في حركة الحكومة بركة، ونهاد المشنوق المفاجأة

قالـوا عنه 19 يناير 2015 0

عندما تشكّلت حكومة الرئيس تمام سلام اعتقد كثيرون انها ستكون الحكومة الأقصر عمراً في تاريخ الحكومات اللبنانية، كونها تشكّلت لفترة انتقالية تعد بالاشهر القليلة الفاصلة عن موعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وبعد مرور نحو عام على ولادتها بدأ الكثيرون يعتقدون بأنها ستكون الحكومة الاطول عمراً، وان عمرها سيكون من عمر الفراغ الرئاسي الذي سيطول ويطول حتى يَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً.
وعندما بدأت الحكومة مسيرتها وسط مشهد اقليمي قاتم وتوترات وتفجيرات أمنية وانقسامات سياسية ووطنية، اعتقد كثيرون ايضاً انها ستكون الحكومة الأقل انتاجية، وان الفشل سيكون نصيبها اكثر من النجاح… لكن الايام اظهرت ان هذه الحكومة منتجة ولو بالحد الأدنى المطلوب، ومسارها يتسم بالواقعية ولديها قدرة على التكيّف مع الظروف، ومن تحديد اهداف يمكن تحقيقها، وهذا يعود الفضل فيه الى شخصية رئيس الحكومة تمام سلام الحوارية وإدارته العاقلة والواقعية للحكومة.
اذن نجحت الحكومة بالحد الأدنى في بعض الملفات الحياتية والاجتماعية والغذائية والامنية، لأنها تعاطت بواقعية مع التطورات وعرفت دورها وحجمها ووظيفتها وقدراتها في هذه المرحلة، وهي تعاطت مع الاحداث على ثلاثة مستويات:
الاولى: تصرفت حكومة “المصلحة الوطنية” على أساس الفصل بين الأزمة السورية والوضع اللبناني، مع ان امتدادات الأزمة السورية وارتداداتها اللبنانية زادت في الأشهر الاخيرة، الا ان الفصل جاء على أساس قناعة مشتركة وغير معلنة بين اطراف الحكومة بأن الازمة السورية طويلة، من هنا فان الوضع في لبنان لا يمكن ان ينتظر انتهاء الحرب السورية وان يُرهن لها.
الثانية: هو ان كل الأفرقاء السياسيين المشاركين في الحكومة التزموا بهدف أساسي هو حفظ الاستقرار الأمني والسياسي الداخلي وان تكون الحكومة اطار ضامناً لهذا الاستقرار، وهو ما يفرض الفصل بين الاستقرار ومتطلباته من جهة والملفات الخلافية وتداعياتها من جهة ثانية بحيث توضع هذه الملفات الخلافية جانباً حتى لا تكون مصدراً لتوترات ومشاكل داخلية، هذا ما شجع عليه ايضاً بقوة المجتمع الدولي…
الثالثة: والذي تتصرف الحكومة على أساسه، هو ان التسويات الكبرى في المنطقة ولبنان لم يحن اوانها ولا يجب إضاعة الوقت والجهد في مسائل غير ناضجة و”أكبر منا” وفي سجالات عقيمة وانما يجب الانصراف إلى ما يمكن تحقيقه من اجل دعم صمود اللبنانيين في ظل اوضاع امنية واقتصادية متردية. لانه اذا كانت الحكومة غير قادرة على مقاربة المواضيع الكبيرة كونها ستفشل، فانها قادرة على مقاربة المواضيع والمسائل الحيوية التي تتصل بحياة الناس وأمنهم وصحتهم وغذائهم وسلامتهم ورفاهيتهم ومكافحة الفساد المستشري داخل مؤسسات الدولة، وإذا قررت ان تسير في هذا الاتجاه فانها ستنجح وتحقق انجازات ملموسة وعملية وستكون موضع ارتياح وترحيب من كل اللبنانيين على مختلف توجهاتهم السياسية والحزبية والطائفية.
لكن النجاح الأبرز للحكومة هو “النجاح” الأمني، والذي ساهم فيه بشكل أساسي وكان نجمه وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي يعتبر في ادائه وحضوره ومواقفه وسياسته “مفاجأة الحكومة” لا بل أبرز المفاجآت وأفعلها.
نهاد المشنوق الآتي من عالم السياسة إلى وزارة أمنية حساسة أثبت في فترة زمنية وجيزة قدرة كبيرة في استيعاب الملفات الأمنية وفي تصريف الأزمات الأمنية، ونجح عبر اداء مسؤول ورصين وجديّ في لفت الانظار وانتزاع التقدير والاعجاب من كل اللبنانيين على مختلف توجهاتهم السياسية، لأنه وبكل بساطة تصرف كرجل دولة ووضع المصلحة الوطنية العليا نصب عينيه، ولم يمارس سياسة فئوية، واثبت انه رجل قرار، وقادر على اتخاذ القرارات الصعبة والجريئة وتنفيذها من دون تردد والمضي بها حتى النهاية، وفي الأيام القليلة الماضية كانت لنا مع نهاد المشنوق محطات مضيئة عندما واجه بنجاح ثلاثة استحقاقات على قدر وافٍ من الحساسية والصعوبة والدقة.
