فيروز، ما المجد؟

مقالات 28 يناير 2008 0

تابعت في شهر رمضان الماضي بعضاً من حلقات المسلسل السوري عن رسائل الحب والحرب على قناةMBC أكملت ما فاتني من المسلسل على LBC ولو على تقطّع.
لم احفظ لقلّة احترافي التلفزيوني أسماء الممثلين الذين شاركوا في هذا المسلسل إلا الممثلة الرئيسية سلاف فواخرجي التي لعبت دور نيسان ولو أن لكل من الآخرين بطولته الخاصة والأكيدة.
أوّلهم الخطيب الشاعر الشاب الذي يحمل معه في كل موقع يرتاده قدرته على الشعر في الكلام عنها . يتصدّى لمن أخذ منه خطيبته. يسجن فيهرب من سجنه ليعبّر عن اعتراضه على نظام السجّان بالذهاب الى لبنان. ويعود شاعراً كبيراً الى عاصمته مكرّما ويبدع في دور المريض الذي تتغلّب عنده الرغبة في الحياة على أصعب الأمراض. فعل ذلك بسلاسة الشاعر. بعزيمة الحالم. بصمود الكاتب. لا حقد. لا ضغينة. بل إقدام دون مبالغة. لا يريد من دوره الا الوصل مع من حوله، لا يبحث عن البطل الذي يتباهى بما فعل.
والده القادم من أدنى درجات الطبقة الوسطى المتعلّمة، يفتّش عن القيم التي ترعرع عليها فلا يجدها. ووالدته الدمشقية البسيطة ترعى الشاعر في ولدها بأهدابها وتخاف من ميول ابنتيها. الاولى المثالية حتى الجنون والثانية الوصولية حتى الخراب.
جاره والد نيسان والمغلوب على أمره في كل ما يفعل، أو يفعل به وبعائلته. الشقيق الغارق في عجزه عن حماية شقيقته.
الضابط الخاطف للعروس من حلمها وعريسها وأهلها وحيّها. القادم من الجبل مثل المحدلة قولاً وفعلاً. المنحدر دائماً الى الأسفل نحو طقطقة الجزمة العسكرية إعلانا لحضوره حتى ولو في غرفة نومه. المستغلّ التقليدي لما على كتفه من اغتصاب مذهّب. يدمرّ عائلتين ويدمرّ نفسه حين يتحوّل الى طفل صغير يخسر حربه امام جدائلها . في عائلته التي اصطحبها معه من الجبل نماذج للحقد القادم من فوق. لا يهم ما اذا كان هذا الفوق لأعلى هضبة أم أعلى درج ام أعلى افتخار بالأوهام.
لكل مجموعة في المنازل الثلاثة الشاعر، البطلة، الضابط ، حقيقته الواضحة المعلنة بأدقّ واقعية ممكنة في الأداء.
أما هي فلكل زمن من أيامها حكاية. الصبية العاشقة لشاعرها. الزوجة المرغمة على ضابطها إنقاذاً لمن لم تستطع إنقاذهم من حولها. الدمشقية التي على كل منحدر من جدائلها الحمراء بلون الشمس، وردة وضوء. وردة من على ضفاف نهر بردى وضوء من شمس صمودها في وجه اجتياح مغتصبها لها. المدينية التي استطاعت بسحر ابتسامتها وصبرها ان تجعل الضابط المحدلة يذهب الى مجهوله ولا يعود. بكل هدوء. بتردّدات رمشة جفونها جعلت من جدائلها محور اهتمام من حولها وصنعت من لونهم رمزاً للقدرة على الاحتلال الهادئ لقلب من حدّدته هدفاً في البداية والنهاية. في غمّازتي ابتسامتها إنذار بالاستسلام. في حنوّها على الصغير واحتوائها للكبير حكايات احلام تفتّش عن بدائلها فتصيب أحياناً وتعجز عن الحقيقة في معظم الاحيان. أخذت الدمشقية من جدّتها صوفيّة الشفاء والحرص على ان تبقى مدينتها نوّارة مضيئة ولو على حساب لبنان الذي تجتاحه إسرائيل عام 1982 .
ظهرت في المسلسل المفاصل على حقائق بداياتها قبل ان تتلوّث بما لم يحن وقت جرده وقوله كاملاً.
الجيش السوري يدخل الى لبنان لوأد حرب اهلية كادت ان تذهب بالجار الى التقسيم. يحمي المظلومين قبل ان يصبح مديراً للظالمين، ينصرهم ولا يردّهم عن غيّهم.
السوري. اللبناني. الفلسطيني. من هو عسكري منهم ومن تسلّح، يقاتل الجيش الاسرائيلي. كلّ حسب استطاعته. حتى الضابط المحدلة يذهب الى لبنان ليصبح مفقوداً في الاجتياح الاسرائيلي تاركاً علبة جدائلها التي ألزمها بقصّها على مكتبه.
إسرائيل عدو حقيقي. في الحوار بين كل الطبقات في المسلسل السوري. في الأذهان بين كل العقول. في ارادة المقاومة لدى من في الشارع ومن في القصر. وضع المسلسل كل هذه الحقائق ببريقها الاصيل المضيء امام عينيّ، وبالطبع أعين من تابع حلقاته.
عادت صور الدمشقية ومدينتها الى ذهني، حين علمتُ ان السيدة فيروز ذاهبة الى دمشق لتغنّي. وما صدر من حدّة في مواقف تدعوها الى مقاطعة عاصمة الأمويين إعلانا لخصومة لبنانيتها.
فيروز تغنّي بأصواتنا جميعاً. الظالم والمظلوم. تأخذ معها حزننا وقهرنا أينما ذهبت. كذلك فرحنا وفخرنا. وتسمع السوريين كلّ السوريين ما حملته في صوتها منّا وعنّا. اذ مهما قيل، ومهما كبر حجم من قال في دمشق وفي بيروت، يعيد غناء فيروز على مسرح دمشقي الصواب الى ذاكرة الشعبين بأنهما الأقرب الى بعضهما البعض وأن لغناء فيروز حضوراً لا يمحى في ذاكرتهما المشتركة.
من سيسمعها على المسرح الدمشقي سيجد في حنين غنائها صوتنا. وفي صرختها قهرنا. وفي ارتفاع كتفيها فخر لبنانيّتها، اذ ليس هناك من فرح تحمله معها.
عندما تقف السيدة فيروز على المسرح الدمشقي، يقف صمودنا معها. تظهر قدرتنا في قبضتها. تجعل من السامعين اسرى لمهابة صوتها صوتنا. تسلبهم قدرتهم على نكران ما يرونه خطأ في أحلامنا.
ألا يكفي هذا دوراً لصوتها الصادح في دمشق عنّا ولنا؟
لا يعطي الحاكم مجداً لدمشق أياً كانت أوهامه. ولا يأخذ منها أحد مجدها الساكن في حواريها. وهي التي تعطي لمن تشعر بصدق دلاله للمدينة وأهلها. وإلاّ لم غنّت السيدة فيروز منذ ان كان لغنائها صدى شآم ما المجد، أنت المجد لم يغب .
عذراً سيّدتي. وأنا اكتب لك وعنك أبلغني عزيز عليّ أن ضابطاً لبنانياً شاباً في الحادية والثلاثين من عمره ذهب الى قدره غيلة. وأوصى أن تغنّي عنه بصوتك: خذني ازرعني بأرض لبنان . أم انك تفضّلين: الغضب الساطع آتٍ ؟.
القرار لك. فهل تفعلين؟