فلسـطـيـن هــي الحــق..

مقالات 16 فبراير 2009 0

زرت عمّان في شهر حزيران من السنة الماضية لتحقيق هدفين الأول هو إجراء مقابلة مع العاهل الأردني الشاب بقصد نشرها في حينها في “السفير”، الهدف الثاني حضور مؤتمر لحاملي جوائز نوبل من مختلف الجنسيات في مدينة البتراء الأثرية الأردنية.
لم يقتصر المؤتمر على المكرّمين من نوابغ العالم الذين تمنح لهم الجائزة السويدية المنشأ سنوياً، بل حضرها عدد من السياسيين بينهم الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز بصفته حائزاً على جائزة نوبل للسلام في العام 1994، والأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى.
وقف بيريز على منبر المؤتمر متحدثاً في حفل غداء عام لكل المشاركين. كانت المرة الأولى التي أراه فيها على غير شاشات التلفزيون. عجوز متصاب يبدو أنه خرج لتوّه من صالون التزيين. يريد إعطاء الانطباع بأنه الرجل الجاهز والمناسب لكل أنواع العلاقات العامة السلمية، خاصة التي لا يتطلب ما يقال حولها وفيها صدقاً او التزاماً بالتنفيذ. صعد إلى المنبر متأنياً وكأنه يخاف أن تقع من شخصيته “المركّبة” قطعة فيضيع توازنه. بدا بيريز ولو كان “رئيساً” لدولة لا يتمتع بصلاحيات الحكم، أن السلطة الفعلية التي مارسها لسنوات طويلة والقتل كذلك لم يتركا أثراً من الرصانة المتماسكة عليه.
وصف بيريز الخطاب العربي بأنه لا يتوجه إلى إسرائيل إلا بلغة السلاح وأن علينا نحن العرب أن “نجتاح” إسرائيل سلمياً. مثمّنا اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن. لم يكن مقرراً ان يتحدث عمرو موسى، لكنه لم يستطع أن يدع الكلام الاسرائيلي دون تعليق، خاصة أمام هذا العدد الكبير من الشخصيات العلمية الدولية. صعد موسى إلى المنبر ليلقي كلمته غير المكتوبة بالانكليزية أهم ما فيها سرد لمبادرات السلام العربية وآخرها مبادرة الملك عبد الله الموضوعة منذ سنوات طويلة على الطاولة من دون تعليق من الحكومة الإسرائيلية. بينما يقوم الجيش الاسرائيلي يومياً بقتل المدنيين الفلسطينيين وتبني الحكومة مستوطنات جديدة وتضيق الحصار على قطاع غزة بمن فيه.
توتر جو الغداء الرسمي. بيريز يريد الإجابة وموسى يصر ّعلى كلامه ويهدّد بمزيد من الشرح للسياسة الإسرائيلية العدوانية التي لا تتقدم بأي مبادرة سلمية. وزير الخارجية الأردني يهدئ من روع أمين عام الجامعة العربية والجالسون على طاولة بيريز يصرّون على منعه من الإجابة على عمرو موسى. لكن الكل أصرّ على الكلام وأكملوا الاشتباك لدقائق.
فجأة صعدت سيدة إلى المنبر لتتحدث بانكليزية رفيعة المستوى وبدقة دبلوماسية لتقول إن المؤتمر مخصص للأبحاث غير السياسية وتطلب من الحاضرين أن يلتزموا بعناوين الأبحاث. سألت عنها فتبين أنها الأميرة سميّة إبنة الأمير حسن ولي العهد الأردني السابق.

***
حملت هذه الرواية معي في طريق العودة من البتراء إلى عمّان لأناقشها مع عدد من الدبلوماسيين السياسيين الأردنيين. سألت واحداً منهم وهو مؤثر في موقع القرار. كيف يتجرأ مسؤول إسرائيلي على قول هذا الكلام أمام حضور عربي رسمي وأردني رسمي، خاصة لو لم يكن مستهيناً بالعرب بحضور شخصيات منهم؟
“ذهب مليككم إلى الولايات المتحدة سبع مرات او أكثر خلال سنوات قليلة. خاطب كل القطاعات الأميركية مرحبا بالسلام وداعياً إلى التقاط هذه الفرصة قبل ضياعها. لم يتحقق شيء. نافسته وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس بعدد الزيارات الى الشرق الأوسط دون نتيجة أيضاً.
