فراشـة.. مـن المنـزل إلـى القلـب…

مقالات 09 فبراير 2009 0

أعلنت غرامي عليها مبكراً. كانت قد تجاوزت السنة الاولى من عمرها حين اصطحبتها والدتها معها الى بستان فيه الكثير من الألوان. مصاطب ورد عمرها عشرات السنوات ما زالت على زينتها ورائحتها الفواحة. اضافت والدتها الى ورود “بستان أهلها” فراشة تحميها وتحنو عليها كما الحنو على أوراق الورد من العاصفة.
حدث ذلك في العام 82 حين اجتاح الجيش الاسرائيلي لبنان وتجاوز الجنوب قادماً الى بيروت، فارتد لبنانيون الى خلف خطوط القتال طمعاً بالأمان.
أنا في بيروت بين الفندق والصحيفة حيث “أقاوم” شفهياً وخطياً. أنام أحياناً على لفائف الورق العريضة في مطبعة الصحيفة لتظهر الصورة المأخوذة على “غفوة” في كتاب عن “النهار” لاحقاً. وهي في الجنوب “تثأثئ” بين يدي والدتها. او هكذا تصوّرتُ بكر أولادي في تلك الأيام الحالكة السواد.
تركت الفندق ذات ليلة الى منزلي المواجه للبحر. وقفت على الشرفة اتطلع الى الشاطئ. فجأة لمع في ذهني أنني وفراشتي على البحر نفسه ولو على بعد عشرات الكيلومترات. كتبت لها رسالتها الأولى لأقول “إنني اتنشق رائحتها في موج البحر. وان شوقي إليها أعمق من أعماق المياه”.
استمرت قصة غرامي بها سنوات لا اعرف لها عدداً اذ انها لم تنته بعد. طفلة احملها ليلاً، امشي بها في رواق المنزل الصغير. اهدهدها واسمع في بكائها لحن غناء العصفور. ذهب قلبي معها الى المدرسة في أيامها الاولى، مع ان لا منافس لوالدتها في القلق، اذ انها لو استطاعت لسكنت على باب المدرسة، لولا ستر الله بعدم توفر شقة للإيجار مقابل باب المدرسة البعيدة مئات الأمتار عن المنزل.
حملت فراشتي ابتسامتها الدائمة معها الى كل مكان ذهبت إليه فجمعت حولها ولها اكبر عدد من الورود والأشواك أيضاً. كبُرت وصارت ألوانها تزهو فيها. حقّقت في دراستها أحلامي النائمة وأزالت هاجساً من ذاكرتي لا يمكن لغيرها ان يمحوه.
حرمني السعي في الأرزاق والركض وراء الشأن العام، من رؤيتها تتدرج نحو الصبا الكامل. كانت هي عنوان سؤالي الدائم والاول حين عودتي الى المنزل. لأجد في أجوبة والدتها المحيطة بها وبأخوتها، الكلام المطمئن.
عدت ذات مساء الى المنزل ورأسي مثقل بالحيرة. هل أنا في حاجة لرؤية طفولتها وصباها أم هي تريدني وأخوتها معهم أكثر؟ جلست إليها مناقشاً. حمّلتها وشقيقها مبكراً جداً مسؤولية الاختيار بين استمراري في العمل الذي يأخذ وقتي وجهدي وحتى ذاكرتي، لكنه يعطيهما ما يحتاجانه لحياة رغدة. وبين حياة مشابهة لحياة الكثيرين فيها الأب الدائم الحضور والمحدود القدرة.
قبِلت التحدي. ليس لرغبة زائدة في رغد الحياة. بل ـ كما قالت ـ لأنها تراني في عيون الناس وأسئلتهم عني كل يوم أباً قادراً على الحضور بين كل من تراه هي او تسمع منه. كذلك فعل شقيقها المتضامن معها دائماً ورفيق ضحكاتها ورواياتها. لم تكن هي المرة الأخيرة التي أحّملها فيها مسؤولية انشغالي الدائم ، إن صح التعبير، وهو هنا لا يصح. فقد استطاعت وشقيقها بنجاح باهر وهزلية تستعيرها من الشقيق وبحضن من الوالدة، أن تتجاوز ما تفضل عليّ به الأمن السوري من اتهامات ونفي الى الخارج لسنوات. ردّت على ذلك وشقيقها بتجاهل كل من حولهما، بحيث لا يتجرأ أحد على مواجهتهما.
