فلسطين دائماً .. ماذا عن لبنان ؟ ( 2\1 )

مقالات 17 مارس 2008 0

أتلقّى، في كل مرة أكتب فيها عن المشروع الايراني والقوى المتحالفة معه في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، اتلقّى ثلاثة نماذج من التعليقات سواءً عبر الرسائل الالكترونية أو خطياً لا زال هناك من يكتب! او شفهيا.
النموذج الأول يستحسن ما أكتب مؤيدا مضمونه باعتباره استنهاضا لعصبية مواجهة لانتشار المشروع وأهله.
النموذج الثاني يجد في الأسطر موضوعية لا يتوقّعها، ويناقش أصحابه متسائلين عن الهوية السياسية للكاتب التي تجعلهم في حيرة.
النموذج الثالث يعترض، ويصل في اتهامه الى الحدود القصوى فيتحدث عن عمى البصيرة الذي يسبّبه الانحياز. لهذا النموذج أقل عدد من المعلّقين.
حدث ذلك في نهاية العام 2005 حين كتبت عن ايران بين بائع السجاد وصانعه في حلقتين اشرت فيهما الى نهاية الثورة وتحوّلها الى مشروع يتقدّم في مختلف الدول العربية، حاملاً العلم الفلسطيني يشق الطريق أمامه، في مواجهة تراجع رسمي عربي عن تحقيق أي تعديل جدّي للخريطة السياسية للمفاوض الاسرائيلي.
تكرّر الأمر تعليقا متنوعا في الاسبوع ما قبل الماضي حين تناولت المواجهة السياسية بين الشرعية العربية الرسمية وبين المشروع الايراني .
ما بينهما اي بين التاريخين تناولت الغياب السعودي عن السمع السياسي الجديد على المنطقة العربية. لكن التعليقات بقيت على ولائها لما قرّرته منذ سنتين وأشهر قليلة، فلا المستحسن غيّر رأيه ولا المتردّد حسم أمره، ولا المخاصم تراجع عن اتهامه.
هنا، محاولة متأخرة وليست أخيرة لتناول هذه المواجهة بين الشرعية والمشروع بما تستحقه من متابعة. اذ لا يمكن لمتابع موضوعي ان يتجاهل ولو أراد أن المشروع السياسي الايراني حقق في السنوات الثلاث الاخيرة تقدماً في انتشاره في مواقع النزاع العربي الاسرائيلي ونقاط النزاع العربي العربي. حصل المشروع على جائزته الكبرى بانضمام حركة حماس الفلسطينية الى مشروعه، فصار العلم الفلسطيني عنوانا لهذه السياسة بصرف النظر عن الخلاف داخل الفلسطينيين حول السلطة المفاوضة والمقاومة المستمرة في رفضها للحوار ونتائجه غير المحققة. وسقط في الوقت نفسه جزء كبير من الاتهام بمذهبية الانتشار المنتمية الى دولة الرعاية الشيعية الاولى من حيث العدد في العالم.
ولا يمكن للموضوعية ذاتها الا ان تلاحظ ان التجاهل الرسمي العربي لسنوات طويلة وتردد النظام العربي ولو لسنوات اقل، سرّع في وضع الحقائق بأصعب صورها أمام النظام العربي الواحد، في وقت تعاني فيه من عجز واضح في القدرة الاميركية على تغيير جدي في السياسة الاسرائيلية. لم تثمر المبادرة العربية للسلام التي طرحها العاهل السعودي عبدالله بن عبد العزيز حين كان وليا للعهد في قمة بيروت في العام .2002 ولا أضاف الى المبادرة تأكيدها في قمة الرياض في العام 2007 أي جديد .
صحيح أن المبادرة ساهمت في مرحلة طرحها الاولى في تحسين الصورة العربية الراغبة في السلام امام الدول الغربية بعد ان وسمت احداث ايلول في نيويورك صورة العربي بالارهاب، لكن هذه كانت المهمة الثانوية للمبادرة بينما الهدف الرئيسي منها لم يتحقق ولو جزئيا. الاهم ان هناك قوتين اسلاميتين تتنازعان العلم الفلسطيني، الاولى تملك الشرعية والغالبية العظمى من المنتمين الى انظمتها والثانية تعمل على مشروعها وتنتشر بحلفائها منتصرة بالحركة عكس التيار الاميركي العاجز والاسرائيلي المتجاهل والعربي المتردد. القوة الاولى التي تنتسب الى الغالبية العظمى ترى في المشروع تهديدا لاستقرار مجتمعاتها الذي بدأ في بعض الدول يأخذ شكل الانقسام السياسي والاجتماعي وحتى الديني. الحقائق في الموضوع الفلسطيني تأتي لاحقاً.
