قمة الرياض، أهمية التأسيس

مقالات 15 مايو 2007 0

 
في التقليد العربي أن كل قمة تُعقد بين الملوك والرؤساء توصف بالتاريخية. إذ إن مجرد انعقاد القمة يُعتبر حدثا تاريخيا بسبب كثرة الخلافات السياسية العربية، إلا القمةَ الأخيرة التي عقدت في الأسابيع الماضية في الرياض. فهي ليست تاريخية بانعقادها، لكن ثقل الاشتباكات المطروحة على طاولتها جعل من يومياتها محطة جدية من محطات التاريخ العربي الحديث. حتى العاهل السعودي تصرّف تجاه ضيوفه من القادة العرب والمسلمين والشخصيات الدولية المشاركة، على أنه يستعين بحضورهم ويحرص على التشاور معهم، ويؤكد صفة الإجماع لأي قرار، تخفيفا للعبء الذي مهما كان الاندفاع للتخفيف منه، يبقى ثقلا على أكتاف الحاضرين وهم يمثلون سبعمئة وخمسين مليون عربي ومسلم، فكيف بكتفَيْ خادم الحرمين الشريفين وحده؟

التقليد الثاني في القمم العربية أن مفعول قدراتها ينتهي بانتهاء جلساتها، فتصير القرارات حبراً على ورق، ويصير الورق جزءاً من أرشيف جامعة الدول العربية. قمة الرياض غيّرت من هذا التقليد، إذ إن القرارات ارتبطت بملفات مشتعلة فكانت العاصمة السعودية هي مقر الانطلاق نحو هذه الملفات، وليس التداخل في بحثها فقط.
التقليد الثالث هو أن الانطباع عن الماكينة السياسية للدولة المضيفة، أي السعودية، أنها آلة عجوز هرمة متقوقعة نحو الداخل في بلادها مّرة ً لطفرة اقتصادية تفتش عن ضوابط، ومرّات لأزمات أمنية تتسبب بها مجموعات متشددة تعطي نفسها الحق في الإيمان والتكفير. جاءت الفترة الفاصلة بين الحرب الإسرائيلية على لبنان وانعقاد قمة الرياض لتكشف عن جهوزية سياسية سعودية حديثة وشابة ومتحركة بنشاط مبرمج في كل الاتجاهات التي ترى فيها القيادة السعودية خيرها وخير أمتها.

تبيّن أن القرار السياسي المندفع إلى خارج حدود المملكة بعد استرخاء لمدة 17 سنة منذ انعقاد مؤتمر الطائف، تبين أنه استعاد نشاطه في اللحظة التي اتخذ فيها الملك عبدالله بن عبدالعزيز قرار الاندفاع مجدداً. اشتد عصب الإدارة السياسية الخارجية،واستُنفرت الأجهزة المعنية بالأمن الخارجي، فأحدثت من الفعالية في ملفاتها ما كنّا قد قطعنا الأمل منه.
السؤال التلقائي الذي يطرح نفسه، هو: لماذا تغيير التقليد بهذا الحجم وبهذه السرعة من دولة تقع في الصفوف الأولى بين التقليديين العرب؟
أولاً: أدى الفشل الأمريكي في العراق إلى خيبة أمل جدية لدى القيادة السعودية، وبالتالي تعرّضت العلاقات بين الرياض وواشنطن لهزات متكررة. ثم امتد الخلاف إلى القراءة الأمريكية لحركة “ماس” الفلسطينية، بعد ذلك ظهر التباين بين السياستين في لبنان.
وجد العاهل السعودي نفسه مضطراً إلى استعمال احتياطي بلاده السياسي للتخفيف من آثار فشل السياسة الأمريكية في المنطقة على السياسة السعودية. إذ إن هذا الفشل تسبب في فقدان المنطقة العربية لتوازنها السياسي كلياً أمام التمدّد الإيراني.

