فيليب لارازيني كتب في “النهار”: “حان الوقت لإنعاش الاقتصاد اللبناني”

اخترت لكم 17 يونيو 2016 0

قبل أسابيع قليلة من تولّي مهماتي الجديدة منسقا مقيما ومنسقا للشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة العام الماضي، وصف لي ديبلوماسي البلاد بطريقة مرئية. وقال: “تخيل رجلًا معلقًا من الطبقة الـ 12 من مبنى، والحي بأكمله يترقبه ويتساءل متى سيسقط. وبعد ثلاثة أشهر، ما زال الحي نفسه يراقب هذا الرجل، ولا يزال يتساءل ما إذا كان سيسقط”. وأضاف: “هكذا يتحدى لبنان الجاذبية”. إلا أن صمود لبنان الأسطوري يجب ألا يمرّ بالمزيد من الاختبارات، إذ إنه يتآكل أكثر فأكثر مع مرور كل يوم، ويتآكل ببطء.

لقد ألحقت تداعيات الصراع السوري، بما في ذلك تدفق اللاجئين بأعداد كبيرة، إلى جانب أوجه الغموض الإقليمية والاستقطاب السياسي الداخلي، خسائر فادحة بالاقتصاد اللبناني.
جميعنا يعرف الإحصاءات الاقتصادية القاتمة: فقد تباطأت توقعات النمو بشكل كبير لتنخفض من متوسط قدره 9% في فترة 2007-2010 الى 1-% في فترة 2011-2015. إن كل قطاعات الاقتصاد تكافح، فيما تضعف القدرة على المنافسة مع خسارة الأسواق الإقليمية والطرق التجارية الكبرى. كما استأنف الديْن العام مساره الخطير والمتزايد، فيما تتضاءل الاستثمارات جراء تراجع الثقة.
أضف إلى ذلك، فقد تفاقمت المشاكل الموجودة من قبل، كضعف البنية التحتية في البلاد، بما في ذلك الكهرباء وإمدادات المياه وشبكة الاتصالات السلكية واللاسلكية، جراء عدم توافر الصيانة والتحديث.
وفي ضوء هذه الخلفية، شهدت البطالة زيادة ملحوظة، وخصوصا بين الشباب. وتشعر الطبقة المتوسطة في لبنان بالقلق من المستقبل، كما يتضح من انخفاض مؤشر ثقة المستهلك. ويغذي قلقها هذا وجود اللاجئين وأثره الديموغرافي. وفي الوقت نفسه، يزداد الفقراء فقرًا فيما تخسر الفئات المهمشة الثقة بمستقبلٍ أفضل. وتبقى حالة خيبة الأمل والقلق قاعدة مشتركة للتعصب والتطرف، وهي “كليشيات” علينا أن نحذرها لعدم تحدي طبيعة لبنان المتعددة الطائفة، والمتسامحة.
وفيما يتمتّع السلام والأمن والاستقرار بأهمية حاسمة لمنع تصاعد المخاطر ولاستعادة الثقة بالبلد، ثمة حاجة على القدر نفسه من الأهمية لتخفيف التحديات الراهنة، ألا وهي حزم الحوافز الاقتصادية والإصلاحات الهيكلية والاستثمارات الكبيرة.
وبالفعل، يتم إنجاز الكثير في هذا الصدد. فقد اضطلع مصرف لبنان بدور حيوي من خلال توفير الائتمان بأسعار مدعومة للاستثمار في القطاعات الإنتاجية والإسكان. وإلى جانب أكثر من مليار دولار من المساعدات الدولية السنوية، ولسوء الحظ، لم يكن هذا كافيًا ليعكس الاتجاهات السلبية في النشاط الاقتصادي.
ما المطلوب أكثر من ذلك؟ كيف يمكن لبنان أن يحسّن الظروف الاقتصادية ويوفّر فرص العمل ويحوّل الأزمة إلى فرص جديدة؟ كيف يمكنه الابتعاد عن منطقة الخطر؟
لقد طرحت هذه الأسئلة، على مدى الأشهر القليلة الماضية، على عددٍ من الخبراء الاقتصاديين، وأشاروا جميعهم إلى الحاجة إلى الرؤية والإرادة السياسية والمخاطر المشتركة وبرامج متعددة الأوجه الشاملة، كشرط مسبق لاستعادة ديناميكية إيجابية.
لقد اكتسب الشعب اللبناني تجربة إعادة بناء دولة مزقتها الحرب. فلبنان يتمتّع بالخبرة والموارد ليس لتوليد النمو محليًا فحسب، وإنما أيضًا لوضع نفسه في موضع الاضطلاع بدور حاسم في عملية إعادة الإعمار في المستقبل في سوريا.
ولتمهيد الطريق، ثمة حاجة إلى تحسين القدرة التنافسية من خلال الاستثمار في البنية التحتية المحسّنة في القطاعات الإنتاجية. وأما المفتاح لتحسين هذه الاستثمارات فيتمثّل في الإصلاحات الهيكلية، بما في ذلك سوق العمل وقطاع الكهرباء.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، يُعتبر كل من العمل على سنّ مشروع قانون الشركة بين القطاعين العام والخاص والتصديق على قوانين الميزانية التي طال انتظارها والتفاوض على أشكال جديدة من الاتفاقات التجارية شروطًا أساسية في هذا الصدد.
وقد أثبت كل من مجلس الوزراء ومجلس النواب، في نهاية العام الماضي، إمكان سن القوانين المطلوبة بشدة في الساحة المالية الدولية، والتصديق على مشاريع البنية التحتية التي طال انتظارها. هذا يدل على أن الإرادة السياسية يمكن أن تقود الأولويات الاقتصادية الوطنية.
وأخيرًا، يجب تقاسم المخاطر لتمويل الاستثمارات المهمة. وعلى المجتمع الدولي أن يواصل جهوده لتوفير التمويل الكافي لحكومة لبنان، سواء كان ذلك من خلال المنح أو القروض الميسرة، وعلى هذه الأخيرة أن تولي الأولوية للاستثمارات وتقدّم التسهيلات للمستثمرين من القطاع الخاص لتخفيف المخاطر المرتبطة بعدم اليقين. يتطلب إحلال الاستقرار الاقتصادي الوطني ووضع البلاد في الموضع، لإعادة إعمار سوريا، الشجاعة والعزيمة، وقبل كل شيء، القدرة على وضع المصلحة الوطنية قبل المصلحة السياسية والطائفية.
الاستقرار ليس أمرًا مسلمًا به، والوقت هو ذو أهمية كبرى يجب الحفاظ عليه. مع وجود أكثر من ربع سكانه كلاجئين، يمكن لبنان أن يرتقي إلى مستوى التحدي المتمثّل في تحويل هذه السلالة إلى مكسب كبير. وبالفعل، يتوقع البعض أن تواجه سوريا عجزًا في القوة العاملة لديها مع بدء عملية إعادة الإعمار. ليس من سوري يرغب في أن يبقى لاجئًا وأن يفوّت الفرصة لإعادة بناء بلده أو بلدها.
على لبنان واقتصاده أن يضطلعا بدور حاسم في هذه المرحلة المستقبلية، فتعزيز البيئة اللازمة ووضعها الآن إنما يصب في مصلحة الجميع. أما النجاح فسيعتمد على اتخاذ القرارات والقيام بالأعمال، الأمر الذي سيبيّن- كما يعزّز – الأساس المتين الذي يكمن وراء صمود لبنان الأسطوري، ويضع حدًا لتساؤلاتنا حول استمراره في تحدي الجاذبية.