملكية الثالثة في العالم مع ما يعني ذلك من تراكم أندلسي في الموسيقى والشعر والشكل الحسن أيضا.
التقدير في المملكة المغربية يكون من الراحل الملك الحسن الثاني شخصيا. فهو حين يستلطف أحداً يشرف شخصياً على ما يأكل ويشرب ويرى أيضا. فكيف “للشاعر” في السفير خوجة أن لا يستجيب لما حوله من مكرمات ملكية؟
وصل إلى بيروت سفيراً منذ أربع سنوات وعدة أشهر. كانت العاصفة على أشدها بين قوى 14 آذار والوجود السوري العسكري والسياسي، في بلد تعوّد لسنوات طويلة على قدرات الصلات السعودية الفعالة للرئيس رفيق الحريري.
ما هي إلا أشهر قليلة حتى حصل زلزال اغتيال الرئيس الحريري، فوجد نفسه في صحراء سياسية فيها الكثير من الغبار والقليل، القليل، من الإشارات التي تدلّك إلى الهدف الذي تسعى إليه. جاهد وصابر وخالف من أحب وعاشر من لم يحبّ، لكنه احتفظ دائماً بقدرته على أن يمثل سياسة بلاده في أصعب الاشتباكات. شهد الحرب على الجبهة الجنوبية مع إسرائيل وعاصر حروباً صغيرة ما اعتاد عناوينها ولا استطاب معرفة من قاموا بها. لم يقم بذلك تمثيلاً لسياسة مليكه فقط، بل لأحلام العاهل السعودي الذي يحمل على أكتافه وفي ثنايا عقله ستين سنة من صفاء العروبة المعرّضة للاهتزاز في لبنان.
شعر الدكتور خوجة بعد حرب تموز من العام 2006 أنه أصبح سفيراً على خطوط التماس مع العالم بسياساته وصراعاته، وأن عليه ألا يضيّع البوصلة. وقد نجح في ذلك. بلغت حماسته للبنان الحد الذي كتب فيه قصيدته عن البلد الذي أحب وألقاها في حفل تخرج الجامعة اللبنانية ـ الأميركية في الصيف الماضي، حيث كرّم باعتباره صديقا عزيزا على اللبنانيين.
بعد أربع سنوات من العمل في صحراء السياسة اللبنانية، دخل السفير خوجة متأخراً الى حفل إفطار رمضاني منذ أشهر حضرته خمسمئة “حيثية” اجتماعية وسياسية واقتصادية لبنانية في فندق بيروتي، فإذا بالحضور حين يتنبّهون إلى دخوله يصفقون وقوفاً له، فيظهر خجله “المكيّ”متمتماً بكلمات الاعتذار المختلطة بالشكر على ما تفضل به الحضور من تكريم له.
منذ يومين تخرّج السفير خوجة من كلية بيروت “للعشق” السياسي. عيّن وزيراً للإعلام والثقافة في بلاده. أضاف إلى ألقابه الكثيرة لقباً. لكن الأحب إلى قلبه ـ لمن يعرفه ـ هي صفة الشاعر الذي يرسم في الغزل صوراً صوفية يحلّق فيها الى حيث يريد أن يكون. لحق به الغزل حتى في مرسوم تسميته وزيراً الذي صدر في عيد الحب.
نهاد..