ترك المجتمع الدولي ياسر عرفات حائز جائزة نوبل للسلام محاصراً لأشهر في قطاعه دون مياه ودون كهرباء لينتهي مسموماً على حد بعض التقارير الطبية محمولاً في طائرة هليكوبتر إلى باريس حيث وافته المنية.
هل يريد هذا المجتمع تحقيق السلام أم أنه يريد دفن القضية الفلسطينية، كما فعلوا مع الزعيم عرفات؟ هذه الصور من زيارات العاهل الأردني المتكررة إلى واشنطن والمحاولات الاميركية الملحة على الأمن الاسرائيلي دون الحق الفلسطيني وحصار عرفات تعطي حركة “حماس” الحق في رفضها للتسوية مع الحكومة الاسرائيلية. بل يعطيها الحق في أكثر من ذلك رفضاً. ألا يتضح من كل ما سبق ان المجتمع الاسرائيلي ليس مهيأ للسلام حتى لا أتبنى القول بأنه مجتمع عسكري لا يعرف غير العدوان على العرب وسيلة للبقاء.
ماذا حقق اجتماع عمّان بعد حرب تموز 2006 على لبنان بحضور وزراء خارجية ورؤساء مخابرات الدول العربية “المعتدلة”، كما توصف، ووزيرة الخارجية الأميركية. لا شيء. حتى الوعد الأميركي ـ الاسرائيلي بإطلاق مروان برغوتي الأسير الفتحاوي الأكثر شعبية بين الفلسطينيين لم يحصل. كذلك اجتمعوا أنفسهم في شرم الشيخ المصرية. ماذا حدث منذ مؤتمر أنابوليس حتى الآن؟ لا شيء مكرراً”.
ان المعارضة في سوريا الجارة لنا ولكم تطلق أعنف الأوصاف على النظام. أما المعارضة في الأردن فعنوانها واحد هو الخيانة او الوطنية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. هذا هو الأساس الذي تجمع عليه غالبية سكان الأردن. هذا يعني إن لكم مصلحة وطنية أردنية داخلية في الحوار مع “حماس” وعدم الاستمرار في تجاهلها كرمى لعيون إدارة أميركية لم تعطكم لا الأمن السياسي ولا الأمان الوطني.
تريدون مواجهة المشروع السياسي الإيراني او هلاك الأزمات بعد انضمام حركة “حماس” اليه وتتحسسون من الدور التركي الذي وحده يستطيع الموازاة في صراحته بين الإيرانيين والإسرائيليين. هل هذه سياسة او يوميات تتندرون بها؟
حافظ صاحب التأثير الكبير في القرار الأردني على هدوئه.
عاد “سيدنا”، أي الملك عبد الله الثاني، يقول في السياسة الاميركية أكثر مما تقول، لكننا بلد صغير وفقير في موارده الطبيعية. ونحن نتلقى 650 مليون دولار سنوياً مساعدات عسكرية من الحكومة الأميركية للجيش الأردني. ولن نقول كلاماً علنياً يجعلنا نخسر هذه المساعدات.
رابعاًً، مؤتمر أنابوليس عقد لأجل تثبيت الاعتراف العربي وخاصة الدولي بالسلطة الفلسطينية، في الوقت الذي أحسسنا بأن الاعتراف بها يتراجع. فكان لا بد من هذا المؤتمر وحضوره الدولي مع رئيس السلطة الفلسطينية.
خامسا: لا أعتقد أن أجهزتنا المعنية تتجاهل “حماس”. بل أستطيع أن أدعي أن هناك توجهاً لدى “سيّدنا” بالانفتاح على “حماس”، خلال وقت ليس ببعيد. “في آب من العام الماضي بعد شهرين من هذا الحوار فتح الحوار بين رئيس المخابرات الأردنية ومحمد نزال عضو المكتب السياسي لحركة “حماس”.
