كلمة الوزير نهاد المشنوق خلال حفل التسلّم والتسليم في وزارة الداخلية والبلديات
حصل التباس بالأمس، بين من أزال الحواجز الإسمنتية على باب وزارة الداخلية، ولكن لا داعي لتجعلوا من الحائط جدار برلين، أنا نفّذت تعليمات الوزيرة ريّا الحسن.
بكل الأحوال، السيدات والسادة، أيّها الحضور الكريم،
“لو دامت لغيركَ، لما اتّصلت إليكَ”، حكمةٌ أصرّ الرئيس الشهيد رفيق الحريري على نقشها فوق بلاطة كبيرة، على مدخل السراي الحكومي، لتذكّره وتذكّر كلّ عابر في الحكومة، وفي السلطة، بأنّ القاعدة الأولى هي احترام تداول السلطة. لأنّ تداول السلطة هو جوهر الديمقراطية، وجوهر أيّ نظام سياسي ناجح. أقف هنا اليوم، بعد نحو خمس سنوات في وزارة الداخلية، لأسلّم الأمانة إلى الصديقة معالي السيّدة ريّا الحسن، المحترفة في كل ما تقوم به، والدقيقة في كل حساباتها.. هي فخر لكل اللبنانيين، وللبنانيات، أعتزّ به قبل غيري.. إنها السيدة اللبنانية الأولى التي تتسلم وزارتين سياديتين، والأولى عربياً في الداخلية اليوم وفي المالية قبلاً.. وهي لم ولن تكون الا على قدر إحترامها لذاتها وإحترام اللبنانيين لها. يحضرني في هذا المقام قول محي الدين إبن عربي، الصوفيّ الشهير: “كلّ شيء لا يؤنّث لا يُعوّل عليه”. نعم! يصحّ هذا في كلّ شيء، حتّى في وزارة الداخلية. حين عدتُ إلى هذا المبنى، وزيراً للداخلية،متسلّحاً بثقة الرئيس سعد الحريري وأخلاقية الرئيس تمام سلام، بعدما خرجتُ منه قبل عقدين تقريباً، متّهماً بوطنيتي ومنفياً خارج البلاد… حين عدتُ إليه قلتُ إنّني وصلني حقّي في السياسة، من دون أن أحمل معي عقلية ثأرية تجاه أحد. فالثأر من الاخرين هو دين مؤجّل اتجاه النفس، لا بد أن يحين وقته لو اعتمده أي إنسان في موقع السلطة وفي مواقع الشأن العام. ومن محاسن الصدف، ومن مكرمات سخرية التاريخ أنّ مركزاً تابعاً للمخابرات السورية، سبق وتم احتجازي داخله في عرمون، صار اليوم معهداً لقوى الأمن الداخلي، ووقّعت داخله اتفاقية مع الحكومة البريطانية ممثلةً بالسفير البريطاني، ولم أنتبه أنّه المبنى نفسه إلا حين هممنا بالخروج.
إختار الرئيس سعد الحريري تعييني وزيراً للداخلية في حكومتين، أولاً في حكومة الرئيس تمام سلام ثم في حكومة برئاسة دولتُه، ولا يسعني إلا التعبير له عن عميق امتناني لثقته، التي يقول لي البعض إنّها أصبحت ماضياً مضى،وأنا لا أريد أن أصدّق. منذ اليوم الأول وعدتُ أن أكون وزيراً لكلّ لبنان ولكلّ اللبنانيين، من دون أن أساوم على ثوابتي السياسية أو قناعاتي الوطنية. خمس سنوات مارستُ في خلالها قولاً وفعلاً مسؤولياتي كوزير لكلّ لبنان، وكنتُ أعرف أنّه خيارٌ ستترتّب عليه الكثير من الأثمان عند الحلفاء، والكثير من النكران عند الخصوم، وما خاب ظنّي فعلاً. لكنّني أخرج من هذا المبنى، بضمير مرتاح. أما لمن يسرفون في إصدار الأحكام، فأدعوهم للعودة إلى النصوص السياسية التي قلتها أو كتبتها في السنوات الخمسة الماضية، لا أن يستندوا إلى أوهام وتسريبات وانفعالات… خمس سنوات لا تقاس بأيامها ولياليها. هي جزء من ذاكرتي وتجربتي، لكنها في المحصلة العامة جزء من ذاكرة وتجربة وطن صعب. حققنا الكثير وربما قصرنا أكثر. سأترك هذا لحكم للناس. لو قُدّر لي أن أوجز، سأختصر خمس سنوات بخمس محاولات نجاح، قُدِّرَ لي أن أقدّم من خلالها إلى لبنان واللبنانيين، ما هو حقّ لهم ومسؤولية عليّ.
