فرحة المدينة..

مقالات 23 أبريل 2007 0

بيروت هي المدينة العربية الوحيدة التي يعرف سكانها جميعاً، مسلمين ومسيحيين، مبكّراً، باقتراب شهر رمضان، من دون الحاجة إلى قراءة الصحف أو سماع النبأ من الإذاعة أو التلفزيون.
تنتشر الزينة في شوارعها معلقة على أعمدة الكهرباء، مزيّنة النهار بألوانها، مضيئة الليل بفرحتها. فوق ذلك عبارة لكل عام يحفظها كل من يقرأها ويتداولها أينما ذهب.
صاحب الإمامة في هذا التقليد الجميل هو محمد بركات. بعد ان تقول اسمه لا يعود لصفته استفسار، إذ إنه كما يقول عنه العرب حين يلتقونه في المؤتمرات المتخصصة، حقّ الأيتام .
اختار له العرب ما يليق به من الألقاب. فقد جعل هذا الرجل لحياته في السنوات ال45 الماضية هدفاً واحداً ووحيداً وهو حق الأيتام في حياة تغسل عنهم هذه الصفة وتجعل لسني حياتهم مستقبلا مماثلا لغيرهم.
عرفتُ محمد بركات من شوارع المدينة الرئيسية، حين أرسى فيها تقليد الفرحة الدائمة للمدينة في كل رمضان من كل سنة، وكتب لبيروته عنواناً متجدداً في كل رمضان. وإن كنت تعرفت إليه قبل ذلك في منزل الرئيس تقي الدين الصلح، كما في زياراته المتعددة للرئيس الشهيد رفيق الحريري.
ربما يكون من السهل على من له خبرة، أن يتميز بإدارة مؤسسة مثل دار الأيتام، أو أن يقدر على تطوير ما بين يديه، وهو قليل، إلى ما هو أوسع وأكثر انتشاراً وأكبر قدرة على تقديم الخدمات لمن يحتاج اليها. لكن الأصعب، وهو المميز لدى بركات، أنه صاحب رؤيا في الخير. اخترعها واعتمدها ونجح فيها حتى صارت ملاصقة لشخصه ولسمعته.
رؤياه قائمة على جعل عمل الخير فرحة للمدينة، وعلى اعتبار الأيتام عنواناً للبهجة بعد أن كانت لقرون سبباً للحزن. وعلى القدرة على ان للمسلمين تفوقا يستطيعون فيه مقارعة الأجانب في رقي أساليب مؤسسات الخير.
حين يتحدث بركات عن دار الأيتام يجعل الاغنياء يشعرون بالتقصير ما لم يقوموا بواجبهم على أكمل وجه. وعنده لكل متبرع قياس وألوان وعنوان. ما على الغني إلا أن يسأل حتى يقع فريسة الاختيار بين الألوان والعناوين والمنتجات الهندسية للمحافظة على جمال المباني القديمة والمطورة لاستعمالاتها، فيخرج المتبرع راضياً، مبتسماً، شاكراً لبركات أنه أتاح له فرصة القيام بالواجب. يتصرف دائماً على أنه قادر على الاستغناء عن متبرعيه الكبار باطمئنانه إلى الطيبين الصغار الذين يجمعون ما تيسّر لديهم من قدرة على الخير فيأتون به إلى دار الأيتام في رمضان فرحين بما قدّرهم الله عليه.
يتجاوز دائما الحاجة إلى المال العربي مهما كثر، فهو يستند إلى بيروتيته في الخير مهما انتشرت الدور وعلت مداميكها على الأرض اللبنانية. لو أتاه خيّر عربي لوضع أمامه ما يستحلي من منتجاته الهندسية الملوّنة وما عليه إلا أن يختار. لكن هذا الخير إن أتى فهو ليس في أساس ميزانيته ولا في اطار خدماته.
خلق بركات للغني حاجة إلى دوره في دعم دار الأيتام. وجعل من اليتيم فرحة لمن يراها في افطارات رمضان تدور حوله بألوانها وبهجتها وابتسامتها، فلا يجد غير دمعة الفرح على باب العين. يستطيع البيارته الكبار أن يعتذروا عن دعوات الإفطار المتكررة في شهر رمضان، ما عدا دعوة دار الأيتام، فمن غاب عنها كأنه غاب عن الخير في مدينته، أو كأنه رفض دعوة يتيم. صار لدار الأيتام 46 عنواناً كما يقول، أو يقال عنه، أو كما ورد في سطر شارد من صفحات كتاب “إرادة بلا هوادة” المسجل بفوضى ليست من طبعه سيرة محمد بركات. لكنّ لبركات عنوانا واحدا لم يتغير منذ 45 سنة، في المبنى الأم القائم خلف مستشفى المقاصد، جعل منه عنواناً للخير بعد أن تربينا على أنه مقرّ للحاجة.
عينه البيروتية تنافس عين الخير في وجهه، فيدخل عقله القومي العربي على الخط ليجعل منه كتلة متماسكة فيها من الثوابت ما يكفي المدينة والخير فيها وهويتها العربية أيضا. لم أر مرة فيه استسلاماً لإحباط ولا قبولا لخطأ ولا تباسطا مع تاريخ. حين يتحدث عن بيروت وهو يفعل ذلك دائماً يجعلك تراها بعينيه، مضيئة، محبة ومنفتحة. تسكنها الحضارة والفنون. قلعتها الحرية. موئلها الفكر المتسع الآفاق. إذ إنه، كما قال عنه الزميل عبيدو باشا، القادر على ضخ التفاؤل دفعة واحدة، قبل ان يضخ فينا نهر الحياة. هي قدرة ابن ثقافة البحر الابيض المتوسط المازجة الاغواء بالقسوة .
عنده الكثير من العناوين للتكريم. لكنه اختار النادي الثقافي العربي عنوانا لكلام يقوله، ولأوصاف تقال عنه. في اختياره للنادي الثقافي ولمناسبة معرض بيروت للكتاب العربي موعدا للكلام، عبّر محمد بركات عن نفسه بأوضح ما يريد ان يعلن: أنه ابن هذه المدينة. جليس ثقافتها. ممسك بعروبتها التي تجمع أحسن ما فيها تاريخا وحاضرا. جعل من الخير عنوانا ثقافيا. الثواب فيه كثير لمن كتب، ولمن قرأ، ولمن أكد عروبة مدينته.
ذهبت الى قاعة تكريمه في معرض الكتاب العربي فسمعته مازجا في كلمته بين المدينة والمجتمع والخيّرين والمعاونين وعيون الاطفال اليتامى، فما عدت أعرف ما إذا كان يتحدث عن عمله، أم يكرّم مستمعيه، وفيهم البيروتي والمثقف والمعاون والوجهاء، على حد وصفه لهم.
استمعت إلى كلمات تكرّمه. وجدته فيها، لكنني لم أجد رؤياه في فرحة المدينة، فكتبت عنها لأذكّره بها!