أما المشروع وانتشاره وأهله فأنهم يرون انها الفرصة السانحة لهم للتقدّم ما دام غيرهم لا يستطيع التقدّم ولا يحقق ما يواجه به جمهوره من انجاز في النزاع الفلسطيني الاسرائيلي.

اسابيع قليلة تفصلنا عن الذكرى الستين لاحتلال فلسطين. وما زال الحق الفلسطيني في أرضه الكاملة او المجتزأة هو الاساس السياسي لأي نظام في المنطقة وهو المشروعية لأي حركة سياسية تريد ان تقدّم نفسها مختلفة عن مشروع الدولة فيها. حاول الكثيرون غير ذلك فلم ينجحوا. مرّت السنوات عليهم وهم يعلّلون ويبرّرون وينتظرون ويحددون مواعيد التغيير في الموقف الاسرائيلي. لم يحدث أي شيءٍ مما وعدوا به ولا حاولوا حتى مجرّد محاولة العمل على التغيير في موازين القوى العسكرية لعلّ وعسى. صار الأمن الداخلي للنظام هو قاعدة التحرك ومبرر التسليح وحجة التجنيد. ما عدا ذلك ليس على جدول أعمال النظام. كأنه غير قادر على النجاح او أنه معادٍ له .
لا ينقص المشروع مساوئ الانظمة في تصرفه السياسي الداخلي ولا في سوء إدارته لما بين يديه من مقدّرات. المهم ان يبقى العلم الفلسطيني بين يديه ولو إلزمه ذلك بتخوين الآخرين من منهم على خطأ ومن كان طبيعياً مقتنعاً بما يفعل.
الاجتهاد في هذا المجال صعب ومعقد أكثر من ظاهره. من أين لك الشجاعة للدفاع عن سياسة رسمية لا تنفع ولا تجدي. الا ان عنوان الاستقرار فيها مغر ومقنع لمن يريد حياة طبيعية فيما تبقّى من سنوات عمره ويعتقد انه يعمل لاستقرار ما بعده من اولاده. وكيف تأتي بالقدرة على مواجهة مشروع المعلن منه يحقّق الانقسام في المجتمعات العربية، الا انه يحتمي بتجربة عسكرية لم يستطع الجيش الاسرائيلي الاقوى في المنطقة الغاءها او التأثير على صمودها ومقدرتها القتالية في لبنان وفلسطين. الخيار هو بين اثنين: اما ان تمشي بسياسة المواجهة التي لا تبقي ولا تذر خاصة في بلد حساس مثل لبنان يصح اعتباره ميزان حرارة المنطقة. وتسعى الى من يناصرك في سياستك الصدامية فتكون راهنت بما لك ولغيرك من الناس دون اختيارهم. واما ان تستنهض قوى سياسية عربية تجرّها الى ساحة المواجهة لتخلق ميزان قوى يساعد على تحقيق تسوية في ظرف ما خارجي او داخلي.
ما كتبته وقلته حتى الآن يراد منه الخيار الثاني. فلا النخب العربية تحتمل الانسحاب العربي الرسمي امام مشروع لم تتحدد نتائجه بعد ولم تظهر اضراره كاملة. ولا الجمهور المؤمن الذي يزداد تاثيراً يحتمل انفراط مشروع يقاتل في سبيل فلسطين، فيرتد الايمان الى الداخل ليفعل بنا وبالانظمة ما لا نتحمّله.
****
ما يشهده لبنان اليوم هو الصراع بين هذين الخيارين. القيادة السياسية لحزب الله تتصرف على قاعدة انها تمثّل ايديولوجية دينية سياسية لها نظام عسكري وأمني وتابعة لمرجعية دينية سياسية تؤمن لها احتياجاتها التسليحية والمادية وتكلفها شرعاً بما تقوم به من تحضيرات دائمة لقتال اسرائيل المعتدية في الغالب من المرات والمرشحة بعض احيان للوقوع في فخ قتال من جانب آخر. لم يحدث الامر الثاني في حرب تموز ,2006 فقد اعترف الاميركيون ان القرار اتخذّه نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني ونفذته اسرائيل دون نجاح.