سوف أبدأ أولاً بالخطة الأمنية: دخلت حكومة الرئيس تمام سلام وزيراً للداخلية في واحدة من أصعب المراحل السياسية والأمنية في تاريخ لبنان، فكان لا بدّ من خطة أمنية، تستعيد أمن الناس وهيبة الدولة، خلافاً لرغبات الكثيرين. كانت طرابلس، مدينة السيدة ريّا، أسيرة جولات الاقتتال الطائفي العبثي المفروض على المدينة، وكان اليأس بدأ يتسلل إلى نفوس اهلها بأن لا مخرج من هذه الدوامة المدمرة للمدينة ونسيجها واقتصادها وصورتها. في عاصمة الشمال كان الإنجاز الأكبر، ونجحت الدولة في ضرب رأس مشروع الفتنة. بقوّة الشرعية وقوّة القرار السياسي، بالدعم والمتابعة الدائمة من الرئيس سعدد الحريري، ولو عن بعد، أعدنا إليها أمناً مستحقّاً وأعدنا لها بعضاً من حقّها الكثير علينا وثبت من دون شكّ أنّها مدينة الاعتدال، مثل الكثير من المدن في لبنان. لا يُخفى أنّنا في الأماكن التي قصرنا فيها، وتحديداً في البقاع، قصرنا لأسباب، كما معظم السلبيات في لبنان، ناتجة عن الوهج الفاعل للسلاح خارج الدولة. لقد صارحتُ كل اللبنانيين في هذا الأمر، وطرقتُ كلّ الأبواب، ولم يسمع أحد إلا حين صار هذا الفلتان عبئاً حتى على جمهور وبيئة السلاح غير الشرعي. في الأاشهر الاخيرة تغيّر الوضع بفضل الجيش اللبناني وليته تغيّر قبلاً، لكنّا وفّرنا على أهلنا في البقاع وبعلبك الهرمل الكثير من المعاناة. واختصاراً، لا حلّ لكلّ هذه اللاشرعيات، إلا باستراتيجية دفاعية وطنية.
ثانياً: لبنان الآمن نجحت إستراتيجية “لبنان الآمن”، فيما الارهاب يضرب داخل عواصم أوروبا الكبرى. لم يكن صدفة، بل جاء ثمرة جهود ضخمة قمنا بها لرفع مستوى التنسيق بين الأجهزة الأمنية اللبنانية مع قيادة الجيش السابقة، ومستمرّة مع القيادة الحالية، لتوحيد المقاربات لتحقيق انتاجية أمنية مختلفة. بالكثير من الصبر والانفتاح حوّلنا، بقدر المستطاع، منطق التنافس الأمني السلبي بين الأجهزة إلى منطق التنافس الإيجايي بينها، وكما يقول اللواء عماد عثمان، للتكامل بينها. والنتيجة: ثلاث سنوات لم تشهد خلالها أي منطقة لبنانية، وعلى رأسها العاصمة بيروت، اعتداءً إهابياً واحداً، بل كان الأمن الاستباقي هو العنوان الابرز. فُكِّكت شبكات واعتُقل إرهابيون وأُحبِطَت عمليات لم يتوقف عقل الشرّ عن التخطيط لها، ولم تتوقّف أجهزتنا، وأوّلها شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، كذلك الأمن العام، عن المتابعة، فتحية لكل الضباط والعناصر والتحية الدائمة لذكرى اللواء الشهيد وسام الحسن. حملتُ هم الأمن الي كل العواصم التي تسنّى لي زيارتها في العامين 2014 و2015، ومعي المعنيين من الأمنيين، من موسكو إلى لندن وباريس وواشنطن وإلى أبو ظبي، ومتأخراً الرياض. ونجحنا في فتح الابواب والتعريف بالإنجازات الأمنية اللبنانية الكبيرة، حتّى صارت الاجهزة اللبنانية مرجعاً موثوقاً، وشريكاً مساهماً عن جدارة ومعتمداً في العواصم الكبرى.