ارتاح المؤثر في القرار الأردني في جلسته بعد أن أدلى بما عنده من أجوبة. ثم ذهب بعيداً بنظره إلى القاعة الممتدة أمامه. فقال إسمع يا صديقي؛ تعوّدنا في القيادة الأردنية أن نستشرف المستقبل السياسي لمنطقتنا لمدة سنة على الأقل وسنتين على الأكثر. الآن هناك تشويش في رؤيتنا. ولا نرى ما هو الآتي من الأحداث لأشهر معدودة. لا نعرف ما إذا كانت إيران ستترك الانتخابات الأميركية المقبلة بعد أشهر دون أن تضع بصمتها عليها سواء في الأمن أم في السياسة، كما حدث من قبل.
اتذكر هذا الحديث وأنا أتابع الهجوم الإسرائيلي على غزة بعد انتهاء الهدنة بين الحكومة الإسرائيلية وحماس في الأيام الأخيرة من شهر كانون الثاني الماضي. وانتعاش الاشتباكات السياسية بين مصر والسعودية من جهة وإيران من جهة أخرى.

***
لا بد من التحديد هنا ان وقائع عدة حصلت قبل الهجوم الإسرائيلي الذي حصل في الفترة الانتقالية بين الرئيس الاميركي السابق جورج بوش والرئيس المنتخب باراك أوباما.
الواقعة الأولى أن العلاقات المصرية ـ الإيرانية شهدت قبل الاجتياح تدهوراً كبيراً بعد قيام متظاهرين إيرانيين بمحاصرة السفارة المصرية في طهران وتوجيه الاتهامات بالخيانة إلى القيادة المصرية. وقيام تظاهرة أخرى بإحراق مكتب الخطوط السعودية في العاصمة الإيرانية.
الواقعة الثانية ان القيادة الايرانية سبقت الحزب الجمهوري الأميركي، الذي خسر مرشحه الانتخابات الرئاسية، إلى الحديث عن “خفة” الرئيس الأميركي الجديد وإعلان استكمال الاستعدادات الإيرانية للاستمرار في مواجهة السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، جاء ذلك بعد كلام الرئيس أوباما عن أن سياسة إدارته تجاه ايران تعتمد على العصا والجزرة. وهي صيغة اعتبرتها القيادة الإيرانية استمرارا لشعارات الإدارة الاميركية السابقة.
الواقعة الثالثة أن وزيري خارجية مصر والسعودية استطاعا انتزاع القرار 1850 من مجلس الأمن الدولي الذي أعاد التأكيد على قراراته السابقة بشأن السلام في الشرق الأوسط. وعلى مبادرة السلام العربية بموافقة الدول الأعضاء في المجلس الممثلين بوزراء خارجيتهم ما عدا الولايات المتحدة التي امتنعت وزيرة خارجيتها عن التصويت.
الأهم في تلك المرحلة أن التحرك الدبلوماسي السعودي ـ المصري أدى إلى اعتراف المجتمع الدولي للمرة الأولى بحق 9 دول عربية هي دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن مناقشة الملف النووي الإيراني لما في هذا الملف من أخطار على المنطقة برأي الدول المعنية في مجلس الأمن الدولي.
صحيح أن وزير الخارجية البحريني ذهب بعد ذلك إلى طهران لنفي ما قاله في نيويورك علناً من رفض للسياسة الإيرانية. وأن وزير خارجية عُمان اعتبر أن دولته غير معنية بالملف النووي الإيراني لما بين عُمان وايران من علاقات ودّية.
الواقعة الرابعة هي أن الأمين العام “لحزب الله” استبق نهاية الهدنة بين “حماس” واسرائيل بالدعوة الى تظاهرة تأييد في بيروت دعماً للمقاومة الفلسطينية وأكمل في خطبه “العاشورائية” الهجوم على القيادة المصرية باعتبارها مشاركة في الحصار الإسرائيلي على غزة.