صارت طهران هي العنوان الأول في المنطقة العربية، خاصة حيث الأزمات مشتعلة، مثل فلسطين ولبنان والعراق. كل الموفدين الأجانب الذين يتقاطرون إلى عواصم المنطقة يتحدثون عن النفوذ الإيراني هنا أو هناك، ويفتشون في عقول محاوريهم عن أي معلومة أو تقرير عن السياسة الإيرانية. لم يعد للعرب مكان على طاولة الدول الكبرى. هذا قبل أزمة التخصيب النووي بين طهران وواشنطن، فكيف بعد المواجهة المحصورة بالدبلوماسية حتى الآن؟
لم تحتل إيران أياً من الأراضي العربية، لكنها حملت العلم الفلسطيني وتقدمت به نحو دول الطوق المجاورة لإسرائيل، فرفعته في سوريا حليفتها الاستراتيجية، وفي لبنان حيث “حزب الله” يُقْدم عسكريا على تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي. سهّل ذلك بالطبع غياب القوى العربية التقليدية عن الوعي السياسي فصارت الساحة العربية مفتوحة لمن يريد التقدم مدّعياً مسؤوليته عن العلم الفلسطيني.
تحرّك العاهل السعودي في الاتجاهين. عمل على استعادة حركة “حماس” إلى طاولة النقاش السياسي بعد طول انقطاع سببه الموقف الأمريكي من الحركة الفلسطينية الإسلامية. فكانت النتيجة اتفاق مكّة الذي عُقد في المدينة المكرّمة عند المسلمين، وأدى إلى حكومة وطنية فلسطينية من بعد أن كان هذا الأمر حلماً دون تحقيقه صعوبات جمّة.
الاتجاه الثاني هو المواجهة “الودودة”، إن صح التعبير مع إيران. صارت زيارات المسؤولين الإيرانيين إلى العاصمة السعودية أمرا روتينياً. أما الحوار معهم فقد كان صريحا جداً ومباشراً بحسب ما نُشر من أقوال على لسان العاهل السعودي.
أوضح العاهل السعودي من دون أن يعلن، أن بلاده لا توافق على الانتشار السياسي الإيراني خارج حدودها، مع ما ترتب على هذه الممانعة من حركة سعودية موازية صارمة في مناطق النزاع، إنما ليست مستفزّة للنفوذ الإيراني. هذا في المرحلة الأولى فقط. تصرّف العاهل السعودي من موقع مسؤولية بلاده عن المنطقة، حين استغرب توقيت الإلحاح الإيراني على التخصيب النووي. وحين سأل الرئيس الإيراني أحمدي نجاد عن أسباب التوقيت، لم يسمع جواباً مقنعاً.
الأهم أنه أعلن وأبلغ من يعنيه الأمر، أن السعودية لا تقبل باستخدام أراضيها أو أجوائها لأي جهة دولية تريد ضرب إيران. هذا واحد من جوانب الاهتزاز في العلاقات الأمريكية – السعودية. العنوان الآخر هو الالتزام المطلق من الجانب السعودي بعدم تغذية الفتنة المذهبية في أي مكان تتعرض فيه الوحدة الإسلامية للخطر.

ثانياً : لا تبدو الحركة السعودية طافية على وجه الأزمة العراقية المسلحة حتى الآن. لكن ما يتضح من أسلوب المعالجة السعودية، أن جزءاً كبيراً من المحادثات السورية – السعودية يركز على موضوع العراق، وأن هناك تصوراً مشتركاً يتبلور بين الطرفين. إذ إن حدة المواجهة بين الأطراف العراقية تجعل من الوضع العراقي بحاجة إلى ابتكارات سياسية وليس صيغاً عادية ومعروفة كما هي الحال في أزمات أخرى مثل دارفور في السودان مثلاً.
لا تأتي الضرورة لهذه الابتكارات من الطبيعة العراقية فقط، بل أيضا من الثوابت المتفجرة التي وضعتها السياسة الأمريكية في النصوص العراقية الدستورية من جهة، والوعود غير الممكنة التحقيق للقوميات العراقية من جهة أخرى. لذلك، جاء استقبال العاهل السعودي لرئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني كجزء من تصوّر لم تتضح صورته بعد، إلا أنه لا بد من أن يكون قد أخذ في عين الاعتبار أهمية عنصر التوازن السعودي بين الأطراف المتقاتلة، خاصة السنية منها، والتي دعا وزير الدفاع الأمريكي الحكومة العراقية إلى مد اليد إليها منذ أيام خلال زيارته الأخيرة للعراق.
اتخذت السعودية موقفاً لا سابق له برفض استقبال رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ومهما احتاجت هذه السابقة من تجميل تولاه وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، فمن الواضح أن الإدارة السياسية السعودية تعترض علناً على ما يسمّى بضعف المالكي من جهة، وتحيّزه المذهبي من جهة أخرى، مما يسهّل عليه أيضاً صلات وثيقة بالحكومة الإيرانية.
يعلم العاهل السعودي مدى “الإعجاب” الأمريكي بالمالكي، لكن هذه المعرفة لم تمنعه من رفض استقباله كتعبير عن رفضه لسياسته ولو كان حليفاً للأمريكيين والإيرانيين في الوقت نفسه.
وفي تقديري أن زيارة نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني الأخيرة إلى السعودية لم تنجح في تغيير موقف الملك عبد الله من الحكومة العراقية.
الأهم هنا أن الإدارة الأمريكية اعترفت من خلال مؤشرات عدة، آخرها زيارة تشيني أن الدور السعودي في العراق ليس دوراً عابراً ولا حيادياً بالطبع.
ربما من المبكّر القول، لكن لا بد من الاستعانة بمفهوم اتفاق الطائف اللبناني لأي اتفاق سياسي عراقي مقبل. إذ إنه الاتفاق العربي الوحيد الذي يحفظ للأكثرية حقها في الحكم، ويتيح للأقلية الحفاظ على مفاتيح اطمئنانها السياسي، والاقتصادي.