ثالثاً: الإنجاز الاداري أبدأ من الانتخابات النيابية وقبلها الانتخابات البلدية، وهما كانتا محطّ تقدير كبير من مراقبي المجتمع الدولي، إن لجهة نزاهتهما أو لجهة حسن التنظيم. وقبل ذلك، والأهم، كانتا محطّ احترام الكثير الكثير من اللبنانيين. يشرّفني أنني كوزير للداخلية اشرفت على إنتخابات كنت مرشحاً فيها ولم أكن راضياً عن نتيجتي الشخصية. الانتخابات النيابية ليست تحصيلاً حاصلاً كواحدة من وظائف الوزير. في لبنان كانت اختباراً صعباً للوزارة وكافّة أجهزتها. فكنّا أمام قانون جديد بالكامل، واستثنائي بتعقيداته، لم يبصر النور إلا قبل ستة أشهر من موعد الاقتراع، أما التمويل فلم يتوفّر إلا قبل شهرين من ساعة الصفر. أمام تحدٍّ من هذا النوع، برهنت إدارة الوزارة عن كفاءةٍ غير عادية، وهو نجاح يقف خلفه جيش من الموظفين والمدراء، والمدنيين والعسكريين، عملوا كمتطوّعين، بلا كلل ولا ملل. ولأنّ الإدارة بالإدارة تُذكر، لا بدّ من الإشارة إلى التطوير الذي عملت عليه وزارة الداخلية، من خلال التطوير التقني البيومتري الذي شمل دفاتر السوق ودفاتر السيارات واللوحات الآمنة الجديدة، بالتزامن مع تطبيق قانون السير الجديد. دون أن ننسى حلّ المشكلة القانونية المزمنة لمتطوّعي الدفاع المدني وإنصافهم بما يستحقّون وما يقدّمون للوطن من تضحيات جسام. أعتزّ أنّه قُدِّرَ لي أن أحقّق للإدارة اللبنانية ملء الشواغر كلها في وظائف الفئة الأولى داخل الوزارة، بالتعاون مع الرئيس ميشال سليمان والتنسيق الأكيد مع الرئيس تمام سلام. تمّ ذلك بسلاسة وسهولة ودون عقد، بالاعتماد فقط على المعايير الإدارية والقانونية والأعراف، حتى الطائفي منها.