الواقعة الخامسة هي أن صراعات ثلاثة دارت منذ بداية الاجتياح الإسرائيلي لغزة، بين قمة مجلس التعاون الخليجي في الرياض ولقاء التشاور بين رؤساء عرب والرئيس الايراني في العاصمة القطرية في غياب السعودية ومصر، وبين قمة الكويت التي شهدت كسر الجليد بين سوريا والسعودية في لقاء هو الأول منذ قمة الرياض قبيل سنتين، بين العاهل السعودي والرئيس السوري بشهادة أمير قطر والكويت والرئيس المصري والعاهل الأردني.
الصراع الأول حصل في المواجهة العسكرية بين الجيش الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية في غزة. فشل الجيش الاسرائيلي في كسر صمود المقاومة رغم استحصاله على أحدث التقنيات العسكرية والميدانية التي ادعى بأنه طوّرها بعد حرب تموز 2006 على لبنان. فإذا بالنتيجة تكون استشهاد ألف وثلاثمئة مدني فلسطيني وجرح خمسة آلاف جريح. واستمرار إطلاق الصواريخ على المدن الاسرائيلية وستستمر هذه الصواريخ الى أن يكتمل “الصمود” باعتراف عربي ودولي بحركة “حماس” كشريك أساسي ورئيسي في الحكم الفلسطيني، خاصة بعد انتهاء ولاية رئيس السلطة محمود عباس. ومن ينتظر غير ذلك يفترض أن قيادة “حماس” تستطيع تبرير ما حدث في غزة، دون حصولها على هذا الاعتراف. وتفردها بالقطاع قبل ذلك.
الصراع الثاني بين مصر وإسرائيل من جهة وايران وسوريا من جهة أخرى. استطاعت مصر أن تعيد الأمور الى نصابها في موضوع المسؤولية الأمنية والسياسية عن غزة. أي المسؤولية الفلسطينية ولو أنها مرتبكة الآن في غياب السلطة عن القطاع. كذلك هدفت مصر لأن تثبت ان الجيش الاسرائيلي هو جيش احتلال. إذ أن المقال الذي كتبه جون بولتون اليميني المحافظ والمندوب السابق للإدارة الأميركية في الأمم المتحدة، عن مسؤولية مصر الأمنية عن غزة ودعوة الجيش المصري إلى القيام بدوره السابق للاحتلال الإسرائيلي في العام 1967. هذا المقال لا يأتي من فراغ. فهناك آراء في مراكز الدراسات الاميركية حول مسؤولية مصر، طوّره توماس فريدمان المعلق الرئيسي في “النيويورك تايمز” داعياً إلى مشروع خماسي أول عناصره عودة الجيش الأردني إلى الضفة الغربية لحماية السلطة الفلسطينية. بينما يتولى الجيش المصري أمن غزة في مواجهة “حماس” وتقوم السعودية بتمويل إعمار غزة. تجاوزت مصر هذه الأفكار باستنفار دولي لا سابق له في قمة دولية عقدت خلال 48 ساعة في شرم الشيخ بحضور زعماء دول الاتحاد الأوروبي لدعم الموقف المصري القائل بالمسؤولية الفلسطينية عن القطاع والاحتلال الإسرائيلي له. التقدم الثاني الذي حققته السياسة المصرية هو عودة العنوان الفلسطيني إلى مصر وبموافقة قيادة “حماس”، التي تعرف أنها لا تستطيع تغيير الجغرافيا المصرية ـ الفلسطينية. وهو أمر لا تنظر إليه إيران وحلفاؤها بعين الرضا طبعاً.
الصراع الثالث هو حول استمرار الإجماع العربي حول مبادرة السلام الموضوعة على الطاولة الأميركية منذ العام 2002 دون تجاوب عملي. لا أحد يستطيع إنكار جدية التهديد الذي ورد في خطاب العاهل السعودي في قمة الكويت وهو أن مبادرة السلام العربية لن تبقى على الطاولة إلى الأبد. وفي هذا الموقف استمرار لما بدأه في قمة الرياض في العام 2007 حين أطلق صفة الاحتلال على الوجود العسكري الأميركي في العراق. لكن لا يمكن تجاهل البيان الختامي لقمة الكويت الذي لم يأت على ذكر مبادرة السلام بناء على إلحاح الدول العربية المتحالفة مع السياسة الإيرانية، والتي عبر عنها الرئيس السوري في خطابه “في لقاء قطر التشاوري”، حين أعلن عن دفن المبادرة.