نقاط الضعف في المشروع هي نفسها عناصر القوة، فللمشروع هيبة معنوية كبرى اقليمية يحققها من خلال بقاء وضعه على ما هو عليه في الداخل الايراني لا أكثر ولا أقل فتصبح له اليد العليا في قرار النفط العربي. بينما استمرار التحالف مع سوريا و حزب الله في لبنان يضع المشروع على خطوط التماس مع الأمن الاسرائيلي فيتناوب الحزب مع حركة حماس الفلسطينية على تحريك الملف الامني الاسرائيلي بالتنسيق فيما بينهما، تأخذ بعين الاعتبار الحركة العسكرية عناصر القرار الايراني مرة والسوري مرّات. هذان العنوانان هما الأهم في الشرق الاوسط، لذلك فإن التصدّي لهذه الرغبات كان وسيكون بقدر حجمها الاستراتيجي.
نقطة الضعف الاستراتيجية الاخرى ان الحليف السوري يتصرّف باعتباره صاحب الحق والحرية في التصرّف بما يناسب سياسته. ويكفي الآخرين ما يعطيهم اياه في مناطق الازمات. الأهم بالنسبة للقيادة السورية التأكيد دائماً ان القرار في لبنان لدمشق بالتشاور مع الحلفاء، كما هو القرار في العراق لايران بالتشاور مع الحلفاء. هذه القاعدة سارية المفعول. والا فما هو تفسير السكوت عن ما جاء على لسان رئيس الوفد الاسرائيلي المفاوض لسوريا ألون لايل من ان المحادثات الاسرائيلية السورية المباشرة مستمرة منذ العام 2004 حتى نهاية العام 2007 عبر وساطات مختلفة بينها تركيا.
كيف يمكن لقيادة حزب الله او حتى كيف للقيادة الايرانية ان تعترض على ترويقة لبعض السياسيين اللبنانيين مع وزير الخارجية الاميركية في سفارة بلادها، فتتّهم المدعوين بالخيانة بداية وتكمل على سمعة اهلهم. بينما تتغاضى عما نشر وأشيع ويشاع عن الحوار الاسرائيلي السوري المباشر طمعاً وتأميناً لخط امداد يستحيل استبداله.
كيف تستطيع قيادة الحزب ان تنتظر بيئة صديقة وآمنة في حال حدوث اي عمل عسكري اسرائيلي وهي اتهّمت رئيس الحكومة والقوى السياسية المتحالفة معه بما لا يشجّع احدا من بيئة الرئيس السنيورة تسهيل مهامه لو أراد التصرّف بمنطق قومية عربية يصر على انها عقيدته.
كل الاتهامات منذ العام 2006 استندت الى معلومات صحافية أجنبية لا يستطيع احد تأكيدها ولا نفيها طبعاً. مع ان معظمها مخالف للمنطق البسيط. يتعرّف وزير سابق يهوى العمل المخابراتي في منزل رجل اعمال من اصل سوري في جنوب فرنسا. يرتّب له المواعيد في دمشق التي تحضّر له الرواية الموثّقة عن طريق الاجهزة ويلتقي في بيروت بمن التقاهم فينشر الموضوع باعتباره مضبطة اتهام وليس فخاً سياسيا محّضراً بدقة امنية .
???
لم تعد قيادة حزب الله مرتبكة بما نسجته من علاقات عربية او دولية خارج تحالفاتها. بل أصبحت أكثر عدائية من اي وقت سابق. قيادي في حزب الله صرّح بالأمس في نشرة Now Lebanon ان دولة عربية يقصد بها السعودية تعمل لقلب النظام السوري. وهو كلام مكرّر مأخوذ عن افتتاحية موقع الحزب. عندما تصل الأمور الى هذا الحدّ من التهوّر بتجاهل الاعتراف العربي الاول من عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي في ذلك الحين بحزب الله من خلال لقاء رتّبه لنوّاب الحزب معه الرئيس الشهيد رفيق الحريري. عندما تصل الامور الى هذا الحد تصبح المفردات انقلابية وليست سياسية، فلا يعود مفاجئاً لأحد بعد الآن ان لا يقف أحد من الرسميين العرب الى جانب سياسة حزب الله ولو بالمبدأ أو سعيا لتسوية.
تصح سياسة المفردات الانقلابية هذه لو كانت ايران على الحدود اللبنانية وليست سوريا التي لها من المصالح ما يجعلها تذهب في كل الاتجاهات لتحقيقها.