رابعاً: في مسألة السجون بين الإدارة والأمن، كان ملفّ السجون أساسياً. إنتقلنا بسجن رومية من أبجدية الفوضى، التي كنتم تتابعون أخبارها في نشرات الاخبار بين المبني ”دال“ والمبنى ”ب“، إلى تحسينات جديّة في المباني، وأعدناه إلى سلطة الدولة الكاملة. جهود كبيرة بذلت إستحدثنا بنتيجتها سجن الأحداث وسجن الخصوصية الأمنية، في حين عقدنا شراكة مع القطاع الخاص والكثير من أصحاب الأيادي البيضاء على الدولة، منهم حاكم المصرف المركزي الأستاذ رياض سلامة، ورئيس “جمعية المصارف” في ذلك الحين، الأستاذ فرانسوا باسيل، بهدف بناء سجن نموذجي في منطقة مجدليا في الشمال، يطابق المواصفات المتقدمة والحديثة في بناء السجون. وبالفعل وُضَعَت الخطط وتمّ التلزيم وحان وقت وضع حجر الأساس أمام معاليكِ، لمشروع سيساهم في حلّ جزء من أزمة السجون في لبنان. كما أفتخر بأنّ أبواب السجون فُتحت أمام منظمات حقوق الإنسان والصليب الاحمر الدولي، بوتيرة أسرع من السابق، لوضع تقارير وتوصيات حول كيفية تحسينها ورفع كفاءتها الإنسانية. لا يذكر ملفّ السجون من دون ذكر ملفّ الموقوفين الإسلاميين، الذي أثار الكثير من السجال، أقلّه بحقّ وأكثره بغير حقّ. لم يكن هذا الملف يوماً استهدافاً للإسلاميين أو لعنوان المسلمين، كما هو التعبير السائد، بل كان أمامنا تحدياً للدولة وهيبتها جراء سيطرة مجموعة من السجناء على السجن لسنوات، بمبناه، وتحويله إلى مقرّ لإدارة الارهاب، الذي استفحل بعد بدء الأحداث في سوريا. على من يشكّك في ذلك أن يعود إلى رؤساء هيئة العلماء المسلمين على تعاقبهم، وكلّهم ممن تعاونت معهم لما فيه خير الدولة والقانون واستتباب الأمن وعدالة القضاء. رجائي وتوصيتي الوحيدة اليوم لكي لا أطيل النقاش هو تحقيق العفو العام بأسرع وقت ممكن، وفق معايير جدية ومنصفة وعادلة بعيداً عن الطائفية وأمراضها، والهوس الأمني وشطحاته غير المنصفة في معظم الأحيان. هذا في الوقائع. أما في الأمانات وهي متعدّدة، أنقلها إلى معاليكِ، واثقاً أنها ستلقى حسن رعايتكِ، راجياً أن تُوَفَّقي في التدبير والتنفيذ.
خامساً: الخطة الخمسية لقوى الأمن الداخلي: خلال السنوات القليلة الماضية لاحظ اللبنانيون ارتفاع مستوى الأمان الاجتماعي ونسبته، من حيث قدرة الأجهزة الأمنية على توقيف أيّ قاتل أو سارق في فترات زمنية قياسية، وبعد ساعات قليلة من ارتكاب الجريمة. كانت منجزات قوى الأمن الداخلي الكثيرة، حافزاً لإطلاق الخطة الخمسية، للسنوات الخمس المقبلة، بهدف تطوير عمل هذه القوى والمراكمة على نجاحها. حازت الخطة، التي استهلكت نحو سنة من العمل اليومي الجبّار، على دعم مؤتمر روما الدولي. من تباشير هذه الخطة ولو القليلة، بدأ قبل أسابيع في افتتاح أقسام الشرطة المجتمعية في عدد من المناطق، لتقريب المواطنين من الشرطة وتغيير النظرة التقليدية اتجاه قوى الأمن بين اللبنانيين. لن أنسى بالطبع الأمن العام، الذي لعب دوره دائماً كما يجب، وقام بالمهمات الملقاة على عاتقة، وساهم في حفظ الأمن من خلال عمليات جنّبت لبنان ويلات وأزمات. كما عمل المدير العام اللواء عباس ابراهيم (شفاه الله وقد اعتذر عن عدم الحضور اليوم بسبب وعكة صحية) على تطوير العمل