برمجت تخصّصها الجامعي العالي في واشنطن على “وقع” الزمالة المرفهة لشقيقها في مؤسسة دراسات سياسية عريقة. ذكّرتها قبل السفر بجملة واحدة كررتها لها مرات عدة: “إنني أثق بك”، وتركتها تفعل ما تشاء وتشتهي.
حين شهدت حفل تخرجها في العاصمة الأميركية علمت ان رهاني على فراشتي كان زاهياً كألوانها. رأيت في قبعة نجاحها الجامعي المتقدم برنامجها الزمني المحدد بدقة. لكل تاريخ منه حصة من تحقيق الذات. تذكرت وهي تتمختر أمامي على ممشى الناجحين في جامعتها أنني استنفرت من أجلها وعليها ثلاث مرات فقط في سنوات طويلة.
الاستنفار الأول حين كانت طفلة تلعب مع من يهتم بها وبالمنزل. وضعت افريقية ظالمة يدها في النار لتمنعها من البكاء. أعلنتُ حالة الطوارئ في المنزل، وكان اليوم الأخير لوالدتها في العمل.
الثاني حين جعلتني انتظر عودتها متأخرة ذات مساء إلى المنزل، لعلمها أنني الغائب الدائم. فجعلتني اشعر بتقصير تجاهها لم يتركني لسنوات.
الاستنفار الثالث حين عدت متأخراً كالعادة إلى المنزل لأكتشف أن في بيتي “صبية”، تجيب على الهاتف بأعلى ما يكون من الحدة على من تجرأ على مخاطبتها بما لا تحب أن تسمعه. كبرت الفراشة وصلبت جوانحها.
عادت فراشتي إلى عملها في بيروت ليصبح دوري هذه المرة أن أسمع عنها، اينما حللت وكيفما ذهبت. كنت استغرب في شبابي المبكر حديث الأهل عن اولادهم. صرت أكثر ثرثرة عن أولادي ممن اشتكيت منهم في سرّي. خالفت في ثرثرتي ما كان ينبهني إليه رفيق الحريري الرئيس الشهيد، وهي عادة يتمسك بها أينما ذهب، أي عدم الحديث علناً عن تفوّق دراسي لولد من الأولاد خوفاً من الحسد.
أعلم أنني بالغت في كل ما سبق. لكن فراشتي أخضعتني في العام الماضي للامتحان الصعب. لبست فستانها الأبيض وجعلت من فرحها حديث المدينة. فعلت ذلك وحدها. ولو ان والدتها لم تقصر في الرغبة، لكنها ما استطاعت اللحاق بأحلام الفراشة. ولا نجحت أيضاً عمتها الصغيرة اللاحقة بها، أينما ذهبت لتحتدّ عليها مرة وتحبّها أكثر باقي المرات.
أعلنت الفراشة استقلالها في كل تفصيل من تفاصيل زفافها. جعلتني اشعر بداية بالخوف من التفاصيل. ثم القلق من المواقيت، فإلى الاطمئنان المبدئي. لينتهي الحفل وأنا اخبر كل الآخرين ـ حتى العارفين منهم ـ عن نجاحها في كل ما خططت ونفذت.
استعملت فرحة ابتسامتها في تجنيد كل من عمل معها ليلة فرحها، فصار عملهم تطوعاً.
داريت دمعتي المتقطعة مرة والمدرارة مرات وأمسكت بها بيديَّ الاثنتين متقدماً بها وببهائها بين الناس. لكنها أفلتت مني مطمئنة كعهدها… فراشة تذهب إلى أحلام ورودها. وجدت في سيمون “جنيناتي” قادراً على بهاء ألوانها.
جلست بأحلامها كما فستان فرحها الأبيض في حضن جدتها تستظل بغيمة الرضا الدائمة لنا جميعاً. صغيرنا حتى يكبر، مريضنا حتى يشفى، مشاكسنا حتى يهدأ.
خرجت “ثريا”فراشتي من المنزل إلى القلب، حيث ستبقى دائماً.
تجاور فراشة صغيرة تمشي وراءها مثل ظلها. صار “لديما” ألوان براعم ورد تستعجل تفتـّحها. وشقيق من “فصيلة الصقور المنقرضة” يفتش كل يوم عن فريسة لعقله المنظم فإن لم يجد يستعرض “شبوبيّته” متباهياً امام شقيقته الكبرى .
لمن سيتباهى الآن؟
هنا المشكلة.
نهاد ..