بماذا تجيب رجل لبناني في الخمسين من عمره، أمضى ما يزيد عن نصفه بقليل في هذه الجهة أو تلك وتطلب منه ان يستمر مع أولاده في الصراع، وحده دون حليف على حدوده يشاركه قتاله ؟ النصيحة الوحيدة التي تستطيع توجيهها للوالد هي ان يسعى لسفر اولاده الى الخارج لتكون سنوات عمرهم أحسن من سنوات عمر والدهم. هذا ليس صراعاً مذهبياً ولا هو اشتباك سياسي. هذا عنوان يتعلّق بقدرة الناس على استمرارهم في الحياة التي ارتضوها. هل يستطيع الحزب تسويق منطق الجبهة المفتوحة المنفردة سلماً وحواراً، بين أهله، دون جمهور الآخرين ؟
****
لقوى الرابع عشر من آذار مشروع أوضح. يريدون بناء دولة غربية الثقافة ولبنانية عدائية في انتمائها. تلتزم ما تتفق عليه الدول العربية وتنأى بنفسها عن الخلافات العربية. باختصار ترفض هذه القوى ان تكون دمشق هي الحدود السياسية للبنان. لا الخارجية منها ولا الداخلية. خاصة بعد الخروج العسكري والأمني السوري من لبنان. ورفضهم الاعتراف ببقاياه السياسية. هذا المشروع مخالف للتاريخ والجغرافيا. لكن سوريا الدولة القوية المتماسكة المركزية تتصرف في لبنان على انها مماثلة لاي طرف لبناني يقوده فرد مهما بلغ حجمه لا يتعدى اطار طائفته الجغرافي. فكيف يمكن لتسوية ان تتماشى مع هذا الاسلوب من التفكير ؟ ساهمت السياسة السورية المغامرة في ان يظهر زعيم شاب في الرابع عشر من شباط، الذكرى الثالثة لاغتيال الرئيس الحريري. فقد استطاع سعد الحريري ومعه حلفاؤه طبعاً ان يثبت ان جمهور والده على عهده ووعده بعد ثلاث سنوات فيها القليل من الانجازات العنيدة والكثير من الاخفاقات.
ليس غريبا ان تدعم الادارة الاميركية هذه السياسة ولا ان تشارك دول مثل السعودية ومصر والأردن في ادارتها السياسية. مع العلم ان وليد جنبلاط يكرر دائما ان الادارة الاميركية لم تقدّم عمليا الى حلفائها في الصراع اللبناني الا الدعم في مجلس الامن لانشاء المحكمة الدولية المختصة باغتيال الرئيس الحريري. وان المسؤولين في وزارة الخارجية الاميركية سمعوا من سعد الحريري كلاماً حول سياستهم في المنطقة جعلت المحيطين به وبجنبلاط يشعرون بالخطر عليه فينبّهونه الى عدم التمادي.
****
أما القيادة السعودية فتريد من انتشارها ثلاثة امور: الاول عدم السيطرة الايرانية على السياسة اللبنانية عبر الحلفاء، الثاني خلق توازن قوى في الداخل يسهّل التسوية حين يأتي أوانها، الثالث هو ضبط الفتنة المذهبية بالتشاور والتنسيق مع الايرانيين وهو ما حدث فعلاً.
ماذا عن الامرين الاول والثاني ؟
هناك في دمشق من يعتبر ان المغامرة السياسية لقيادته في حدّها الأدنى تصل الى تعديل اتفاق الطائف. اذ ان الضوابط السياسية لهذا الاتفاق هي التي حققت الخروج العسكري السوري من لبنان. ولولا هذه الضوابط لما كان في لبنان من يستطيع دعم مثل هذا القرار فكيف بأخذه استناداً الى قرار مجلس الأمن 1559 . ولا كانت المحكمة الدولية أقرت بصيغة الفصل السابع الملزم دوليا للدول بالتعاون.
أما في بيروت فهناك أفكار متداولة لدى قادة سياسيين من الطائفة الشيعية تقول ان اتفاق الطائف بتوازناته الحالية لا يستطيع حماية سلاح المقاومة. لذلك لا بد من تعديل في موازينه يحقق لهذه القوى المسلحة أمانا رسمياً. في الجانب المسيحي هناك ايضاً من يعتقد بدعم من العماد عون ان اتفاق الطائف أقرّ في الوقت الذي كان فيه الصدام المسيحي على أشدّه في حرب الالغاء بين القوات اللبنانية والجيش اللبناني. لذلك حان الوقت لاستعادة بعض ما أخذ من صلاحيات رئيس الجمهورية. حتى لو كلّف ذلك ظهور تحالفات مسيحية مخالفة، ان لم تكن معادية، للانظمة العربية.
***
كل هذه الوقائع تجعل من التسوية الداخلية مسألة مستحيلة التحقيق. من يستطيع تمتين السلم الأهلي يكون ساهم في حفظ الوطن المعلّقة دولته حتى اشعار اقليمي.
هل هناك من يسأل عن انتخابات رئاسة الجمهورية ؟

(في الحلقة المقبلة: فلسطين دائماً.. قمة الثلث زائد واحد؟)