كسرة خبز ..

مقالات 14 أغسطس 2006 0

علّمتني والدتي حبيبتي الدائمة وأنا طفل صغير أن التقط كسرة الخبز من أرض منزلنا اينما وجدتها. أقبّلها اضعها على رأسي، قائلاً الحمد لله.
اتبعت تعليماتها قبل ان يسمح لي ادراكي بفهم ما تقصد. الى ان فهمت لاحقاً ان كسرة الخبز هي علامة النعمة الأولى التي انعم بها الله علينا. فكيف نتركها على الأرض ونتوقع منه جلّ جلاله ان يعطينا من نِعمه الاخرى وهي كثيرة.
توسعت حبيبتي الدائمة بعد ذلك في الشرح لتطلب منّا “اخوتي وأنا” ان نلّم كسرة الخبز اينما رأيناها. في الشارع. في ملعب المدرسة. في الاماكن التي يتاح لمن في عمرنا ان يذهب إليها.
خففت عنّا من شروط الالتزام ان قالت ان باستطاعتنا لّم كسرة الخبز حين نجدها ونضعها في مكان قصي عن اقدام المارين. انها النعمة التي جعلها الله لعبيده اجمعين رمزاً لايمانهم بما منحهم وتأكيداً لاكتفائهم ورضاهم بقدره وحكمته.
كان هذا سهلاً عليّ في المنزل وملاعب الصغار وشوارع مدينتي بيروت التي لا ايمان لمثلها بمعتقدات الصغار وأفكار الكبار واحلامهم. مرت عليّ سنوات طوال وهذه العادة المعتقد تلبسني. لا استطيع منها فكاكاً. إذ ليس سهلاً على رجل يخرج من مطعم مع رفاقه فإذا به ينخفض نحو الأرض متناولاً لما لا يرونه. متمتماً بكلمات يتقصد ان لا يسمعوها. ثم يمشي حاملاً ما وجد حتى اول فسحة عالية عن الأرض ليضع عليها ما في يده.
بقيت عادتي معتقدي ضمن دائرة القدرة في المدينة التي عرفتها وعرفتني. الى ان أصبحت فنادق العالم ملاعب كِبَري في العمر. صارت مدن الدنيا بديلاً مؤقتاً لمدينتي. امضي فيها ساعات، أياما، اسابيع. اسرع الخطى نحو طائرة خاصة او رحلة عادية. المكاتب تتوزع هنا وهناك. احمل ساعة فيها توقيتان وبعض الاحيان ثلاثة حتى اعرف اين أنا واين هم واين هي. رغم ذلك يتأكد فشلي حين اتصل للاطمئنان فاكتشف ان فرق التوقيت هو الى الامام وليس الى الوراء كما اعتقدت.
شيء واحد لم يتغير. العادة المعتقد تحكمت بعيناي عالمياً. لازمتني في الفنادق والمطاعم وقاعات الطعام الرسمية في القصور. كانت الأرض تعطيني دائماً ما يضطرني الى الانخفاض والتمتمة وحمل ما لا اريد ان يراه الآخرين في يدي.
لم يكن باستطاعتي تفسير ما افعل للقريبين مني وأنا انخفض أرضاً. هم لا يسألون احتراماً. وأنا لا اتبرع بالاجابة. كنت اقول في نفسي مازحاً: لا بد انهم يفسرون حركتي وتمتمتي على انني منتسب لطريقة صوفية لا يعرفونها. وأنا لن اضيع وقتهم بالقول لهم انني على طريقة حبيبتي الدائمة عندها سيفترضون انني من عائلة صوفية.
لم تغضبني هذه العادة المعتقد ولا مرة. لم تحرجني ايضا. كنت افرح إذا ما وجدت كسرة من الخبز حيث اجلس او في طريقي لارفعها واتمتمم بالشكر لله واضعها في اول علّو تصل يدي إليه. اعتبر ان الله خصني بنعمة ابعادها من درب العابرين.
الى ان كان الاسبوع الماضي. اغارت عليّ العادة المعتقد تتهمني بتقصير لو قبلته أنا لما قبلته حبيبتي الدائمة مني.