الاختبار الأول هو الانفجار الانتحاري المزدوج في جبل محسن الذي كان يمكن ان يكون شرارة لتدهور أمني كبير وفتنة مذهبية خطرة ولكنه كان وفي مفعول عكسي سبباً لترسيخ الوحدة بفعل وعي ابناء جبل محسن ورد فعلهم المسؤول والعاقل أولاً، وبسبب احتضان ابناء طرابلس لهم ومشاركتهم في مصابهم ثانياً… ووسط هذا المشهد جاءت زيارة الوزير المشنوق إلى جبل محسن لتساهم في بلسمة الجراح وتهدئة النفوس وطمأنة سكان هذه المنطقة.
واما الاختبار الثاني فتمثل في عملية انهاء الوضع الشاذ داخل سجن رومية وكانت عملية امنية نظيفة لم ترق فيها دماء ومرّت من دون ضجيج وتداعيات، وادت إلى اقفال ثغرة لا بل فجوة أمنية كبيرة بعدما تحول سجن رومية إلى قاعدة ومركز ادارة للعمليات الارهابية وتواصل مع الجماعات والتنظيمات الارهابية في لبنان وخارجه… وإذا كان هذا الانجاز الأمني يحسب للدولة وقواها العسكرية والأمنية (الجيش وقوى الامن الداخلي) والتي كان للمشنوق فضلٌ كبير في رفع درجة التنسيق بينها، فانه يحسب ايضاً لوزير الداخلية الذي في النتيجة هو من اتخذ القرار الجريء وأشرف على تنفيذ العملية شخصياً.
أما الاختبار الثالث فهو القاء القبض على المتهم بقتل الشاب المغدور أيف نوفل في منطقة بريتال، في عملية نوعية نفذتها شعبة المعلومات بمؤازرة مخابرات الجيش اللبناني وباشراف مباشر من الوزير المشنوق وهذا انجاز كبير جرى من دون اصابات وبطريقة حرفية وهذا ما خلق ارتياحاً شعبياً عارماً لدى اللبنانيين الذين خافوا على ابنائهم من جراء هذا الفلتان والاستهتار بحياة الناس الابرياء، واعاد اليهم الثقة بدولتهم مؤكداً لهم ان المذنب لن يفلت من العقاب.
ان النجاح الكبير الذي حققه نهاد المشنوق في أول مسؤولية وزارية له مرده إلى ما اكتسبه وما يختزنه من خبرة وتمرس وتجربة على مرّ سنوات طويلة قضاها مستشاراً للرئيس الشهيد رفيق الحريري… ومرده ايضاً إلى الدعم غير المشروط الذي يتلقاه من الرئيس سعد الحريري.
وفي الواقع فان الوزير المشنوق هو خير معبّر عن سياسة سعد الحريري و”تيار المستقبل” وتوجهاتهما وخير مجسّد ومترجم لها عملياً بكل دقة وحكمة ومسؤولية من خلال ادائه المميز والمسؤول. وهذه السياسة والتوجهات كانت على امتداد الأشهر الماضية جريئة ووطنية وفي مستوى المرحلة…
سعد الحريري كان واضحاً في دعمه للجيش اللبناني والسعيّ إلى تعزيز قدراته وفي توفير الغطاء السياسي لكل عملياته العسكرية وحملاته الأمنية وحربه ضد الارهاب، وكان جريئاً في تصديه للأرهاب والوقوف في صف المواجهة وفي تقديم نفسه كقوة اعتدال في مواجهة قوى التطرف. كما انه لم يتردد في اتخاذ القرار الصعب بالجلوس إلى طاولة الحوار مع “حزب الله”، متجاوزاً تحفظات ومناخاً شعبياً وسياسياً حذراً لدى فريقه وجمهوره، وغير آبه بحسابات ربح وخسارة ما دام هذا الحوار يصب في مصلحة لبنان وشعبه وفي تحصين الوضع الداخلي واراحته وترسيخ استقراره وابعاد خطر الفتنة عنه…
من هنا لا يبقى أمام “حزب الله” إلا مبادلة تيار الاعتدال الذي يمثله سعد الحريري و”تيار المستقبل” بالمثل وتقويتهم ومساعدتهم، ومدّهم بكل اسباب القوة للصمود في موقعه وموقفه…