الواقعة السادسة ان المفاوضات الاسرائيلية ـ السورية استمرت حتى اليوم الثاني لاجتياح غزة، بوساطة تركية، ولو هاتفياً، كما صرّح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان. في الوقت الذي أدلى فيه الرئيس الأسد بحديث في 24 كانون الأول الماضي إلى صحيفة “لوس أنجلوس تايمز”، تحدث فيه عن الاستعداد لمفاوضات مباشرة مع الإسرائيليين على المسارات السورية ـ الفلسطينية ـ اللبنانية. ثم نشر له بعد ذلك حديث لمجلة “دير شبيغل” يؤكد فيه على مضمون الحديث الأول قبل قطع المفاوضات بعد حرب غزة.

***
كل هذه وقائع يتحكم بها الظرف والزمان الذي تحدث فيه. لكن الحقائق في العنوان الفلسطيني خلال الحرب الاسرائيلية على غزة وبعدها تواجه ما سبق من وقائع. وهذه بعضها:
أولا: ثبت بما لا يدع مجالاً للشك ان العنوان الفلسطيني وحده دون غيره يستطيع تحريك الشارع العربي والمسلم من بومباي وكراتشي في الهند وباكستان، إلى صنعاء في اليمن. فضلا عن التظاهرات التي شهدتها العاصمة الأميركية والعواصم الأوروبية. حدث هذا في الوقت الذي اعتقد فيه كثر في الأنظمة العربية والغربية ان العنوان الفلسطيني بهت لونه وخفت صوته، فإذا بالجمهور العربي والمسلم يؤكد عكس ذلك.
ثانيا: ان عودة الجيش الاسرائيلي إلى احتلال أرض فلسطينية، سبق ان احتلها لمدة 38 سنة، وانسحب منها منذ ثلاث سنوات فقط. يظهر أن تطور السلام الفلسطيني ـ الاسرائيلي عاد إلى النقطة صفر. وان اعتماد القواعد الاسرائيلية في المفاوضات بين الطرفين لم يعد يجدي حتى لو وقّع الطرفان اتفاقاً على الهدنة لمدة سنة او أكثر. هناك قواعد جديدة للمفاوضات بين الطرفين لم تتبلور بعد ولا يستطيع الرئيس أبو مازن ان يبلورها وحده بالطبع، وإلا لكان فعل ذلك قبل الآن. وجاءت نتائج الانتخابات الاسرائيلية لتخير الفلسطينيين والعرب بين واحد من أمرين إما إلغاء حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، كما يدعو بنيامين نتنياهو زعيم حزب الليكود المرشح لتشكيل الحكومة الجديدة، وإما دعوة وزيرة الخارجية الحالية وزعيمة كاديما ليفني العرب والمجتمع الدولي إلى الاختيار بين الخير والشر. الخير هو “الاعتدال الإسرائيلي” المدمّر لغزة والشر هو “التطرف الفلسطيني” الذي تعبّر عنه “حماس”، حسب برأيها.
إلغاء حل الدولتين ليس رغبة لحزب “الليكود” فقط، بل إن مقالاً في العدد ما قبل الأخير في “الفورين أفيرز” الأميركية كتبه السفير السابق مارتن انديك وريتشارد هانس رئيس مجلس العلاقات الخارجية، يشيران فيه إلى حل الدولتين بتساؤل “ما إذا كان قابلاً للتطبيق العملي؟”.