الإداري والتقني، ولعلّ أبرز ما أنجز في السنوات الأخيرة، عدد من المباني في المناطق، فضلاً عن جواز السفر البيومتري والبطاقات البيومترية، وحسن العلاقة بين الأمن والمواطنين في الأمن العام. الأمانة الثانية هي مكننة الأحوال الشخصية، التي هي ذاكرة كلّ اللبنانيين، الأحياء منهم والأموات، الصغار منهم والكبار. هذه المكننة قطعت شوطاً جديّاً في اللجنة الوزارية المعنية، ووافق عليها الجميع، وهي برعايتكِ ودقّتك العملية، مع المدير العام للأحوال الشخصية العميد الياس خوري، قادرة أن تكون جديّة ومثمرة في أسرع وقت ممكن، إنقاذاً للانتخابات ولجهد المواطنين وتعبهم في دوائر النفوس من مشاكل تعود إلى عشرات السنين، وخلال أشهر قليلة ماضية تمّ تطوير وحلّ جزء جديّ منها بإمكانات قليلة ومتواضعة. الأمانة الثالثة هي مبنى وزارة الداخلية، درسنا مع شركة هندسي كبرى إمكانية إنشاء مبنى من 14 ألف متر بناء، وأعددنا خرائط مبدئية، ووعدنا وزير المال علي حسن خليل، وهو صدق معي دائماً، كما في السجون، وبمكن تجزئة الكلفة على ثلاث سنوات، وهي ليست مبلغاً كبيراً، ليضمّ المبنى كلّ الإدارات ما عدا الأمنية منها والدفاع المدني طبعاً، فتكون إمكانية التواصل أسهل. لن أحمّلك من الآن أكثر الملفات تعقيداً، وهو ملفّ النازحين السوريين، لكنّ وزارة الداخلية دورها أساسي في هذا الموضوع، وتعقيداته كثيرة. لنتركه للأيام.
ختاماً: في السياسة جرت العادة أن لا تكون هذه مناسبة للكلام السياسي. لكن لا بد من كلام سياسي أرجوه بدايه وليس ختاماً، لا سيما أننا نعيش في لبنان والمنطقة لحظات مصيرية بكل المقاييس والمعاني. دخلتُ إلى هذه الحكومة وقبلها في حكومة تمّام بك، على وقع أخطار محدقة بتجربة الحريرية السياسية، التي عانت من الاغتيال الجسدي والمعنوي، ما تعرفونه عن ظهر قلب، وأخرج من الحكومة على وقع أخطار محدقة بالحريرية الوطنية، بما هي الدولة والطائف والسلم الأهلي، وإن كنت لا أحبّ تعبير “السلم الأهلي” وأفضّل عليه “السلم الوطني“. لقد تحمّلت الحريرية الوطنية الكثير من الأعباء المعنوية، والسياسية نتيجة تقلّبات الظروف والأوضاع في لبنان والمنطقة. مررنا بتجرتين قاسيتين خلال السنوات العشر الأخيرة، أريد أن أوجزهما، من دون الدخول في الأسماء. في التجربة الأولى، بعد إقالة الرئيس سعد الحريري، كان الوضع الإقليمي مختلفاً عما هو الآن، وكانت قدراتنا أكبر على التحمل والمبادرة وربما أكثر، لكنّنا تردّدنا ولم نفعل لأسباب كثيرة، سيحين موعد تعدادها والدخول في تفاصيلها لاحقاً. أما التجربة الثانية، الحديثة العهد خلال الأشهر الأخيرة، فجرت في ظروف محلية وإقليمية ودولية مختلفة تماماً. وينبغي الاعتراف أنها ظروفٌ ليست لصالح هذا الاتجاه، إلا أنّه ينبغي الاعتراف أيضاً أننا لم نفعل بمقدار ما هو ضروري… ارتبكنا في إدارة التسوية حين كانت التسوية هي الخيار العاقل الذي يحمي الناس والبلاد. إنّها مكاشفة من القلب الى القلب، عن الواقع المرّ الذي نشهد على نتائجه كلّ يوم، ونحن نتابع الصراعات السياسية المفتعلة، منها باسم الطائف ومنها ما هو افتئات علي الطائف. إنّ الكثير من المغالاة في استعراض السلطة والاجتهاد في الصلاحيات، ولا