ثالثاً: فتح العاهل السعودي الباب أمام سياسته اللبنانية بعد غياب طويل. التزمت السياسة السعودية بالأزمة اللبنانية إلى درجة الاصطدام بالفرقاء اللبنانيين، مرة مع “حزب الله” بسبب ما سمي انفراداً بقرار السلم والحرب في جنوب لبنان، ومرة أخرى مع قوى 14 مارس لانفرادهم برفض التسوية الداخلية، باعتبارها مغامرة. استطاع السفير السعودي في بيروت الدكتور عبدالعزيز خوجة استيعاب هذه الصدمات محتفظاً بدوره كمرجعية لكل اللبنانيين، بعد أن ظهرت عليه لفترات متفاوتة آثار الانجذاب إلى هذا الطرف أو ذاك. وهو كونه شاعراً يمارس أسطر الانجذاب.
وازَنَ السفير خوجة في كل مرة يتعرض فيها للامتحان، بين دوره كمرجعية للقوى السياسية اللبنانية، وبين سياسة بلاده المندفعة نحو الحل.
حتى الآن، استطاعت السعودية أن تمنع انفجار الأزمة اللبنانية داخلياً بواسطة الهجوم “الودود” نحو القيادة الإيرانية. والأرجح أنها قامت بدورها في سحب فتيل المحكمة الدولية من الساحة اللبنانية وإرسالها إلى مجلس الأمن الدولي، على قاعدة أن استحقاق رئاسة الجمهورية المقبل على لبنان لا يستأهل الاشتباك المباشر، وإمكانية الاتفاق عليه ما زالت متوفرة برغم كل العناوين الحادة المعلنة قبل ستة أشهر من هذا الاستحقاق، خاصة أن أشهر الصيف حاسمة في العلاقات الإيرانية – الأمريكية وبالتالي السورية – الأمريكية أيضا.

رابعاً : اكتشفت القيادة السعودية أن حركتها السياسية لا يمكن أن تستقيم ما لم تستعد السلام الفلسطيني إلى ملعبها، تقطع به الطريق على من يريد التزام هذا العنوان للانتشار والتمدد. فكان قرار إعادة التصويت بالإجماع في قمة الرياض على المبادرة العربية للسلام التي كانت أقرت في قمة بيروت في عام 2002.
ليس الجديد في المبادرة أن ولي العهد في قمة بيروت أصبح ملكاً في قمة الرياض، بل إن إقرارها في الرياض تم بحضور إسماعيل هنية رئيس الحكومة الفلسطينية والممثل لحركة “حماس”.
استطاعت هذه المبادرة أن تفتح الباب ولو ببطء أمام السلطة الفلسطينية نحو العالم، فرحب بها وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، وارتبكت تجاهها الحركة السياسية الإسرائيلية، مع توقّع ازدياد هذا الارتباك. بعد القمة اتخذ وزراء الخارجية العرب بحضور سوريا، قراراً بإيفاد ممثلي مصر والأردن للذهاب باسمهم إلى إسرائيل لبحث المبادرة العربية.
سوف يمر وقت قبل أن يتضح ما إذا كانت هذه المبادرة قادرة على اختراق جدار الرفض الإسرائيلي، وذلك لأسباب عدة أهمها أن السياسة الأمريكية في المنطقة ليست في وضع يسمح لها بدعم تقدّم مثل هذه المبادرة، حتى إشعار آخر. لكن المبادرة دون شك تؤسس لمسار سلمي يقع في أولويات جدول أعمال العاهل السعودي.

خامساً : لا بد من ذكر العنصر الشخصي في حركة العاهل السعودي. له تاريخ طويل في تبني قضايا العروبة والحرص على استقرار الدول العربية عامة. معتدل في تصوّره للحلول. متابع ملحاح لما يظنه صواباً. يريد كتابة تاريخه على الصورة التي احتفظ بها طوال سنّي حياته العامة، فأين له من فرصة مماثلة لقمة الرياض ؟
من العناصر الجدية في قمة الرياض أنها ليست قمة الإنجازات إنما هي محاولات تأسيس جادة وحثيثة ومستمرة في كل البنود التي ظهرت في البيان الختامي. وهناك أسرار ستظهر تباعاً، جعلت مجلة”النيوزويك” تطلق على العاهل السعودي لقب “ثعلب الصحراء”، بعد أن كتبت عنه أنه من حماة الثغور ينتظر خصمه واعياً حين يظن الخصم أنه في سبات عميق.