هذه النظرية سواء جاءت من نتائج الانتخابات الإسرائيلية ام من مراكز التفكير الاميركي تفتح الباب واسعاً أمام الحق في وجهة نظر من يدعو إلى الاستمرار في استعمال السلاح في المواجهة الفلسطينية ـ الإسرائيلية، بصرف النظر عن المفاوضات الجارية حالياً في أكثر من عاصمة في العالم حول وقف إطلاق مؤقت بين الجانبين.
ثالثاً: اعتقد النظام المصري أنه بخروجه من الصراع العربي الاسرائيلي لمدة 30 سنة يستطيع ان يستمر، وفق صياغة أمنية للنظام تحفظه وتؤمن استمراره. فإذا بانهيار جدار رفح منذ أشهر على الحدود المصرية الفلسطينية يُحدث قلقاً جدياً، في قلب القاهرة. إلى أن جاء الاجتياح الاسرائيلي لغزة فبدا النظام المصري مرتبكاً وسط إطلاق النار المتبادل.
لم تنجح القيادة المصرية في الدفاع عن مفهومها للشرعية الفلسطينية ولا تبرير الدعوة إلى الهدنة الدائمة، بعد 14 عاما على اتفاق أوسلو، والذي لم تنفذ منه اسرائيل إلا المزيد من المفاوضات والأكثر من بناء المستوطنات.
ماذا لو سئلت القيادة المصرية عن الاجتماع الدولي الذي حصل في شرم الشيخ لحماية الحق السياسي والجغرافي المصري في المدخل إلى فلسطين؟ لماذا لم يعقد مثله عندما كان الزعيم ياسر عرفات محاصراً. ليس لإنقاذ عرفات فقط، بل لحفظ الأمن القومي المصري الذي تعتبر غزة واحدة من حدوده الأربعة.
لا تحتاج مصر ولا شعبها إلى شهادة من أحد في وطنيتها، ولا في الثمن الذي دفعته سياسيا واقتصاديا وبشريا في الدفاع عن فلسطين منذ العام 48 حتى العام 79. لكن لا يمكن اعتبار الحال الذي وصلت إليه اليوم سببه هذه التضحيات. ألا تكفي مدة 30 سنة من الغياب المصري عن الساحة الفلسطينية لمعالجة الوضع الاقتصادي أم أن هناك خللاً داخل النظام يمنع مسح آثار “العدوان الفلسطيني” على مصر؟
حان للقيادة المصرية أن تعلم أن لها قدراً فلسطينياً لا فكاك منه، مهما طال زمان الانسحاب من هذه المسؤولية. وان تصوير الاشتباك وكأنه بين مصر و”حماس الإيرانية” مبسّط وبدائي. ماذا لو انتهت “حماس”؟ هل ستنتهي القضية الفلسطينية أم أن حماساً أخرى ستظهر في وقت لاحق وباسم مختلف؟ أليس هذا ما فعله ياسر عرفات بعد حرب العام 1967 حين أخذ بالقوة المسلحة في مواجهة إسرائيل شرعيته من كل العرب؟
لا ضرورة ولا مبرر للاستنفار الوطني المصري تحت شعار “مصر أولاً”. فهي أول العرب والأولى في المسؤولية عن الحق الفلسطيني. ولا أحد يطالب الجيش المصري بالهجوم على اسرائيل. وبدلاً من عقد المؤتمرات العربية لدعم السلطة الفلسطينية، لماذا لا تعقد مؤتمرات مواجهة سياسية مع الإدارة الأميركية لإلزام الحكومة الإسرائيلية بتنفيذ الاتفاقات المعقودة فتسلم السلطة الفلسطينية ويبقى مبرر حركتها على الأقل؟
بين مصر واسرائيل اتفاقية سلام تحد من القدرة المصرية على اتخاذ خطوات علنية دبلوماسية وسياسية في مواجهة اسرائيل، على حد النص الرسمي المصري. ولكن بين تركيا العضو في الحلف الأطلسي وإسرائيل تعاون عسكري يتجاوز بكثير العلاقات الدبلوماسية. ومع ذلك فإن الرسميين الأتراك لم يرتبكوا في إدانة إسرائيل ولا في نصرة الشعب الفلسطيني في حقه ولا في إدانة “حماس”بارتكاب أخطاء في سياستها أيضاً.
