“قاع القاع” في “المدن”

اخترت لكم 28 يونيو 2016 0

استفظاع ما حصل في القاع، من عمليات انتحارية فجر ومساء الإثنين، يحفز أيضاً على استفظاع ما استحضرته هذه الانفجارات، وسقوط الضحايا، من ردود الفعل الكلامية حتى اللحظة. ذلك أن لجوء سكان القاع، الذين يظهرون على التلفزيون ويصرحون، إلى تحميل اللاجئين السوريين مسؤولية ما يحصل، وإن بدا أنه مفهوم في البداية، وصل صباح الثلاثاء إلى مرحلة لا يبررها شيء، خصوصاً في حديث بعضهم عن سوريين يستأجرون في القاع نفسها، لا في امتداد مشاريعها.

لكن الحكي لا يبدو بلا سياقات تفسره. فاتهام “سوريين” لا يجيء من فراغ، بل تعززه حوادث ومرويات وأحكام. لكن اتهام سكان القاع لهم، كما غيرهم من اللبنانيين، لا يبدو بلا أصول. أقله، كان يمكن، الإثنين، ملاحظة تلاحق هذا الاتهام بمساءلة “الدولة اللبنانية” عن مشاريعها الانمائية. وعنصرا الحكي هذان كانا يتزاحمان في أولويتهما، كأنهما نظام تفكير، عقلاني بعض الشيء، ينتهز فرصة ما جرى.

في أقل من 24 ساعة، صار مفهوماً أن سكان القاع، البلدة الطرفية وشبه المجهولة، يحملون موقفاً سلبياً مسبقاً من السوريين الذين يعيشون بالقرب منهم، في حين بدت الانفجارات ذريعة لعودة المكبوت. وليس مهماً، في هذا السياق، إن كان لذلك مبررات. أو إذا كان جائزاً تحميل جماعة كاملة، يفترض أنها تعيش مأساتها، مسؤولية ما يجري. فما يُقال يُقال ليُقال. وهذا منطق الكلام.

لكن مأساة السوريين في حدود ما تعكس مأساة اللبنانيين في علاقتهم بـ”الدولة”، هيكل الخدمات المفترض في الرؤية السائدة. فغياب الأخيرة بخدماتها، الذي يعزز مأزقها وجود السوريين من دون “ضوابط”، على ما يقولون، يحول هؤلاء إلى مرآة.

وفي الاجتماعات الضيقة التي تمثلها القرى، في حدود علاقاتها وفي فهم فاعليها لهذا العالم، المُمركز حولهم وحولها، لا يبدو الشبيه- الآخر مقبولاً. وهي لا تجد في تجاوز ما يطرحه عليها من تحديات غير تصفيره، أي نفي اجتماعيته عنه. و”الداعشية”، في أيامنا هذه، هي الأنومي (Anomie)، أي انفصال الأفراد، وربما الجماعات، عن “سوية” اجتماعاتهم. وهذا ما لا يمكن تجاوزه بغير الطرد والتطهير، المصطلح المريع شائع الاستعمال. وهو حل لا يوصل إلا إلى العنف، الذي يبدو مشتهياً، خصوصاً عند التذكير البهي بتجربة مخيم نهر البارد، ودعوة الجيش إلى “الدعوسة”.

هكذا، تصبح المشكلة في السوريين، أولاً، الذين يُقلّبون المواجع على اللبنانيين، ثم في “الدولة”، في عمومها، التي لا تفعل شيئاً. وهذا نظام مقلوب للأشياء، كما يبدو واضحاً. لكنه، في أسوأ أحواله، معلل ويكتسب شرعية قوله من ثقافة معمّمة، كانت الأيام السابقة على الانفجارات دليلاً إضافياً إليها.

على أن تعميم التفجيرات والانتحاريين على السوريين يبقى غير أخلاقي وغير مبرر. لكن تعميم الضحية، على القاع وسكانها، ومن بعدهم جميع اللبنانيين، كأنهم فرد واحد ووحيد في هذا العالم غير أخلاقي أيضاً، كما تشجيع القبضايات على حمل السلاح. وليس صعباً، في سياق كهذا، استرداد التمثلات التاريخية للضحية التي صارت جلاداً وضحية الضحية.