أقول الدستور، إنّ الكثير من المغالاة الذي نشهده اليوم لا يؤدي إلا إلى تشجيع الانهيار. مع ذلك ورغم الكثير من المرارة الماثلة في يوميات الحياة السياسية والوطنية اللبنانية، فإنّ المواجهة والاستعراض لا يجب أن يتجاوز شروط الرصانة، بهدف حماية الدستور وقواعد الشراكة وسلامة العيش الواحد. وقائع الشهور الثمانية الماضية وسياقات تشكيل هذه الحكومة دليل بسيط، من وجهة نظري، على ما يُراد للطائف كدستور، وللدولة كآلية عمل مؤسسات، وللسلم الاهلي كمُنتِج لسلامة الشراكة الوطنية بين اللبنانيين. لقد كنت واحداً ممن حملوا مع الرئيس الحريري أثقال التسوية التي أدّت إلى إنتخاب فخامة الرئيس ميشال عون، ولا زلت على قناعتي بهذه التسوية، وإن كانت لي ملاحظات على إدارة مرحلة ما بعد انتخاب الرئيس، لا وقت لتعدادها الآن، ولو أنّني أعلنتُ بعضها في حينه مع أصحاب الاستعراضات. أراد الرئيس الحريري هذه التسوية، وأردناها معه، فرصة لإعادة النصاب للحياة السياسية والوطنية ولعمل المؤسسات هرباً من أخطار الفراغ الرئاسي والتمديد النيابي، وخوفاً على مداميك النظام السياسي، وقواعد الشراكة الوطنية. لكن ما حصل من فوضى دستورية وسياسية خلال السنتين الماضيتين، من جهات لن أدخل في تسميتها الآن، أفقدت التسوية الكثير من زخمها ومن مضامينها ومن قدرتها على تحقيق الأهداف المرجوّة منها ولها. ولا لزوم للتذكير بقانون الانتخاب وتفسيراته الحكومية التي سمعناها كثيراً خلال الأشهر الأخيرة. ما أخشاه أيضاً أنّ من يراهنون أو يسايرون العقل الثأري للنظام السوري، الذي شهدنا إحياءً له بوضع تيار المستقبل ورئيسه على لوائح الإرهاب. وهي لوائح شرف في الحقيقة لكلّ جمهور رفيق الحريري. ما أخشاه أنّ هؤلاء يدفعون بالبلاد إلى مزيد من الاشتباك السياسي بدل أن تكون الحكومة الحالية بوابة أمل جديد للبنانيين. أخشى ما أخشاه أن تكون عواصف التحوّل التي تهبّ على منطقة الشرق الأوسط، مجرّد مقدمات لعاصفة أكبر تقتلع معها الكثير من قواعد السلامة الدستورية والاطمئنان الوطني، جراء حروب الآخرين .
لا أريد أن أعكّر فرحة اللبنانيين بولادة حكومة انتظروها طويلاً ويراهنون عليها كثيراً، لكنّنا في مرحلة فائقة الحساسية وتحتاج إلى درجات جديّة من المصارحة السياسية. أعود إلى المكان الأحبّ إلى قلبي.. إلى جمهور الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي سيظلّ ضريحه هو الحدّ الفاصل، بين الحقّ والباطل، بين الافتئات والحقيقة، بين الظلمة والنور.. وسيظل مع بقية الشهداء الأبرار منارةً للحقّ. دخلتُ وزارة الداخلية قبل خمس سنوات من بوابة مواجهة الإرهاب، وأخرج منها اليوم من بوابة “لبنان الآمن“،
عشتم وعاش لبنان.
وقبل أن أغادر، لن أسمّي، لكن أشكر كلّ من تعاون معي في وزارة الداخلية، وأوّلهم السيدات، فلهنّ مكان متقدّم، وأشكرهنّ من قلبي وعقلي على تجربة أكّدت أنّه حتّى في الإدارة العامة المشكو منها، كنّ عناصر جديّة وقادرة وناجحة وقدّمنَ إلى الدولة كلّ الجهد والخير والعقل، ومع السيدة ريّا ستكون التجربة دولتية أكثر، وستكون أكثر هدوءاً أمنياً، وستذهب أكثر في اتجاه تطوير الإدارة وما تحتاجه هذه الوزارة، وهي تحتاج الكثير |