كذلك الأمر بالنسبة إلى السعودية. لا أحد ينكر صفاء عروبة الملك عبد الله بن عبد العزيز. وهي الصفة التي احتفظ بها طوال أكثر من نصف قرن من العمل العام. وهو بالتأكيد يعني ما يقول في كل مرة يعلن فيها عن موقف بلاده من الصراع العربي ـ الاسرائيلي. لكن مبادرته السلمية الموضوعة على الطاولة الدولية دون استجابة منذ 7 سنوات هي المبادرة السعودية الثانية خلال 28 عاماً. الأولى التي أعلنها ولي العهد الأمير فهد آنذاك في العام 80 في قمة فاس. والثانية هي التي أعلنها العاهل السعودية حين كان ولياً للعهد في بيروت في العام 2002.
يقول المعلق توماس فريدمان في “النيويورك تايمز” الأميركية ان لا الادارة الاميركية السابقة ولا الحكومة الاسرائيلية بنت سياستها على مبادرة الملك عبد الله. وإذا لم يفعل هؤلاء فمن سيبني عليها؟
الحقيقة الرابعة هي أن الحديث عن ايرانية حركة “حماس” مبالغ به وغير واقعي. فهي حركة إسلامية وجزء من تنظيم الأخوان المسلمين الدولي المنتشر، حيث هناك مسلمون. وفي الحركة مؤمنون، جهاديون، على حد قول جمال خاشقجي رئيس تحرير جريدة “الوطن” السعودية. وليس الآن وقت النقاش حول اسباب ومبررات العلاقة بين إيران والحركة الاسلامية. إن اعتماد عدم تنفيذ “حماس” لاتفاق مكة مفصلاً سياسياً وحيداً للحوار معها ليس عملاً سياسياً يأخذ في الاعتبار تطورات السياسة الاسرائيلية. هذا لا يلغي “خفَّة دعوة” الأمين العام لحركة “حماس” إلى إلغاء منظمة التحرير لمصلحة هيكل سياسي جديد متجاهلاً آلاف الشهداء ونضال شعب لمدة 60 سنة تجسد في اعتراف دولي وعربي بهذه المنظمة ممثلاً للشعب الفلسطيني. الحل الواقعي هو إيجاد صياغة مشتركة بين فشل السلطة في انتزاع تنفيذ حل الدولتين وبين حركة سياسية ترى المواجهة العسكرية الحل الوحيد المتاح عملياً للصراع مع إسرائيل دون حساب “للأرباح والخسائر” الذي تدعو إليه مصر.
الحقيقة الخامسة: هناك دور تركي ينمو بسرعة في الشرق الأوسط. استطاع هذا الدور أن ينتزع جزءاً من شرعية المسؤولية عن الفلسطينيين خلال وقت قياسي من خلال مواقف مبدئية. كما أنه أعلن جهاراً رفضه للرغبة الإيرانية في تطوير نووي لقدراتها. مما يجعل هذا الدور قيمة إضافية إلى المجموع العربي العاجز وحده عن التصدي للعنوانين الأساسيين في المنطقة.
ميزة هذا الدور انه لا يسعى للمواجهة بل لوضع حدود لشروط التفاوض سواء مع اسرائيل او مع ايران. الخيار الآخر العربي هو الاستمرار في الشكوى من دور ايراني متقدم يعرضه الغرب في سلة حوافزه على ايران ولا تزال القيادة الايرانية تدرسه منذ أشهر.
***
الوقائع السابقة والحقائق اللاحقة تؤكد عنواناً واحداً للشرعية العربية وهو الحق الفلسطيني في دولته، حتى لو كانت نصف دولتين. من يملك ترف الرفض عليه ان يراجع جدول أعمال القيادة المصرية منذ سنتين، بعد ثلاثين سنة من الانكفاء.

**أتيح للكاتب في الأشهر الأخيرة أن يزور كلاً من عمّان، جدة، اسطمبول، القاهرة، باريس. وهذا بعض ما عاد به.