بيك آب بيضاء مدمرة على جانب الطريق. مفتوحة من كل الاتجاهات. امتدت على مدى الاصابة التي لحقتها بدل ان تنكمش، في وسطها المشرع للسماء لمع وبرق يتلاعب مع نسيم الصيف في البقاع. تقترب الكاميرا فتزداد اللمعة، شفافة، رقراقة، كالمياه. إذا بها اكياس نايلون يلعب الهواء بالجزء الأعلى منها. في داخلها دوائر سمراء حادة اللون في جانب منها. تلتصق عين الكاميرا بها كأنها تريد ان تأكلها. إنها ربطات خبز.
رجل وزوجته كما قالت المذيعة اصيبا ونقلا الى المستشفى حيث يتلقيان العلاج من اصابات طفيفة! كانا في طريقهما من قريتهما الى زحلة لتوزيع الخبز العادة المعتقد لمن يحتاجه. نازح. مقيم. رجل. طفل. امرأة. لم يصل إليهم الخبز ولا الرجل ولا زوجته.
عادت إليّ عادات الصغر فجأة. لا شك ان الخبز، النعمة، العادة، المعتقد لطف بالسائق وزوجته. إذ كيف يمكن لصاروخ اسرائيلي ان يدمر السيارة ويبقي على راكبيها احياء؟
كيف يمكن للخبز ان يكون هدفاً عسكرياً ولا أكون الى جانبه ألم الذي فيه؟
شفعت لنفسي بنجاة السائق وزوجته وببريق الاسمر الحاد الجالس على عرشه دون ان يصاب. لا يعرف إلا النسيم البقاعي ملامساً له. عدت الى السؤال. هل يمكن لدولة الجيش الرابع في العالم ولخلاصة التقدم التقني في قواها الجوية. هل يمكن لها ان تقصف الخبز النعمة وتربح؟
هو نعمة الفقراء، المؤمنين، الصادقين، المقتنعين بدنياهم، الطامعين بآخرتهم، الأقوياء بنعمة الله عليهم، المنتصرين بمعتقدهم، بعادات من له عادة لمّ كسرة الخبز.
شفعت لنفسي مرة اخرى. هناك من هو ناصب لقامته حيث تغير الطائرة الحرام على النعمة الحلال، راسخ بقدميه في أرضه، مؤمن بحجته، ثابت على قدرته، يحفظ كسرة الخبز ليجعل منها رغيفاً من العزّة والكرامة.
يعلم المقاومون ان أهلهم لا يريدون منهم خبزاً ولو قسا عليهم النزوح من أرضهم، بل يريدون رغيف كرامة يحملونه معهم الى قراهم وبيوتهم وأرزاقهم.
يشعرون ان المقاومين صنعوا لهم الجزء الاصلب من رغيف كرامتهم. بقي القليل. ولن يبخل الله عليهم باكتمال النعمة العادة المعتقد. ولا المقاومين سيقصروا.
رحم الله رفيق الحريري، رأيته مرة في قصره وهو من هو ينخفض نحو الأرض ليلمّ كسرة خبز. يقبلها. يضعها على رأسه ويأكلها.
عرفت عندها لم لا يرى زوّار القصر منه إلا صاحبه. يأتون بالآلاف في شهر رمضان من كل سنة. يدخلون. لا يبهرهم شيء. لا يحسدونه على شيء. لا ينظرون إلا له. رفيق الحريري. شريكهم في فقرهم، وهم شركاؤه في ماله تعليماً وطبابة وسد حاجة المحتاج.
اسألوا بهية الحريري حاملة اسمه ورسمه وإرث الخير فيه. تعمل ليل نهار وسط أرانب الزواريب والاحياء في مدينتها صيدا. تطعم 45 ألف نازح يومياً دون انقطاع. مقاتلة يغمرها الفرح بما تفعل. لو استطاعت ان تضم مائة ألف نازح في حضن قدرتها، لوصلت فرحتها الى بيروت. مؤمنة تغرق في صلاتها حتى الرغبة في الحصول على رضا أهلها بعد الله. تتذكر شقيقها كلما افترشت سجادة الصلاة وتصرخ انه شهيد الفقراء كما قالت بعد شهر من اغتياله.
لو ان هناك وسام صمود يعطى لغير المقاومين لاستحقته إم نادر من عيون الاطفال الذين تدخل الاطمئنان الى قلوبهم الصغيرة.
ارتحت عندما تذكرت الرئيس الحريري يأكل كسرة الخبز. اطمأننت ان هذه العادة الأبسط من افعال الايمان ستجعل من اغتال المؤمن الفقير رفيق الحريري يقع صريع الإدانة.
لنفس العادة المعتقد لن يربح من يريد اغتيال الوطن.. وطنه.